كتاب معالم الدولة الراشدة | حاكم المطيري
بين يدي الكتاب:
لم يزل حلم (المدينة الفاضلة العادلة) يراود خيال علماء الفلسفة والسياسة في أوربا، منذ وجد المجتمع ووجدت السلطة التي تدير شئونه، سواء قبل الميلاد ومنذ ألّف أفلاطون كتابه (الجمهورية)، وخطب بركليس خطبته عن الديمقراطية، أو بعد يقظة أوربا وصدور كتاب (فـي الحكم) لتوما الأكويني في عصر النهضة، أو (مدينة الله) للقديس أوغسطين، أو (مدينة الشمس) لكامبانيلا الإيطالي وحلمه بالجمهورية المسيحية العالمية، أو ما كتبه الألماني فالنتين في (مدينة المسيحيين)، أو فيما كتبه هنري مورلي في (الدول المثالية)، أو (قانون الحرية) لونستلي البريطاني الذي كان أقصى ما يحلم به؛ أن يتمكن الفقراء من زراعة الأراضي البور في انجلترا التي هي مملوكة للملك؛ كما نادى بقوله: (دع الشعب الذين يقولون الأرض ملكنا يعملوا معا ويأكلوا الخبز معا في الأرض المشاع)، ويقول: (وإن الحرية الحقيقية للمجتمع تكمن في الاستمتاع الحر في الأرض، فاحتكار الإقطاعيين للأرض هو العبودية)!
مرورا بما كتبه ماركس عن الاشتراكية في (رأس المال)، وهتلر عن القومية النازية في (كفاحي)… إلخ.
وما تزال أوربا وابنتها أمريكا تتأرجح سياسيا – وهي تعيش أزماتها المجتمعية – بين أقصى اليمين القومي المسيحي المتطرف، وأقصى اليسار الاشتراكي، أو الليبرالي الرأسمالي المتوحش؛ باحثة عن حلم المدينة الفاضلة!
إلا أن العالم الإسلامي ومنذ قيام الدولة في الإسلام في المدينة النبوية، ثم قيام الخلافة الراشدة على هديها وسننها وهي تمثل النموذج للدولة الفاضلة العادلة، فلم يشغل علماء الإسلام أنفسهم في بحث قضية (المدينة الفاضلة) التي ظلت حلما يراود العالم الغربي؛ بل أمم العالم كله، إلا العالم الإسلامي بعد أن ارتبط وجود الإسلام نفسه وظهوره بالدولة النبوية العادلة ثم بالخلافة الراشدة الفاضلة، التي كانت واقعا لا حلما، ودولة قارية تمتد جغرافيا امتداد أراضي الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية في آسيا وأفريقيا، وتحكم شعوبهما على اختلاف قومياتها وأديانها وثقافاتها، وليس فقط مدينة يونانية فاضلة؛ كما يحلم بها أفلاطون!
اللهم إلا ما كتبه الفارابي الفيلسوف الإسلامي و(المعلم الثاني) في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) و (السياسة المدنية)، الذي تأثر فيما كتبه في الفلسفة خطى أرسطو (المعلم الأول)، وفيما كتبه في السياسة خطى أفلاطون؛ فكان تعبيرا عن صدى تلاقح الفكر اليوناني بالثقافة الإسلامية أكثر من كونه تعبيرا عن الثقافة الإسلامية نفسها!
ومع ذلك يعترف الفارابي في “السياسة المدنية” بأن رئاسة الأنبياء الذين يوحى إليهم بما يحقق السعادة للإنسانية هي أكمل الرئاسات والسياسات؛ فيقول في ص23: (ورئاسة هذا الإنسان هي الرئاسة الأولى، وسائر الرئاسات متأخرة عن هذه الرئاسة وكائنة عنها… والناس الذين يدبرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار السعداء، فإن كانوا أمة؛ فتلك هي الأمة الفاضلة).
وباستثناء ما كتبه الفارابي في كتابيه لا يكاد يوجد في التراث المعرفي الإسلامي مع اتساعه وثرائه كبير اهتمام في (المدينة الفاضلة)، بقدر اهتمامه بوجوب الالتزام بسياسة الخلافة الراشدة والإمامة العادلة التي تقتفي أثر دولة النبوة العادلة، وتحذو حذو سياسة الخلافة الراشدة!
وإذا كانت نظرية “العقد الاجتماعي” لروسو فرضية حاول من خلالها تحديد طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، فالعقد والبيعة في دولة النبوة والخلافة الراشدة حقيقة واقعية؛ بل هي حجر الأساس الذي بناء عليه تحققت للدولة والسلطة في الإسلام الشرعية!
وهنا في هذه الرسالة المختصرة “معالم الدولة الراشدة”، تحديد لملامح الدولة الراشدة في الإسلام، ولمعالم النظام السياسي الراشد الذي يسوس شئونها، والأصول التي يلتزم بها ليتحقق له وصف الرشد من جهة، ويتحقق لها وصف الدولة الراشدة العادلة والمدينة الفاضلة من جهة أخرى، لعل فيه إجابة عن سؤال “الثورة العربية” الذي ما زال يبحث عن طبيعة الدولة التي يجب أن تقوم على أنقاض الدول الوظيفة وما هو البديل!
والله الهادي إلى سواء السبيل..
التعليقات مغلقة.