اللاَّعـنـف – جـان أونـيمـوس

720

إنَّ مبدأ اللاعنف، الذي بشَّر به، منذ قديم الزمان، ومارسَه حكماءٌ من نحو البوذا ومو تسُه والمسيح وبعض الرواقيين، وفي العصر الحديث، جمهرةٌ من مؤسِّسي المذاهب أو الفلاسفة، قد مَنْهَجَه غاندي في القرن العشرين لتحقيق غايات سياسية واجتماعية (تحرير الهند من السيطرة الإنكليزية، إلغاء نظام المراتب الاجتماعية castes، المصالحة بين الهندوس والمسلمين). فبحسب تعبير القس الأمريكي مارتن لوثر كنغ: “المسيح أعطى الروح، وغاندي بيَّن كيفية استعماله.” وبذا فإن الفنون التي استُكمِلَ إتقانُها قد ثبتتْ فعاليتُها في الهند، فأصبح اللاعنف، بدلاً من أن يظل مثاليةً غير قابلة للتطبيق في الظاهر، أداةَ نضال ذات قوة هائلة. وقد مورِسَ منذئذٍ في بلدان عديدة، وبالأخص في أيرلندا في الكفاح من أجل الاستقلال، في الولايات المتحدة في مطالبة السود بحقوقهم المدنية وبالمساواة العرقية، في إيطاليا ضد البؤس في صقلية، وفي فرنسا ضد حرب الجزائر.

اللاعنف هو قوة الضعيف وملاذه الأخير. ونقطةُ ارتكازه هو الضمير الأخلاقي لدى الخصم، أو على الأقل، لدى الجمهور الذي يحيط به: إذ إن انفضاح الظلم في وضح النهار يوقظ القلوب ويفتح الأبصار ويحيِّر الجائر ويُزري به. اللاعنف يكسر تسلسُل العنف بأن يبيِّن للمعتدي ضلالَه ويفرض عليه نوعًا من الهداية فيها شفاء نفسه.

ولقد التبس اللاعنف على الأذهان بالسلبية والإذعان. لكن المقصود منه شيء آخر تمامًا: الفعل اللاعنفي غالبًا ما يكون بطوليًّا، وهو يتطلب ضبطًا للنفس عظيمًا. فالعصيان المدني واللاَّتعاون والإضراب إلخ هي، في الواقع، “اعتداءات”. اللاعنف يُنزِل بالخصم القصاص، لكنه قصاص من رتبة معنوية؛ إنه “سلاح”، لكنه السلاح الإنساني بامتياز، لأنه يسمو بإنسانية مستعمليه وإنسانية متكبِّدي صدمته في آنٍ معًا. هذا ولا بدَّ أيضًا من تمييز اللاعنف من الابتزاز العاطفي، الذي هو حيلة الضعفاء، ومن التأثير المسمَّى بـ”النفساني”، ومن ضروب المخاتلة غير المؤلمة التي تقنَّع بها الحقيقةُ و”تُغسَل الأدمغة” وتُفرَض الإيديولوجيا. فاللاَّعنف – وهاهنا نُبله كله – لا يفلح إلا في “القضايا العادلة”، ولا يصح استعمالُه إلا في سبيلها. فهو ما إنْ يهدف إلى نيل منفعة أنانية، وليس إلى هداية الخصم الحقيقية، فإنه ينحط من الروحانية إلى السياسة.

فهل اللاعنف هو الحل المثالي للنزاعات كافة؟ هذا يفترض عند البشر وجود ضمير أخلاقي ليس موجودًا عند غالبيتهم إلا في الحالة الجنينية. فالعمل اللاعنفي يقتضي ألا يكون المرءُ في مواجهة وحوش ضارية أو همج أو أشخاص مسلوبي الإرادة، بل بشر حقيقون بهذا الاسم.

* * *

1. “قديم قِدَمَ الجبال”

قال غاندي: “اللاعنف قديم قِدَمَ الجبال.” ولعلنا واجدون أول صياغة له عند عند ريشي rishi [“الراؤون” الحكماء] الهند (يشار إليه في السنسكريتية بكلمة أهمسا ahimsā: “كف الأذى”). وقد كَرَزَ به البوذا الذي كان كلُّ عنف في نظره يكافئ زيادة الـكرمى karma [ما يقدِّره المرءُ بأفعاله على نفسه من ثواب أو عقاب]. وفي ذلك العصر نفسه، أعلن مو تسُه في الصين: “قتل إنسان في سبيل خير العالم ليس فعل خير للعالم؛ أما التضحية بالنفس من أجل العالم فهي عملٌ خيِّر.” وفي روح إحسان ومحبة شاملة، أوصى المسيح باللاعنف: “أحبوا أعداءكم وأحسِنوا وأقرِضُوا غير راجين عوضًا” (إنجيل لوقا 6: 35)؛ وعبارات الموعظة على الجبل معروفة: “[…] أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فاعرضْ له الآخر. […] أحبوا أعداءكم وصلُّوا من أجل مضطهديكم” (إنجيل متى 5: 39، 44). وهذا بالفعل ما عمل به الشهداء المسيحيون الأوائل. وفيما بعد، تُذكَر بادرةُ البابا ليون يواجه منتصرًا عند أبواب روما هجومًا شنَّه أتيلا بمعونة موكب من الكهنة والنساء. وهناك حادثة مشابهة جرت في طروا [عاصمة شمپانيا]: أتيلا، مشدوهًا إذ يجد أسوار المدينة من غير مدافعين والسكان جميعًا يصلون في الكنائس، يغادرها من غير قتال. وهناك عدد من الفِرَق المسيحية مارس اللاعنف، وبالأخص اعتراض الضمير objection de conscience في مواجهة الخدمة المسلحة (مثل الكويكرز والمنونيين والأميش والمورمون في أوروبا والولايات المتحدة والدخوبور في روسيا والهتريين في موراڤيا).

ليڤ نيكولايڤتش تولستوي (1828-1910)

وفي الغرب، استعاد مفكرون حديثون عديدون هذا الموضوع. وبوسعنا أن نذكر منهم، نظرًا للتأثير الذي مارسوه على غاندي، الفيلسوف والناقد الفني الإنكليزي جون رَسْكِن (1819-1900)؛ الكونت ليڤ تولستوي في روسيا، الذي انعقدت في نهاية حياته، بين العامين 1909 و1910، صلةُ مراسلة بينه وبين غاندي، حين كان هذا الأخير يناضل سلميًّا في سبيل حقوق الهنود المدنية في الترانسڤال؛ وهناك أيضًا الشاعر وكاتب المقالات الفلسفية الأمريكي هنري ديڤيد ثورو (1817-1862) الذي ألهمتْ مقالتُه في العصيان المدني (1849) غاندي ومارتن لوثر كنغ إلهامًا مباشرًا. إن ثورو يؤسِّس مسلكَه على الفحص عن الضمير وعلى حُكْمِه الحر: ليس القانون ملزِمًا ما لم يبدُ للنظر العقلي عادلاً، وإلا فمن الواجب خرقُه: “إن الواجب الوحيد الذي يحق لي قبولُه هو أن أفعل في كلِّ لحظة ما أراه عادلاً. فالسلوك العادل أشرف من طاعة القانون.” وعلى هذا الغرار، انحاز ضد العبودية والحرب ورفض دفع الضريبة وقبل السجن طوعًا. وإن مثال ثورو قد أراح ضمير كلٍّ من غاندي وكنغ عندما خرجا قصدًا على الشرعية. ففي الهند، جاءت تَقَويَّة piétisme ثورو الفردانية الأبية، في نهاية القرن التاسع عشر، لتنعش، في مزاوجة عجيبة، المفاهيم الهندوسية الموروثة للطيبة الشاملة والعمل الزاهد ونكران النفس وبذلها. ذلك أن غاندي، الذي غذَّاه في آنٍ معًا المذهبُ الجَيْني الهندي، الممعن في إجلال الحياة، والإنجيليةُ البريطانية، ابتكر تحت وطأة الأحداث فلسفةً في اللاعنف تتزاوج فيها تزاوجًا وثيقًا قداسةُ الريشي وقداسةُ تلميذ المسيح.

هنري ديڤيد ثورو (1817-1862)

غير أن اللاعنف الذي كان بنظر ملهِميه، قبل كلِّ شيء، مبدأً للكمال الشخصي، أصبح مع غاندي أداةً للعمل التطبيقي والسياسي والاجتماعي. فهذا النهج في التقدُّس والعمل استعمله غاندي في بداية القرن العشرين في جنوب أفريقيا حيث، بوصفه محاميًا، انتصر للهنود المهاجرين، ضحايا التمييز العنصري، ثم في الهند، بين الحربين العالميتين حتى وافتْه المنية في العام 1948، في سبيل العدالة والسلام، ضد الحكم البريطاني أولاً، ثم ضد الاقتتال الدموي بين الهندوس والمسلمين، الذي لم تستطع منزلتُه العالية أن تحول دونه على كلِّ حال.

في العام 1902، عاد الحقوقي الشاب م.ك. غاندي (في الوسط) إلى جنوب
أفريقيا للمرة الثالثة وسجَّل نفسه محاميًا في محكمة جوهانسبُرغ العليا.

ثم ما لبث اللاعنف أن عرف انطلاقةً جديدة في العام 1955 في مونتغومري ألاباما (الولايات المتحدة)، حين نظَّم القس مارتن لوثر كنغ، راميًا إلى الظفر بالمساواة للسود في وسائل النقل العام، مقاطعةَ boycott حافلات المدينة. والنجاحُ الذي أحرزه كنغ، ووقْعُ هذا النجاح على سائر الأمَّة، وجَّهاه وأنصاره نهائيًّا في طريق التظاهرات اللاعنفية، على الرغم من معارضة زعماء “القوة السوداء” Black Power، أنصار العمل العنفي. وفي العام 1968، اغتيل القس كنغ في ممفيس عشية مسيرة لاعنفية تأييدًا لعمال التنظيفات السود في المدينة.

مارتن لوثر كنغ الابن (1929-1968)

ما انفكت المناهج التي وضعها غاندي تمارَس في مختلف البلدان. ففي فرنسا، إبان حرب الجزائر، نهض عددٌ من “أصحاب الفُلْك” compagnons de l’Arche، بإيعاز من لانزا دِلْ ڤاستو، لعدد من التظاهرات من أجل السلام (مسيرات صامتة، إضرابات عن الطعام، محاصرات مديدة لمعسكرات السجناء الجزائريين، إلخ). وفي صقلية، تابع دانيلو دولتشي، منذ العام 1952، عملاً لاعنفيًّا لتوعية الرأي العام بالبؤس المستشري في أحياء پاليرمو المعدمة. وفي الهند، لم يألُ تلميذ غاندي أتشاريا ڤينوبا بهاڤِه جهدًا، بواسطة الصوم والوعظ، لإقناع كبار مُلاَّك الأراضي بالتبرع بجزء من أراضيهم لصالح الفلاحين الفقراء. وفي البرازيل، سعى دون هِلدر كامارا في العام 1968 في تأسيس “رابطة للعدالة والسلام”، الغاية منها استنهاض الوعي لدى الأغنياء والفقراء على حدٍّ سواء. وفي تشيكوسلوڤاكيا، ظهرت أشكالٌ قصوى من العمل اللاعنفي (كالانتحار حرقًا، مثل انتحار إيان پالاش). وكذلك كان الأمر في ڤييتنام. وفي الولايات المتحدة، أتاحت ثورةُ الشباب على المجتمع وعلى الحرب أحيانًا انعقاد اجتماعات واسعة النطاق للاحتجاج السلمي. زبدة القول إن الأقليات المقموعة باتت، منذ غاندي، مسلَّحة بوسيلة لرفع أصواتها وإحقاق العدل. وقد كتب لانزا دِلْ ڤاستو: “مع اللاعنف، دخلتْ تاريخَ الشعوب قوةٌ ثوريةٌ ومجدِّدة.” وفي المقدمة التي عقدها رومان رولان على مقالات الهند الفتاة Young India، شبَّه الكاتب الفرنسي الكبير اللاعنف بموجة عارمة ارتفعت من أعماق الشرق، وأضاف: “وهي لن تسكن حتى تطغى على العالم بأسره.”

لانزا دِلْ ڤاستو (1901-1981)

ڤينوبا بهاڤِه (1895-1982)

2. طاقة روحية

يطلق اللاعنف طاقةً روحيةً ترغم الخصم على التفكُّر، على العودة إلى الذات، على مساءلة النفس. وبالتالي، لا يجوز استعمالُه إلا في سبيل قضية عادلة. إنه يستمد قوَّته برمَّتها من سلطان الحق والعدل على البشر. ولهذا أطلق عليه غاندي تسمية سَتياگراها satyāgraha (من ستيا satyā: الحق أو الحقيقة، وأگراها agraha: قوة). وإن عنوان مذكراته لذو مغزى: قصة اختباراتي مع الحقيقة[2].

اللاعنفي لا يرتكز إلا على القيمة الموضوعية للقضية التي ينتصر لها؛ غايته الوحيدة هي جعلها بديهية، وإذا جاز القول، جعل هذه البداهة صارخة. الخصم، في نظره، ليس أبدًا “عدوًّا” ينبغي صرعُه، بل إنسان ضلَّ سبيله لا بدَّ من تكبيده (بوسائل، وإنْ لم تكن عنيفة، فهي شديدة الإصابة) صدمةً حتى تنفتح عيناه. ليس المطلوب هزيمته بقدر ما هي هدايته. لا مجال هنا أبدًا لكراهية العدو: الأصح أن يُشفَق على ضلاله. ليس مراد اللاعنفي إلا إنقاذ خصمه من ضلاله وتحطيم راحة ضميره الزائفة. يقول غاندي: “الإنسان الذي يجد نفسه مرغَمًا على الاعتراف أمام نفسه بأنه على غلط لا يستطيع مواصلة الصراع.” ذلك أن عنفه كان يقنِّع ضعفًا حقيقيًّا فيه، وإنْ كان لا يعيه: وبذا فإنه يجرِّد نفسه بنفسه من سلاحه. العنف يتكئ على عنف مضاد يبرِّره؛ أما إذا لم يلاقِ سوى الفراغ فإنه يهوي إلى الأمام، مثله كمثل خصم مصارع الجودو الذي يرتمي أرضًا بدفع من زخمه هو. يقول ڤينوبا بهاڤِه: “ميدان معركة اللاعنف هو قلب الإنسان.” القصد، إذن، هو إحكام الضرب، بل إحكامه في شدة، لكن الضربات تستهدف أكثر ما في الإنسان إنسانية: ضميره. لذا فإن اللاعنف شكل إنساني حصرًا من أشكال الصراع: إنه يعدم أيَّ تأثير على الحيوان أو الآلة. وهو يتطلب ممَّن يضعونه موضع التطبيق نوعًا من التفاؤل. فبالفعل، إذا أخذنا برأي توماس هوبز الذاهب إلى أن “الإنسان ذئب بالإنسان”، فلا حلَّ طبعًا غير القضاء على الذئب الذي يهددك بكلِّ الوسائل الممكنة. أما اللاعنفي فهو، على العكس، يثق بالمبدأ الأخلاقي الموجود قطعًا في قلب الخصم، وإن يكُ مطمورًا، بل معطَّل. مذ ذاك فإن الصراع لا يقع، ماديًّا، بين فريقين متناوئين، بل ينشب في صميم الخصم، حتى اللحظة التي يتمكَّن فيها هذا الأخير من التحرر من نوازعه البدائية أو من المنظومة الجائرة التي تسجنه. من هنا ليس المطلوب قهر الأشخاص، بل قهر الشر الذين هم ضحاياه والذي يحول بينهم وبين أن يكونوا أنفسهم. فالبشر، إذ هم مسخَّرون جميعًا للشرِّ كثيرًا أو قليلاً، يسعى اللاعنفي، واعيًا هذا الواقع، في تطهير نفسه في اللحظة نفسها التي يحرض فيها اهتداءَ عدوِّه. تلكم هي الوسيلة الوحيدة لكسر “سلسلة العنف”؛ إذ إن الردَّ على الضربة بمثلها يطيل أمد النزاعات إلى أجل غير مسمَّى. الرد على الشر بالشر ليس مقاومةً للشر، بل هو على العكس دخول في منظومته وإضافة المزيد من المُكْر إليه. بذا، إذا كان العنف يقيِّد الخصوم إلى شرِّهم، فإن اللاعنف يطلق سراحهم بالطاقة الروحية المخلِّصة التي يُعمِلُها في الجانبين. لقد سبق للبوذا أن قال: “ليس بالشر يوقَف الشر، بل بالخير.”

3. الإعداد الدقيق للعمل اللاعنفي

الإعداد للفعل اللاعنفي الجماعي لا بدَّ أن يكون دقيقًا، وإتقانه يقتضي إعمال الفطنة والحنكة والكثير من الخيال. والفعل، وإن يكُ غير شرعي، يجب أن يكون سليم النوايا من حيث الأساس. كما يجب أن يكون معروفًا لدى الجمهور على نطاق واسع حتى يكون مدوِّيًا إلى أقصى حد. وعلى منفِّذيه أن يكونوا مستعدين لقبول عواقبه كلِّها، مهما كانت قاسية. المثال النمطي على ذلك هي “مسيرة الملح” في العام 1930: غاندي، يواكبه أنصارُه الخُلَّص، يمضي في مهابة إلى شاطئ البحر، دون أن يتكهَّن أحدٌ بنواياه. يتبعه الصحافيون إبَّان مسيرة طويلة مدتها 26 يومًا (من 12 آذار إلى 6 نيسان). الهند كلها مستنفَرة. وإذ يصل غاندي إلى الشاطئ، يلتقط حفنة من الملح ويطلق بهذه الحركة المسرحية مقاطعةَ الملح الذي تحتكر الدولةُ بيعه. إن عمل المهاتما محفوف بسلسلة من الضربات الموفَّقة من هذا النوع. كذلك فإن مقاطعة القس كنغ ورفاقه لحافلات مونتغومري في العام 1955 كانت نقطة انطلاق لسياسة متكاملة من اللاتعاون والتوعية للرأي العام الأمريكي. يعبِّر اللاعنف عن نفسه، إذن، بحركة رفض درامية مهيبة، هي “لاشرعية شريفة”، بطولية أحيانًا. إنه سلوك أنتيغوني اللائذة بالعدالة غير المكتوبة، لكنه قد يكون أيضًا سلوك عامل يُضرِبُ عن عمل جائر. لقد كتب غاندي: “رفضت الانصياع للأمر الذي أوعِزَ به إليَّ، لا عن قلة احترام للسلطة الشرعية، بل عن طاعة للقانون الأسمى للكائن: قانون الضمير.”

غاندي لحظة أوج “مسيرة الملح” (1930) يلتقط حفنة الملح الشهيرة. لقد شجعت المسيرة فقراء
الهند، باحتجاجها على ضريبة البريطانيين على الملح، على إنتاج ملحهم من ماء البحر.

أمام عصيان أو عدم تعاون جماعيين غالبًا ما يكون ارتباكُ السلطات كبيرًا. فحين يشارك الشعب مشاركةً حاشدةً في العمل اللاعنفي قد ينجم عنه شللٌ تام في البلاد. في الهند، على سبيل المثال، اجتهد القوم في الاستغناء عن الإدارة الإنكليزية استغناءً تامًّا. من ناحية أخرى، ما حيلة السلطات ضد أناس يهرعون إلى الهراوات ويتطوعون لملء السجون؟ إذا ذاك فإن السلطات، وقد عيل صبرُها وفقدت رباطة جأشها، تعرِّض نفسها لمُراكَمة كمٍّ من أعمال عنف هو من الفداحة بحيث يُفقِدُها نفوذَها فتصير محطَّ استهجان عالمي. وتشمل مناهج اللاعنف أيضًا الصوم الفردي أو الجماعي، الذي قد يصل إلى حدِّ الموت، والمسيرات الكبرى الصامتة، وفي اختصار، كلَّ مبادرة قادرة على استنفار الضمائر وتوعية الرأي من دون أيِّ استعمال للهمجية لبلوغ هذه الغاية.

4. صفات اللاعنفي

لا يصير المرءُ مقاوِمًا لاعنفيًّا (ستياگراهي satyāgrahi) ارتجالاً: فالعمل اللاعنفي مرتبط بالتكامل الداخلي، وهو على كلِّ حال ثمرته. اللاعنف لا يُختزَل إلى تكتيك ولا إلى فنٍّ قتالي؛ إنه بالأحرى نهج وجودي، ضرب بعينه من ضروب الحياة الروحية والعملية. وهو أبعد ما يكون عن العفوية؛ إذ هو يتطلب سلوكًا رصينًا ومتسقًا يجري الاستعدادُ له مطولاً.

كل عدوان فهو يحرِّض توترًا (شدة stress)؛ وفي الأحوال العادية، لا يستطيع المرءُ عند ذاك مقاومة النوازع إلى العدوان المضاد؛ وإذا كان هذا الأمر يصح على الأفراد، فهو يصح أكثر على الجماعات أو الطبقات الاجتماعية أو الأمم. إن كظم هذه النوازع يتطلب ضبطًا كبيرًا للنفس. ويجب هنا الاحتراس من غلط شائع: اللاعنفي ليس مذعنًا سلبيًّا؛ إنه، على العكس تمامًا، مناضل ملتزم يبادر، يخلق الحدث، يبحث عن الفضيحة، يستفز الجائر. ولذلك فهو يحتاج إلى شجاعة الشهيد وزهده في حياته. يميز لانزا دِلْ ڤاستو بطل القتال من بطل الكفَّارة؛ وحده هذا الأخير يتصدى للشرِّ حقًّا: فهو بدلاً من أن يذود عن العدالة بالعنف، يذود عنها بالقوة التي تكمن فيها. وإذا اتفق له أن يموت مصلوبًا، فهو يعي أنه يأخذ على عاتقه، على البدلية، إثم جلاديه ويكفِّر عنه. البطل اللاعنفي هو الحامل الوقتي، الشاهد، وربما الشهيد على هذه الطاقة الحَرام المسماة بالعدالة: تضحيته تمجِّدها حتى في العذاب الأقصى الذي يدين فيه العنفُ، من فرط غلوِّه، نفسَه بنفسه. إن السلبية التي تنطوي عليها كلمة “لاعنف” non-violence هي فخ من فخاخ اللغة. أما في الواقع، فكل شيء إيجابي عند مَن يفضح الظلم، يقدم نفسه شهيدًا، يغفر لمضطهده، ويعزِّز ملكوت الخير بالقوة وحدها التي يطلقها في القلوب العذابُ غير المستحَق. للاَّعنف، في الحقيقة، قوة تربوية، وإذا جاز القول، فدائية: إنه يوقظ الضمائر الأكثر تعنتًا ويربِّيها ويحملها على التفكر.

أما الابتزاز العاطفي فهو شكل منحط من أشكال اللاعنف. فهذا يعدم قيمتَه كلَّها إذا كفَّ عن أن يكون حالةً روحيةً ليصير حيلةً من حيل الضعيف إذ يطلب منفعةً أنانية. فالحق أن اللاعنف لا يرمي أبدًا سوى إلى إنهاء الظلم وهداية الظالم. لذا فهو لا يصح إلا في القضايا الكريمة. يقول غاندي: “بوسعي أن أصوم ضد أبي كي أشفيه من رذيلة، لكن لا يجوز لي أن أصوم كي أقنعه بأن يجعلني وريثه.” القصاص المعنوي لا يعود عندئذٍ غير سلاح شائن، أداة تُستعمَل للإكراه، وليس للتحرير. وعلى نحو أدق، فإن الذهنية العقائدية والمذهبية تتربصان باللاعنف للمُكْر به؛ ولا مناص له من التعرض للمخاطر كلما ابتكر إستراتيجية بمقتضى وضع اجتماعي أو سياسي بعينه: إنه عرضة إذ ذاك لفقدان مداه الفلسفي والأخلاقي العالي ولأن يصير مجرد وسيلة، في حين أنه لا يستطيع أن يكون، تحت طائلة الانحطاط، غير غاية مطلقة.

غاندي في غرفته (1946) متأملاً في تعاليم سِفْر الگيتا.
(يشاهَد في مقدمة الصورة دولابُ الغزل الشهير، رمز الهند المستقلة.)

قد يتفق للاَّعنف أن يخفق أيضًا، لا بجريرة اللاعنفي نفسه، بل بجريرة خصمه. فإذا كان هذا الأخير مسلَّحًا بقوى ساحقة وإذا كان مجرَّدًا تمامًا من الضمير، فإن اللاعنفي ذاهب إلى حتفه لا محالة من غير طائل. فهل يجب عليه عندئذٍ أن يذعن؟ لا! عليه أن يتسلح، وبعد استنفاد السبل كافة، أن يقاتل: “إذا لم يكن ثمة خيار إلا بين العنف والجبن فإني أنصح بالعنف” (غاندي، الهند الفتاة، 11 آب 1920). غير أن غاندي، حتى في مواجهة أسوأ الهمجيات الحديثة، كان يعقد الثقة على قوة الروح. قال: “هتلر قتل خمسة ملايين يهودي. لكن كان على اليهود أن يقدموا أنفسهم زُرافات لسكين الجزار. كان عليهم أن يلقوا بأنفسهم من تلقاء أنفسهم في البحر من أعالي الجروف. […] فمن شأن هذه البادرة أن ينتفض لها الكونُ والشعبُ الألماني. […] لقد رضخوا في الواقع، بالملايين، في صورة أو في أخرى” (أورده لويس فيشر، حياة المهاتما غاندي). هذه العبارات تطرح المسألة طرحًا بديعًا. وعلى كلِّ أحد أن يحلَّها بحسب علوِّ مفهومه عن ضمير الإنسانية الأخلاقي.

*** *** ***

ترجمة: ديمتري أڤييرينوس

مراجع

– Fisher, L., La vie du Mahatma Gandhi (Life of the Mahatma Gandhi, 1951), trad. E. Bertaux, Paris, 1952.

– Gandhi, M.K., Expériences de vérité : Autobiographie (An Autobiography or the Story of My Experiments with Truth, 1927), trad. G. Belmont, Paris, 1951.

– Gandhi, M.K., La Jeune Inde (articles de Young India, 1919-1922), trad. H. Hart, Paris, 1924.

– King, C.S., Ma vie avec Martin Luther King (My Life with Martin Luther King, 1969), trad. A.M. Soulac, Paris, 1970.

– King Jr., M.L., Stride Toward Freedom: The Montgomery Story, New York, 1964.

– Lanza del Vasto, Définitions de la non-violence, Bollène, 1963.

– Lanza del Vasto, Les quatre fléaux, Paris, 1959.

– Peyronnet, J., L’Action non-violente, Paris, 1965.

– Seidel, H., Thoreau, Boston, 1939.

– Thoreau, H.D., Du devoir de la désobéissance civique (Civil Disobedience, 1849), trad. G. Brailion-Zeude, Paris, 1965.

– Vīnobā Bhave, A., La Révolution de la non-violence (Revolutionary Sarvodaya, 1955), trad. C. Andrieu, Paris, 1958.

——–

[1] باحث فرنسي متخصص في فلسفة اللاعنف.

[2] انظر: المهاتما غاندي، قصة تجاربي مع الحقيقة، بترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت. (المترجم)

http://maaber.org/issue_may08/non_violence1.htm

التعليقات مغلقة.