بل الشعوب تتحرك.. واسألوا المحمول
أين الشعوب؟ لماذا لا تتحرك؟ أسئلة كثيرة من هذا القبيل تتردد، وجوابها يقتضي إدراكاً لفهم تشريح الشعوب، وطبيعة حركتها. فعدم شعورنا بحركة دوران الأرض لا يعني أنها ساكنة!!
يتكون الشعب – بالنظر إليه من زاوية الحراك السياسي – من ثلاث شرائح، قلة مبدعة من المؤسسات والأفراد، تبدع وسائل ومسارات يسلكها الشعب، ومجموعات نشطة (مؤسسات وأفراد) تتسم بالجرأة، مهمتها تجريب ما توصلت إليه القلة المبدعة، ثم عموم الجماهير، وهم المستهلك النهائي للوسيلة الفعالة والمسار الموصل. والشريحة الأخيرة – وهي الأكبر- لا تتحرك إلا عندما تتوفر الوسيلة بتكلفة لا تفوق طاقاتها، وعندما تتأكد من جدواها.
والقلة المبدعة هي قلة ذكية جريئة، تقذف بها الأقدار ليتغير المشهد، إنها قلة تعكف على اكتشاف مسارات فعل جديدة، وتبتكر استراتيجيات ووسائل من طراز مختلف.. هم مهندسو مشروع التغيير وعقله المتقد، هم الذين يرشدون الناس إلى الطريق ويذللون لهم وسائل اجتيازه. وهم حملة البشارة بأن اليوم المشهود قد دنا.. يوم يصيحون مبتهجين بعد عناء.. وجدتُها!!
والناس تنتظر القلة المبدعة حتى في أمورها الخاصة، فمَن منا لم يكن يريد الاتصال بمن يشاء في أي وقت ومن أي مكان؟! لكنها كانت رغبة أقوى من إمكانات الجماهير حتى أواخر القرن العشرين، سيظل الجميع إذن يستخدم الهاتف الأرضي ورسائل البريد والتلغراف، حتى تقوم القلة المبدعة بدورها، لتبتكر الهاتف الخلوي “المحمول”، حينها ستستخدم الجماهير تلك الوسيلة، حتى إنك لتراها في يد الصغير والكبير، لكن مُطالبة الجمهور بأن يبدعها أمر مبالغ فيه يفوق طاقاته. لا يمكن أن نلوم الجمهور كونه لم يخترع الهاتف الخلوي، لكن بإمكاننا أن نوجه العتاب للقلة المبدعة إذ تأخر إبداعها للوسيلة الجديدة.
وكأي وسيلة جديدة، قد لا يثق الجمهور فيها في البداية، إما للشائعات التي تروج حولها، أو لارتفاع تكلفتها، أو لنزعة الخوف من الجديد عند البعض؛ فإن وسائل التغيير لا يُكتب لها القبول مباشرة لمجرد أن القلة توصلت إليها، سيقترب الجمهور منها بحذر.. ثم يستعملها.. ثم يعمل على تطويرها. فهذا ينشيء مركز بيع للهواتف، وآخر يبيع الاكسسوارات وكروت الشحن، وثالث يؤسس مركز صيانة، ورابع يعمل في برمجة الهواتف، وهكذا تترسخ الوسيلة، بل وتتنافس الشركات في توفير خدماتها.. بعد أن كان الجميع يتوجس ريبة منها.
وعندما تتكشف المسارات المذهلة والوسائل الناجعة للتغيير في المجتمعات، يبدأ الشعب في المشاركة في صناعة التغيير من خلال شريحة المجموعات النشطة، فتنشأ مراكز تدريب، وتنتشر المعامل ومختبرات الأبحاث، وتُشيد في المجتمع صروح صناعة جديدة تُدعى “صناعة التغيير”.
أي أن حركة الشعوب تمر بثلاثة أطوار، طور القلة المبدعة، ثم المجموعات النشطة، ثم عموم الجماهير، ونستطيع أن نصف أي شعب بأنه تحرك إذا ما بدأ الطور الأول. ويكون هنا السؤال.. هل اكتملت الحركة؟ هل نمت أطوارها؟ هل بلغت مداها؟
إن الشعوب تتحرك لكننا قد لا نبصر الحركة، لأننا نبحث عن أماراتها أحياناً في المكان الخطأ، نتطلع لحركة الشريحة الثالثة قبل أن تقدم الشريحة الأولى حركة إبداعية مقنعة، ففي حركة الشعوب نجد كل طور مسئول عن تخليق الطور الذي يليه، فالقلة المبدعة مسئولة عن خلق المسارات المقنعة للمجموعات النشطة، والمجموعات النشطة مسئولة عن حفر هذه المسارات وتأكيد فاعليتها وتمهيد السير فيها للجماهير.
ولا ينبغي استعجال الطور الأخير، فالانتباه لاتجاه الحركة أمر بالغ الأهمية، إذا بدأت الحركة في حالات الانسداد وغياب المسارات من الطور الأخير (عموم الجماهير)، أي بدأت بشكل عكسي؛ فهذا يعني فوضى ستحاول القلة المبدعة لاحقاً إيجاد حلول لها، أما إن تمت بشكلها الطبيعي من الطور الأول فهذا يعني تغييراً يتمشى مع الطبيعة، مسارات ممهدة يسلكها الناس بدلاً من أن يموتوا في صحراء التغيير حيث لا توجد طرق.. فقط رمال ملتهبة.
إن الحركة الطبيعية للشعوب أشبه بحركة البشر عند إنشاء طريق مروري جديد!!
فكما أن الجمهور لا يبتكر الهاتف الخلوي فهو كذلك لا يبتكر الطريق، هنا قلة مبدعة تصمم الهاتف، وهناك قلة تصمم الطريق، مجموعات نشطة من العمال في المصنع يحولون التصميم إلى منتج، ومجموعات على الطريق يحفرونه ويختبرونه، عموم الجمهور مستاء من الحفر ويعتبره تعطيلاً، كما أنه متخوف من ذلك الاختراع الجديد، تتفهم المجموعات النشطة هذا الأمر ولا تتهم عموم الجماهير، بل يستمر العمل.. فها هي مجموعات نشطة تؤسس على جانبي الطريق الخدمات المتنوعة من خرائط، وتأمين، وإسعافات أولية، ومجموعات على الجانب الآخر توفر الاكسسوارات والبرامج الخاصة بالهاتف، يُعلَن نبأ افتتاح الطريق وتوفر وسيلة اتصالات فعالة في الأسواق، يبدأ الناس في تجريب الطريق، يكلم بعضهم بعضاً عبر الهاتف: ألو.. نعم تعال.. سنسلك الطريق الجديد.. فيتوافد الناس أفواجاً.
وائل عادل
13/09/2010
http://aoc.fm/site/node/492
التعليقات مغلقة.