ما يحدث اليوم هو صراع مرير على السّلطة وليس على “الدّولة المدنيّة” كما يزعم بعض أنصار جناح الرّئاسة-قيادة الأركان. صراع شديد كثير ما يتخلّله عنف يصل لحدّ الإغتيالات والإعدامات ..كانت بدايته حتّى قبل إندلاع الثّورة في 54، ولكنّه عرف تصاعدا متعاظما مع بدايات الاستقلال ليصل إلى قمّته بعد انقلاب 11يناير 1992.
الواقع أنّ الصّراع على السّلطة في الجزائر ليس جديدا، فقد بدأ قبل الاستقلال وكان من نتائجه تعطيل مسار الثّورة حينا وانحرافه أحيانا، إلى الحدّ الذي شهد اغتيالات سياسيّة لعلّ من أبرزها إعدام ثلاثة من أشهر قادة الثّورة الميدانيّين، وهم العقداء محمّد لعموري ، محمّد نواورة و أحمد عواشرية في عام 59 وقبلهم اغتيال الرّجل الذي سُمّي بمهندس الثّورة، عباّن رمضان.
مسار الصّراع على السّلطة تأكّد يوم زحفت دبّابات جيش الحدود على الجزائر العاصمة، لتسقط مؤسّسات الثّورة القائمة وعلى رأسها الحكومة المؤقّتة. وليستتبع ذلك صمود من مجاهدي الدّاخل الذين رفض أكثرهم زحف دبّابات جيش الحدود على الجزائر…وانهزم خصوم جماعة وجدة فهرب بعضهم وسجن بعضهم وقُتل آخرون…
وليتجدّد الصّراع ثلاثة أعوام بعد ذلك، يوم أسقط وزير الدّفاع العقيد هواري بومدين “الرئيس” أحمد بن بلة و أعلن نفسه رئيسا “لمجلس الثّورة”، وظلّ الصّراع هو الذي يحرّك صنّاع القرار من كبار العسكرييّن، حتّى استولوا على السّلطة مباشرة عندما أراد الرئيس-العقيد بن جديد “تسليم السّلطة لحكومة ٍفعلا منتخبة”، ومن ثمّة خروجه على القاعدة المركزيّة التي رسّخها سطو جماعة وُجدة على السّلطة في صائفة 65 وهي أنّ “الجزائر يحكمها كبار عسكرها”،.
عاد الصّراع ليتجدّد عندما حاول،”الرّئيس” محمّد بوضياف أحد صنّاع الثّورة، إحداث تغييرات، على حين عجل، في هيكليّة السّلطة فكان مصيره الموت اغتيالا على مرأى من العالم.
لم يكن يومها قد أكمل شهورا ستة ًعلى رأس الدّولة التي ظلّ خصما لأقطابها منذ أن فرّ إلى المغرب في 1963.
وعلى الرّغم من أنّ كبار العسكر اختاروا أحدهم على رأس الدّولة في يناير 94، إلاّ أنّ صراع قيادة الأركان والمخابرات مجتمعين مع جناح الرّئاسة أسقط “الرّئيس”-الجنرال اليمين زروال الذي “استقال” ذات 11 سبتمبر1998.
حاول الجنرال-“الرئيس” زروال التمسّك بمنصبه وإحداث تغييرات جوهريّة في هرم السّلطة العسكريّة بتعيين إثنين من الجنرالات الأكثر قربا منه في مناصب حسّاسة في رئاسة الجمهوريّة، الأوّل الجنرال فضيل السّعيدي للقضايا الأمنيّة، فاغتيل في “حادث مروري” في نهاية 96 بالقرب من مدينة غرداية، والثاّني الجنرال محمّد بتشين للقضايا العسكريّة، الذي أصر ّعلى إكمال ماكان قد بدأه على الرّغم من اغتيال صديقه، فكان مصيره هجومات عنيفة في الصّحافة الاستئصاليّة في صائفة 98 ، ترافقت معها مجازر مهولة حدثت في مناطق متعدّدة من البلاد كان أشدّها فظاعة وغرابة، قتل المئات في أحياء لا تيعد أحيانا إلاّ بضعة كيلومترات عن مقرّ الحكم وتحيطها الثكّنات الأمنيّة والعسكريّة من كلّ جانب.
لم يكن الجنرال زروال ومقرّبوه يسعون لتغيير الطّبيعة العسكريّة للحكم، إنّما إحداث تغييرات في شخوص كبار القادة العسكرييّن، الذين عُرفوا بأنّهم غلاة التيّار الاستئصالي، أي أولئك الذين يصرّون على استئصال خصومهم الإسلاميّين و يرفضون أيّ حلّ تفاوضيّ “للمأساة الوطنيّة”، كما كان يحلو للجنرال زروال أن يصف الحرب القذرة التي تفجرّت بُعيد الانقلاب.
وليتدخّل مرّة أخرى كبار الجنرالات باستقدام عبد العزيز بوتفليقة وهو من كان يظنّ أنّه سيكون خليفة بومدين حين وفاته في نهاية 1978.
يومها في نهاية 98، حدث خلاف علنيّ حين هاجم أحد أكثر الجنرالات نفوذا، خالد نزار قائد انقلاب 92 ووزير الدّفاع السّابق، هاجم عبد العزيز بوتفليقة بأنّه لم يكن أكثر من “حصان مغمور ظلّ متعلّقا ببرنوس بومدين…”، أحدث ذلك فزعا في صفوف كبار العسكر قبل أن يتدخّل الجنرال العربي بلخير، أو الكاردينال كما كان يسمّيه أنصاره، ليحسم الصّراع لصالح استقدام وزير خارجيّة بومدين، الذي كان راعيه الأوّل، فقد أقنع الجنرال بلخير زميله السّابق في الجيش الفرنسيّ الجنرال نزار، أن ليس هناك أفضل من بوتفليقة لتبيض “صورة العسكر في الخارج” فهو ابن نظام 62 الذي رسّخ سيطرة العسكريّ على المدنيّ، ثمّ هو يحمل أثقالا من الفساد ستمكّن كبار العسكر أن يحرّكوه على هواهم، إن هو خرج على المسار.
كانت خطابات “الرّئيس” عبد العزيز بوتفليقة، تركّز أكثر ما تركّز على استرجاع السّلم و”الوئام” المدنيّ و صورة الجزائر على السّاحة الدّوليّة…
أي بالضبط ماكان قد اشترطه عليه كبار الجنرالات الذين استقدموه وفرضوه في أبريل 1999، ممّا أدّى بمنافسيه السّت للانسحاب عشيّة الانتخابات بعد أن تيقّنوا أنّهم مجرّد أرانب في السّباق.
على الرّغم من أنّ بوتفليقة جاب العالم لأكثر من مائة مرّة في عهدته الأولى، لإقناعه بأنّ “الجزائر الجديدة هي جزائر مدنيةّ وليست عسكريّة”، وعلى الرّغم من تكريسه لسياسة اللاّعقاب في وئامه المدنيّ في سبتمبر 99 ، وعلى الرّغم من أنّه أرسل طائرة لباريس لإنقاذ الجنرال نزار عندما لاحقه ضحاياه هناك، وعلى الرّغم من أنّه كان يردّد بأنّه”يفضّل أن يكون جثّة على المساس بكبار العسكر…
غير أنّ ذلك لم يشفع له، فقد شنّ قائد الأركان وأكثر الجنرالات دمويّة وأعلاهم رتبة، الفريق محمّد العمّاري، حملة شنيعة عليه بثّتها القناة التّلفزيونيّة الرّسميّة الوحيدة آنذاك على المباشر في ندوة صحفيّة غير مسبوقة لقائد الجيش في جويلية2002 .
كان ذلك بمثابة إعلان حرب من قائد الأركان، الذي أصبح فريقا في خضمّ الحرب القذرة في عام 94 بمناسبة الذكرى الأربعين للثّورة الجزائريّة والتي ويا للسّخرية، كان يقاتل ضدّها لتظلّ الجزائر فرنسيّة حسب ما اعترف به هو نفسه لمجلّة فرنسيّة في 2001.
يتبع…
محمّد العربي زيتوت
التعليقات مغلقة.