من تكتيكات التعامل مع القمع المحدود

125

يبرع نشطاء اللاعنف حول العالم في ابتكار تكتيكات للحفاظ على سمة مهمة لمسار اللاعنف، ألا وهي المظهر الحضاري للنشاط، وهم في هذه التكتيكات لا يدعون أنهم يمنعون القمع، لكنهم يركزون على نزع أي مبرر لاستخدام القمع من قبل قوات القمع، ليفوزوا في النهاية بالتأييد الشعبي.
نستعرض بعض التكتيكات التي تستخدم في عالم اللاعنف، وهي خاصة بحالات التظاهرات الثابتة في المكان أو الاعتصامات التي يُتوقع فيها قمع محدود من قوات مكافحة الشغب، والأهم من التكتيكات ذاتها فهم منطق التفكير الذي انطلق منه من صمم هذه التكتيكات، وهو ما سنشير إليه في النهاية.
1- تقديم شخصيات لها وجاهة لتتقدم الصفوف الأمامية مثل العلماء، أو قدامى المحاربين الذين يمكن أن يديروا حواراً بلطف مع الجنود، كما أنهم يفهمون التركيبة النفسية للجندي ويقدرونها، وقد حدث ذلك في صربيا عام 2000م.
2- تقديم كبار السن والعائلات في الصفوف الأمامية، وهي بطبيعتها لن تكون متوترة، ومن ثم تزيل التوتر من الطرف الثاني الذي يمكن أن يفقد أعصابه في أي وقت في حالة رؤيته وجوهاً غاضبة متوترة.
3- شغر الصفوف الأمامية بمجموعات مدربة على ضبط النفس وإجراء حوار مع رجال القمع، وهي مجموعات تعرف بمجموعات حفظ السلام، وهو ما يحدث في بعض التظاهرات الأوروبية. وهي مجموعات ترتدي من وسائل الحماية ما يساعدها على تخفيف أثر الضرب وقنابل الغاز.
4- إظهار الشجاعة حيث تتقدم الصفوف الأولى مجموعات مستعدة لتلقي الضربات دون أن تبدي أي مقاومة تذكر، فإن سقط صف تبعه صف آخر وهكذا، وهو تكتيك يتطلب شجاعة كبيرة، وكان غاندي يدعو إليه، لأنه يلفت أنظار عموم الشعب بل والعالم إلى عظمة القضية وصدق التعبير عنها. كما دعا إليه الخميني في الثورة الإيرانية عام 1979، حين أمر أتباعه بتلقي الموت بصدر عار، دون إبداء أي مقاومة، ولم يكن ذلك أمارة ضعف بل برهان قوة والتزام بخطة من شأنها كسب تأييد شعبي واسع. كما كانت المشاهد الأوسع انتشاراً وتأثيراً في الجماهير في الثورات العربية المعاصرة هي مشاهد الاستبسال وتحدي القمع، وهي المشاهد التي وقف أمامها إعلام العالم مندهشاً. ويقوم مبدأ هذا التكتيك على ما قاله غاندي: “قد يحصلون على جثتي.. لكنهم لن يحصلوا على طاعتي”، وهو ما يضع آلة القمع في معضلة، كيف تواجه أناساً لا يقاتلون، لكنهم لا يذعنون.
5- عدم إبداء أي مقاومة مع أعمال الاعتقال، ثم يسعى كل من لم يعتقل إلى تسليم نفسه، فإن كان النظام يرى أن ما قام به المحتجون جريمة، فهناك عشرات الآلاف مشاركون أيضاً في هذه الجريمة ومستعدون لتلقي العقاب. هذا التكتيك يحرك القضية إعلامياً بشكل كبير. ويؤكد أن ما قام به المحتجون ليس تهجماً على فكرة القانون، ولكنه فقط القانون الجائر. مثلما حدث خلال إضراب المعلّمين فى النرويج عام 1942، وبعد أن تم اعتقال المعتصمين فى مدرسة ستابك، توجّه المعلّمون الآخرون، الذين لم يكونوا موجودين فى المدرسة، إلى السجن وطالبوا بأن يعتقلوا بدورهم . وفى فرنسا عام 1959، توجهت مجموعة من حركات العمل المدنى اللاعنفى إلى معتقل “بول”، حيث إفريقيون شماليون محتجزون دون محاكمة. طالب الناشطون باعتقالهم ليكونوا شهوداً على الخرق الفاضح للعدالة.ذ
6- وضع ساتر كبير يحجب المتظاهرين عن أعين رجال القمع والعكس، قد يكون هذا الساتر من القماش الكبير. وقد يحمل رسالة لقوات القمع، ويحمل رسالة أخرى على الناحية الثانية للمحتجين. كما يمكن وضع حواجز أشبه بالحواجز المرورية المعدنية والتي تترك مسافة كبيرة بين المحتجين وقوات القمع.
7- النوم أرضاً في الصفوف الأمامية لقطع الطريق على أي متظاهر يحاول الاقتراب من قوات القمع، وفي نفس الوقت تأكيد أن أي اعتداء يمكن أن يتم فهو من جانب واحد.. هو قوات القمع. ويمكن أن تكون التظاهرة كلها على نفس الهيئة على امتداد عدة أمتار.. فلا مجال للاشتباك هنا إلا من طرف واحد.

8- الجلوس أرضاً في الخطوط الأمامية مع تماسك الأذرع، وعدم التحرك من المكان قدر الإمكان مهما حدث من قمع (محدود). ويهدف الجلوس أيضاً إلى تأكيد عدم الرغبة في أي اشتباك أو القيام بأية مواجهة. كذلك يمكن أن تتم التظاهرة بأكملها جلوساً مع مسافات واسعة كما حدث في الدانمارك.
9- الجلوس أرضاً مع إعطاء الظهر لقوى القمع لتجنب أي استفزار، مع تشابك الأذرع، وقد يتم ذلك أيضاً على مدى صفوف طويلة، ليصبح هذا هو تكتيك التظاهرة بالكامل.
10- تكتيك سلسلة المواسير: وهو يستخدم لربط المتظاهرين معاً في سلسلة واحدة من خلال المواسير البلاستيكية، مما تؤكد أن المتظاهرين ليسوا مسلحين أو في نيتهم إلقاء أي شيء على قوى القمع، كما تقلل عدد المتظاهرين في الصف الواحد مما تقلل من فرص الاشتباك. كذلك تجعل التفريق بينهم واعتقالهم فرداً فرداً أمراً صعباً، ويقوم المتظاهرون بتقوية المواسير بحيث لا يمكن كسرها من المنتصف من خلال تغطيتها بالخرسانة والقار وشرائط لاصقة. ويمكن كتابة أي رسالة على المواسير. كما يمكن استخدامها في وضع الجلوس أو النوم بحسب الحاجة كما هو موضح في الصور.
11- الاقتراب الحذر، خاصة إن غلب الظن على المحتجين بأن ثمة اشتباكات يتوقع حدوثها وخروجها عن السيطرة، في هذه الحالة يمكن أن تكون التظاهرة على بعد مسافة تبعد كيلومترات محدودة من المكان الذي تتواجد فيه قوى الأمن، ويتم إرسال وفود أو مجموعات صغيرة أو مسيرة رمزية ترفع المطالب، وكلما كانت بها شخصيات عامة معروفة كان ذلك أدعى للتهدئة، مشيرة إلى أن وراءها جموع تحمل نفس المطالب وتتواجد على مسافة ليست بعيدة. وقد يستمر هذا التكتيك بشكل رمزي لمدة محدودة بشكل دوري (مثلاً ساعة يومياً)، لضمان عدم حدوث توتر أمني، ولتأكيد الرسالة والحرص على عدم وقوع اشتباكات. ونطلق على هذا التكتيك “مسيرة الزرافة”، فرأس المسيرة يبعد عن جسدها مسافة كبيرة، ويبدو الرأس وكأنه مبتور عن الجسد، لكن هذا البتر يمكن أن يساعد في بتر أي فرص لاشتباكات لا طائل منها. وهو ليس بتراً كاملاً إذ يمكن عمل سلسلة بسيطة من الأنشطة على امتداد المسافة بين الرأس والجسد، كالوقوف على جانبي الطريق.
هذه التكتيكات ذكرناها على سبيل المثال لتفتيح الآفاق، وتجنب حصر شكل الضغط الشعبي على نمط واحد من الفعل. وهذه التكتيكات قد لا تتناسب مع كل الحالات، وقد تناسب مجتمعات دون غيرها، واستقراء تجارب الشعوب لا يهدف إلى استنساخ هذه التجارب في كل تربة، فلكل شعب بصمته. لكن العبرة أن العقل البشري قادر على تحقيق حلمه بأرقى الوسائل، وأن المسار اللاعنيف جدير بالمجتمعات أن تبذل الجهود النظرية والعملية لتطويره وصقله، فالاطلاع الواسع يجعل العقل مشبعاً بثقافات متنوعة لاستخدامات اللاعنف، وهذا سبيل مهم للإبداع وخلق تجربة خاصة، تماماً مثل الفنان الذي يطلع على العديد من اللوحات ليشكل ثقافة فنية، هو لن ينسخ بعد ذلك لوحة يقلدها، لكن تلك الثقافة تساعده في إبداع لوحة فنية جديدة.
كذلك فإن الفائدة الكبرى من دراسة التجارب هو الاستفادة من منطق التفكير وليس الفكرة، من المنهج لا المنتج. فهناك منطق تفكير منضبط حكم كل هذه الاجتهادات السابقة وهي:
– الحفاظ على السمة الحضارية للمسار السلمي.
– تجنيب الاحتجاج مظاهر العنف التي قد يتسبب فيها المحتجون بسبب الحماس والغضب.
– الخط الأمامي للتظاهرة والذي يكون معرضاً للاشتباكات هو مساحة محرمة على عموم المحتجين، فهو مخصص لنوعية معينة من المحتجين الذين سيطبقون التكتيك، وهم الذين يعلنون مسئوليتهم الكاملة عن الحماية، ولا يسمحون لأحد أن يقف معهم إلا إن وجدوا هم حاجة لذلك، وتظل مسئولية الحماية في أعناقهم. وهي ليست مسئولية منع القمع بقدر ما هي مسئولية منع الاشتباك من طرف المحتجين.
– استنفاذ الجهد من التحضيرات اللازمة لإنجاح النشاط، من خلال المجموعات المتخصصة، مثل مجموعات الرصد في الصف الأمامي المزودة بكاميرات ترصد الاشتباكات في حالة وقوعها من قبل قوات القمع حتى لا تترك القضية للقيل والقال ومن الذي استخدم العنف. ومجموعات رصد ديناميكية الحركة على الأرض، موقف رجال القمع، موقف المحتجين، موقف عموم الناس ورضاها عما يجري، وذلك من أجل اتخاذ أفضل قرار، ومجموعات مراقبة الاعتقالات والتصرف السريع معها، ومجموعات التأمين التي تضمن عدم دخول مخرب، ومجموعات الاتصال التي تضمن تناغم المهام بين المجموعات، إلى آخر ذلك من المجموعات التي تعمل على تلبية الاحتياجات اللازمة للنشاط الناجح.

– الحرص على خلق حوار مع قوى القمع.
– تأكيد السلمية من خلال تصميم تكتيات تزيل شبهة أي عنف.
– وضع قوى القمع في موقف محرج في حالة تفكيرها في القمع بدون مبرر حقيقي. فحتى لو فعلت لن تتمكن من اتهام المحتجين بالإرهاب.
– خلق معضلة لدى النظام، إن تركهم ولم يقمعهم يكونون قد أوصلوا رسالتهم، وإن تصدى لهم بعنف يتكشف مدى قبح النظام وقسوته، وهو يرد بقسوة على عمل سلمي محض، هذا القمع يجعل قبح النظام ليس مجرد وجهة نظر لدى فئة قليلة، ولكنها حقيقة مؤكدة يراها الجميع. يرونها في سلوك المحتجين.
– لا يفكر مقاوم اللاعنف في مخاطر القمع، بقدر ما يفكر في كيفية عرض قضيته، وكسب الجمهور إلى صفه، وتحويل القمع إلى أداة في صالحه، لذك فهو لا يتحرك بمنطق عراك الشارع الذي يقوم على رد الفعل والثأر، هو يفكر في ضوء خطة كلية لكسب الجماهير، وكسب بعض قوى القمع ولو على سبيل الوقوف المحايد. لذلك يضبط الحركة بالالتزام بأمرين: قضية عادلة، ووسائل راقية.
– العقوبة جزء من النشاط وليست أمراً سلبياً، خاصة إن تم التمسك بتكتيكات تؤكد السلمية من قبل المحتجين، حينها قد تلفت العقوبة الأنظار إلى عدالة القضية ورقي وسائلها، لذلك نجد بعض المجموعات لا تقاوم الاعتقال، فهي تقوم بالنشاط ومستعدة لدفع تكلفته، لتبرهن على أنها ليست ضد القانون كفكرة، ولكنها ضد القانون الجائر، وتستغل الاستجوابات والمحاكمات في إظهار عدالة القضية وإظهار فساد القانون الجائر. وقد كان غاندي يرى أنه بعد خرق القانون الجائر، على الإنسان أن يقدم نفسه للمحاكمة، فهو ليس مجرماً هارباً من العدالة، واختلف نشطاء اللاعنف حول هذا الموضوع، وهو في النهاية يخضع لدراسة كل حالة على حدة، وهل هي حالة في أجواء ثورية في لحظات حسم، أم حالة تعبير عن موقف وإيصال رسالة.

وائل عادل
هشام مرسي

http://aoc.fm/site/node/806

التعليقات مغلقة.