الإستبداد وأنواعه

315

فيصل لعيبي صاحي
الحوار المتمدن-العدد: 1834

ينطبق تعبير الثيوقراطي ( حكم إلهي-Theocracy ) على شكل الحكومة الدينية لكنه يختلف عنها عندما يتصرف أتباع هذا الدين او ذاك أو الحركات السياسية التي تتخذ من الدين شعارا لها , وكأنها تمثل حكم الله على الأرض , فالعبارة قد تعني أيضا : الحكم لله أي هو الذي سيقرر في محاكمة عامة مصائر الناس يوم الحساب .
وكانت اول مناداة لهذا الحكم في الإسلام أيام معركة صفين بين الخليفة الشرعي الإمام علي بن أبي طالب و أتباع معاوية ، إذ رفع جيش معاوية المصاحف ، ودعوا الى حكم الله في الخلاف، ومع ان عليا كان واعيا للخدعة، إلا انه رضخ لرأي أتباعه الذين ضجوا وطالبوه بالقبول , لكن ما معنى الحكم لله ومن يستطيع ان يقرر ذلك خاصة بعد غياب النبي والوحي معا ؟
كان الخضوع لهذه اللعبة قد كلف الأمة الإسلامية صعود بني أمية لسدة الحكم ، ومن ثم قيام النظام الملكي الوراثي , الذي ذمه القرآن بآية شهيرة عن الملوك ولو أن الوراثة في الحكم قد سنها بنو هاشم من خلال وراثة الحسن لأبيه علي بعد إستشهاده.
هل أنتهى الحكم الأسلامي بنهاية خلافة علي ، الذي حذر صاحبه أبا موسى الأشعري من المجادلة بالقرآن مع عمر أبن العاص صاحب معاوية ؟ , إذ ” أن القرآن حمال أوجه ” , وإذا كان علي لايرى في تحكيم القرآن في الأمور السياسية من فائدة,وهو الذي وعى كل آية وسورة ومتى نزلت وأين ولماذا كما تنقل كتب التراث عنه فمن يجرؤ اذن- من أتباعه او مناصريه أم خصومه من الذين هم ادنى درجة منه بمراتب – في التبحر بكتاب ربه ونبيه من الإقدام على مثل هذه الفعلة ؟, فالمعروف بعد ذلك هو عدم تمسك الخلفاء المسلمون بماكان متبعا عند الخلفاء الأربعة الذين ورثوا الحكم من بعد النبي . وإذا إستثنينا ابابكر وعليا اللذان أنتخبا من قبل الجمهور فإن عمر وعثمان كانا من المعينين من قبل مجموعة ضيقة جدا من جمهور المؤمنين والحق ايضا يوجب ذكر أن عليا إرتضى ما قرره جمهور المسلمين آنذاك ولم يقف ضد مشيئتهم وهو أول حاكم مسلم جاء برغبة رعيته وذهب برغبتها كذلك إذا إعتبرنا التحكيم شرعيا .
وإذا كان في زمن الخلفاء الراشدين وفي المدينة عاصمة المسلمين الأولى من هم في عداد الجائعين في عز سيطرة وانتشار الإسلام على المنطقة الشاسعة التي تمتد من اليمن حتى دمشق ومن فارس حتى تونس , مع تلك الأموال الطائلة التي كانت تأتي إليهم , فكيف يمكن تحقيق العدالة في اطراف هذه الأمبراطورية ؟؟ ، خاصة بعد أن عرفنا أن معظم عمال وولاة الخلفاء هم من الفاسدين ، والذين أثروا على حساب اليتامى والأرامل والجائع المسكين وأبن السبيل حتى أن بلال الحبشي قد ترك وراءه ملايين الدنانير كما تذكر كتب التراث عنه ؟
لقد قتل ثلاثة خلفاء راشدين بسبب السلطة والسياسة وليس لعدم تدينهم او إيمانهم برب القرآن .
نشأت الثيوقراطيةمع أنقسام الناس الى طبقات وفئات غير متساويةفي الحقوق والواجبات وتسلط بعضهم على بعض . وكانت اهم حجة لهذا التسلط هي وجود قوة خارج نطاق الأرض والبشر تتحكم بمصير الناس والأشياء والطبيعة والكون كله , ونشأ من خلال ذلك ممثلون لهذه القوة كانت لهم صلة بها كما يقولون ، وهكذا كان تصور الفراعنة ، او بالأحرى رجال الدين القدماء في مصر لعلاقة الفرعون بالآلهة . فهوإله أو نصف إله وأبن إله ،ولم يختلف الملوك العراقيون القدماء عن أقراتهم في مصرفي ذلك، وأستمر مع المسيحيين الذين لايزال العديد منهم يعتقد ان المسيح أبن الله ،ثم أصبح بابا الفاتيكان ممثل الرب ،و أخذ الملوك والأمراء الأوربيون يستمدون منه البركة ، بل كان فبكثير من الأحيان هو الذي ينصبهم على عروشهم، ومن ثم هبط الى ملوك وأباطرة اوربا ما قبل الثورة الفرنسية ، وظل الأمبراطور الياباني معبودا حتى نهاية الحرب اليابانية الأمريكية ،التي قضت على قداسته الكاذبة عام 1947 .
أستخدم مفهوم الثيوقراطي من قبل المؤرخ اليهودي يوسيفوس للدلالة على حكم الدولة اليهودية القديمة والممتدة من النبي موسى الى فترة القضاة ,ثم أستخدمته الكنيسة بعد ذلك
وكان الأباطرة الرومان الذين اعلنوا مسيحيتهم قد أسبغوا على أنفسهم ومن خلال الكنيسة صفة القداسة وقبلهم مارس هذه اللعبة الأسكندر المقدوني ولم يكن وصفه في القرآن ب ” ذي القرنين ” صدفة إذ أنه إدعى الألوهية في مصر ووضع القرون التي تمثل الأله عندهم آنذاك
إنتهى عهد التفويض الإلهي في الإسلام مع وفاة محمد النبي وإنقطاع الوحي ، ولهذا لايمكن ان يدعي احد بعده هذه الصفة ولاالقداسة ، التي نراها اليوم شائعة بين بشر مثلنا يطلقون على أنفسهم القاب العظمة والتقديس وغيرها من البدع التي لايقبلها العقل اوالمنطق .
إن تطور الأوضاع في الحياة البشرية قد خلق إختلافا في النظر للأمور ، فظهرت الحركات المختلفة بين الناس ، وكذلك الأديان المختلفة والمتناقضة أحيانا , ومن هذا الباب دخل التأويل والتفسير لكثير من المفاهيم الدينية والحياتية عند البشر, وخضعت الكتب السماوية لمصالح الحكام والمتنفذين ، واصبح لكل حاكم وعاظ وفقهاء ومفسرين للكتب السماوية بما يتلاءم مع توجهاتهم وأطماعهم . وإذا كان البعض يرى في عمر بن عبد العزيز خليفة راشديا خامسا ، فإن التأريخ الإسلامي لم يقدم لنا خليفة راشديا سادسا حتى كتابة هذه السطور . فعندما ولي عبد الملك بن مروان الخلافة , خطب بالناس وانهى خطبته الدستورية تلك بهذه العبارات- “والله لايامرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ” ، ونزل من ممبره تهش به كلاب الدولة المستبدة وقضاتها وفقها ؤها وأولي الأمر منهم, ولما تولى إبنه يزيد الخلافة أتى بأربعين شيخا دينيا فشهدوا له :-” ان ما على الخلفاء حساب وعذاب ” ، اما الوليد بن عبد الملك فقد تساءل مندهشا :- ” أيمكن للخليفة ان يحاسب ؟ ” ، وهو يقصد يوم القيامة فكيف به يرضى بحساب الناس له في دنياه التي ورثها ؟. هذا قليل من كثير في أيام الدولة الأموية التي لطخت تاريخها بدماء أبناء علي وفاطمة بنت النبي ، وداست جثثهم بالخيل ومثلت بها ، وتركتها طعاما للوحوش والضواري أياما و ليالي عديدة على الرمال و تحت وشمس كربلاء الحارقة ، وقطعت رؤوسهم واضعة إياها على أسنة الرماح وقاطعة بها صحراءالجزيرة بين الكوفة ودمشق.

اما المنصور باني بغداد فقد قطع أبن المقفع قطعا ورماه الى التنور الحامي متلذذا برائحة اللحم البشري المشوي لأخيه في الدين والخلق معا , لأنه نصحه بالرفق بالرعيةولاداعي لذكر مفاسد خلفاء الدولة الإسلامية منذنشوئها كدولة مستبدة حتى آخرهم الملك فاروق الذي كان الأزهر قد رشحه كخليفة للمسلمين كافة آنذاك ، كما رشحت الحكومة الدينية في إيران خامينيء كولي لأمر المسلمين حاليا . ان تاريخنا مليء بالجرائم التي يخجل الحيوان من إتيانها ولكنها تمارس بأسم الدين والدفاع عن حياض الشريعة والكتاب والسنة وما الى ذلك من حجج تذكرنا بحجة أصحاب معاوية على أصحاب علي التي لم نكتسب منها غير الحصادالمر .
كانت نظرية التفويض الألهي قد إستقرت في الغرب كما إستقرت في الشرق أيضا ، فالقداسة اوالإستبداد ليس مرض شرقي فقط , وولدت لنا الطاغية (Tyrant) الذي لايحتاج الى المشورة ، بل الناس هي التي تحتاج مشورته , وهو لايراعي سنة او شرعة وقد أستخدمت هذه الكلمة من قبل الشاعر آرخيلوخوس اليوناني التي اطلقها على الملك جيجز ( Gyges ) ملك ليديا الذي أطاح بملكها السابق وجلس على عرشه , والكلمة تعني أيضا البرابرة المتوحشين كما كان اليونانيون يسمون القبائل التي كانت تسكن بلاد توران وهي تركستان الحالية , ومن الطاغية جاءتنا السلطة المستبدة ( Despotism ) والتي تعني في البداية رب الأسرة في اللغة اليونانية لكنها تطورت وأصبحت توحي بالأب القائد، كما لقب البكر من قبل صدام وكما لقب ستالين من قبل أكثرية الشيوعيين وموسوليني وهتلر في المرحلة الفاشية والنازية اثناء سيطرتهما على السلطة في ألمانيا وإيطاليا .
كان هذا المفهوم قد أطلق على ملوك الفرس أثناء الحروب التي دارت بينهم وبين اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد والمسماة بالحروب الهيلينية, وأستعمله ميكيافللي للتعبير عن سلطة الدولة العثمانية , ونعت مفكروا الأنوار في اوربا الملك لويس الرابع عشر بالمستبد لأنه وضع مقاليد الأمور كلها بين يديه.
ومع تطور الأوضاع برزت فكرة الملكية الدستورية أي المشروطة وتعتبر وثيقة الماجنا كارتا ( Magna Carta ) أو( وثيقة العهد الأعظم ) التي وقعها الملك الأنكليزي جون مع البرلمان عام 1215 م اول وثيقة اوربية تضمن حقوق الأقطاع ورجال الدين والتجار والطبقات المتنفذة في الدولة وتصونها من عبث الملوك .
و للدكتاتور ظهور قديم وبتفويض من مجلس الشيوخ ويا للغرابة؟! في روما ، من أجل فترة محدودة وأثناء الأزمات والحروب ، التي تهدد البلد فقط , حيث أعطي صلاحيات واسعة ومطلقة لمدة لاتتجاوز السنة , إذ يتم ترشيحه من قبل أحد القنصلين في الجمهورية الرومانية القديمة ويزكيه مجلس الشيوخ كإجراء دستوري يعطل الدستور بموجبه تماما بموافقة الجميع .
وقد يكون الحاكم العسكري العام في العصر الحديث من بقايا هذا الدكتاتور القديم لكنه تحول في أكثر من تجربة الى حكم دائم وقد تكون الدكتاتورية (Dictatorship ) فردية او حكم عائلة او طبقة , ونتيجة لذلك ، ظهرت الأفكار الشمولية المانعة -الجامعة التي لايأتيها الباطل .
والشمولية ( Totalitarianism ) أنتجت النازية والفاشية في عصرنا وكذلك الافكار التكفيرية وأرهاب الدولة والطائفة والطبقة وحتى الفردي . ففي خطاب موسوليني يوم 28 تشرين الثاني عام 1925 ، أكد على أن :-” الكل في الدولة ولاقيمة لشيء أنساني أو روحي خارج الدولة فالفاشية ، شموليةوالدولة الفاشية تشمل جميع القيم وتوحدها , هي التي تأول هذه القيم وتفسرها , إنها تعيد صياغة حياة الشعب كلها ” , والشمولية لاتعترف بفصل السلطات ولا البرلمان او الدستوروالصحافة الحرة او حرية المعتقد والرأي . اما الحكم المطلق (Absolutism ) فهو يعني حكم الفرد أكثر من حكم الجماعات ، وكان أهم داعية له في اوربا المفكر الأنكليزي توماس هوبز صاحب كتاب التنين ( Leviathan ) والسير روبرت فيلمر في بريطانيا, كذلك المفكر جان بودان والأب جاك بوسيه في فرنسا , وهو حكم لا يعترف بالقوانين او الشرائع , فالفكرة الأساسية فيه هي أن كل سلطة تحتاج الى سيادة كي تفرض هيبتها على الجميع ، ويحق لها سن القوانين والعقوبات بدون إعتراض من أحد , وقد نتج هذا التصور بعد أن إجتاحت اوربا الكثير من الفوضى والخراب والكوارث والحروب الدامية , لهذا لابد من حاكم حازم او سلطة قوية تفرض النظام على المجتمع , ويرى هوبز ان الحكم المطلق عبارة عن إتفاق بين الملك والشعب عن طريق تنازل الشعب للملك في تسيير امور البلاد ، كما يراها هو، وعند ذاك لايحق للشعب التذمر من الملك لأنه هو الذي فوضه لهذه الأمور . ثم ظهر مفهوم ( الحاكم المستبد العادل ) في طيات إشكاليات السلطة , وكان الملك فردريك الثاني ” ملك بروسيا الكبير” ، حسب تعبير فولتير, رمزا اوربيا لمثل هذا الحاكم ، الذي كان يقول :- ” لقد توصلت مع شعبي الى إتفاق يجعله يقول ما يريد ويجعلني افعل ما أشاء ” . وهذا يذكرنا بقول معاوبة بن أبي سفيان :- ” نحن لانقف بين الرعية وما يقولون أذا لم يقفوا ما بيننا والسلطان ” .
لقد جرب الكثير من المفكرين ، مد الجسور مع حكام ، اعتقدوا بأنهم حكام عادلون ، لكنهم فشلوا في هذا ، منذ علاقة افلاطون بديونيسيوس حاكم سيراكوزه ومرورا بالمقفع والمنصور العباسي ، الذي إستند في حكمه على قرابته بالرسول محمد وفردريك الثاني وفولتير الذي
دامت علاقته به أكثر من اربعين عاما ، لكنه سجنه عندما أعترض على حروبه في القارة الأوربية، ولاسال وبسمارك في بروسيا ،وهناك أمثلة لاحصر لها عبر التأريخ البشري .

ان للأستبداد أشكال مختلفة و يتلبس لبوسا متنوعة ويتلون بألوان عديدة , لكنه في النهاية يظهر كأرهاب مكشوف ضد البشر وحق الحياة, ومن هنا على الحركات السياسية التي تستخدم الدين ان تدرك ان الأكراه والتعنت وأجبار عباد الله على طاعتهم وتكفير من لايتفق معهم ، او تحطيم أماكن الرزق والعمل وغيرها من أشكال الأرهاب المغلف بشعارات دينية , لن يجني منها العراقيون غير المزيد من الدم والتقهقر والخراب . وأذا كان كتاب المسلمين القرآن يخاطب نبيه في سورة يونس في ( الآية 99 والآية 100 ) بما يلي :-
” أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين , وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لايعقلون ” ، فهل من المعقول أن يجبر الناس على السير وراء هذا او ذاك بأسم الشريعة والسنة وغيرها من شعارات كاذبة لايقصد منها غير الكسب الرخيص والوقتي الزائل . فمن ينوي منهم ان يقوم مقام ربه ويتصرف في رقاب الناس كأله ؟؟.

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=89400

التعليقات مغلقة.