الحراك والجزائر ما بعد سنة من انتخابات 12/12
كتب بواسطة :د.عمار جيدل / كاتب وباحث
جاء الحراك بوعي الحاجة إلى جزائر جديدة، تبناها الشعب بكلّ أطيافه وألوانه الفكرية والسياسية، وتبنّت السلطة التي كانت قائمة هذا المطلب، وصل حدّ محاولات اختطافه من الحراك نفسه، فوثق بعض قدماء الحراكيين بادّعاءاتها، فناصر أطروحتها وسايرها في كلّ وعودها، فما الذي تحقّق من وعود 12/12/2019 بعد سنة على مرورها.
هناك مقامات متعدّدة لمعرفة وضع الوطن بعد سنة من 12/12/2019، أوّل هذه المقامات، مقام السلطة، ثم مقام الطبقة السياسية الرسمية (المعتمدة)، وثالثها الحراك بجملة مكوناته (الحركة السياسية الناشئة) و(المنتديات والحركة الجمعوية الناشطة)، وفيها الشخصيات المستقلة. *منابع المأزق في السلطة:
1- تبنّت السلطة الوعد بجزائر جديدة بعد في موعد 12/12، فلم ندخل هذه المرحلة، وبقينا في الجزائر الملمّعة، ولم يتغيّر أي أمر جوهري في السلطة، ولهذا مظاهر عدّة منها على سبيل المثال لا الحصر:
أ- منطق الحكم في الوطن واحد منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا، والمنطق واحد حتى مع تنوّع المضمون الإيديولوجي وتجلياته الاجتماعية والسياسية، مؤدى هذا المنطق أن من هم في السلطة يضعون تصورا لنصوص الدولة والحلول التي يرونها وتفاصيل الوصول إليها، وكلّ من لا يرى رؤيتهم رمي بالعمالة والتأثيم والتخوين وسائر الأساليب المتداولة في العالم الثالث، بل وحتى أساليبها في نشر النصوص واحد منذ اللحظة الأولى من استقلال، مؤداه، تضع السلطة مشروعا بعد تعيين مكلفين بشرحه وتسويقه سياسيا، لهذا يتنوّع الشرّاح وقد تتعاكس اتجاهاتهم بين فترة وأخرى تصل حد التناقض الكلي -يصل 180 درجة- مع الإقرار بوجود اختلاف وحيد -بحسب تقديرنا- بين سلطة وأخرى، يظهر في حجم المساحة الضيّقة المتاحة للرأي المخالف في الشعب الجزائري.
ب- العسكري قبل السياسي مازال هو المنطق السائد منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا.
ت- الصراع داخل السلطة وبين مكوّناتها لا صلة له بالسند الشعبي، لأنّ منطق الحكم لا يعير لها بالا، فالسلطة تحتاج الشعب بعد انتصار فريق من متصارعين على آخر، وليست محتاجة إليه لتحديد الصالح للحكم من غير الصالح له. فالشعب مفعول به في السياسة وليس فاعلا، أي أنّ المادة 07 و08 من الدستور مهملة في حقيقة الأمر والواقع السياسية، فالشعب ليس صاحب السيادة في تقرير شكل النظام فضلا عن تفاصيله.
2- مستوى الطبقة السياسية الرسمية (المعتمدة):
أ- عندما يكون منطق الحكم قارا وثابتا على ما سبقت الإشارة إليه، فإن أحزاب الموالاة هي التي تتقدّم لشرح رغبات السلطة للشعب، ولا تعبّر عن رأي لها في الأمر، فهي قد تطوّعت وبقيت ثابتة على هذا المنطق (التطوّع المدفوع الأجر) لأجل تمرير رغبة السلطة الجديدة في أي فترة كانت وبأي لون كانت.
ب- منطق الحكم المشار إليه يؤثّر أيضا سلبا حتى على القوى السياسية الرسمية التي ينتظر منها نوع نزاهة سياسية، ذلك أنّ منطق الحكم يجعل التفكير في المكاسب السياسية الخفيفة والمرحلية مهيمنا على عقول أصحاب هذه المؤسسات الحزبية، وبهذا يفقد المجتمع (الشعب) التأثير الإيجابي لهذه القوى السياسية في سياسة الدولة، فيكون منطق السلطة سببا في خسائر مضاعفة:
ت- غياب منطق الدولة وثقافتها.
ث- سلب القوى السياسية التأثير الإيجابي في الحياة السياسية.
ج- تشويه (متعمّد وغير متعمّد) أحيانا للقوى السياسية الرسمية، وفي ذلك خسارة للوطن والدولة.
3- الحراك بجملة مكوناته.. تصوّر الحراك: هل هو وعي استعاد بموجبه الشعب الاهتمام بالوطن وفيه إقرار بحاجة الوطن للجميع دون استثناء، أم هو حراك بلون إيديولوجي مخصوص، هذا التنافر في التصور يفرض التفكير الجدي فيما يأتي: هذا الاختلاف في التصور لا يمنع التوحّد على ما يأتي: أ- الابتعاد عن الوقوع في تفرّد السلطة ببعض القوى الحراكية.
ب- الابتعاد عن الاصطفاف الأيديولوجي في الحراك.
ت- التأسيس للحركة الجماعية للحراك، وهذا يفرض وثيقة شرف، يلتزم فيها الجميع برص الصفوف لمنع أهمّ أسباب أزمة الجزائر: الاستبداد وحليفه تدوير الفساد. من خلال قطع الطريق على آلياته القديمة من تأطير المشهد السياسي، وخاصة منطق التفرّد بالدولة، وهيمنة العسكري على السياسي والإهمال العملي للسيادة الشعبية.
ث- الحذر من معارضة المعارضة نيابة عن السلطة، التركيز على جمع كلمة الحراكيين، وتطهير الجو من الاستفزاز الذي يطال الدين والوحدة الوطنية.
4- (الحركة السياسية الناشئة): كان الجو مواتيا لظهور قوى سياسية ناشئة نريدها أن تكون ظهيرا للحراك وليست بديلا عنه، تعدّ قيمة مضافة للحراك الشعبي المبارك، تعبّر عن مطالبه بشكل صريح، وهذه القوى الناشئة لم تتح لها فرصة المساهمة في النهضة السياسية الراشدة، لأنّ منطق الحكم السابق ما زال قائما.
5- الحركة الجمعوية الناشطة والمنتديات: تتحرّك هذه المنتديات بحسب تصوّرها لماهية الحراك، فهل الحراك غضب وقتي مرحلي أم هو وعي مستمر استعاد بموجبه الشعب الوطن من تصارع العُصَب إلى منطق دولة ينشئها الشعب ويبنيها وينميها ويحميها.، وبحسب التصور بقيت هذه المنتديات اختارت بعضها نقاهة حراكية وأخرى بقيت وفيّة للناشط الحراكي، واختارت أخرى التوقّف عن المساهمة الوطنية الجادة.
* المتفق عليه بين الجميع:
1- اتفقت كلمة من هم في السلطة و الموالاة و المعارضة على أنّ الجزائر ينبغي أن تُطَلِّقَ الأساليب القديمة في الحكم والوصول إلى السلطة والبقاء فيها، على الأقل من الناحية النظرية، والتي بناء عليها نحاجج من مال عن هذا الاختيار. 2- اتفقت السلطة والمعارضة على أنّ الحراك لحظة تاريخية فارقة في تاريخ الجزائر، والأحسن أن نجعلها لحظة انطلاقة الجزائر الجديدة.
3- الكل يريد حلّ المعضلات السياسية وإصلاح نظام الحكم، ويعتبرها الجميع مطلبا وطنيا شرعيا وأخلاقيا في ظل ظروف عادية، وهو أكثر ضرورية في هذه الظروف الصعبة اقتصاديا وسياسيا. 4- يتّفق الجميع على أن الجزائر المنشودة هي جزائر التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة على الإصلاحات العميقة ذات السند الشعبي، ويعد هذا الإصلاح أساس الانطلاقة الاقتصادية والاجتماعية وحتى الحضارية للدولة الجزائرية.
* متطلبات هذا التوافق:
1- النضال الحقيقي ليس في إقناع السلطة بوجهة نظرك، بل النضال الحقيقي أن نساهم جميعا -بما فيهم بعض الموجودين في السلطة- في تغيير منطق الحكم؛ فما لم نُبَدِّل منطق الحكم، فليس من المأمول تحقيق منجز حقيقي، والذي يظن أنّ التعويل على الأشخاص عوض الاجتماع على الأفكار والمبادئ يرهن مستقبل الوطن، ذلك أنّ الاعتماد على الأشخاص بدل الأفكار والمبادئ، يعرّض مكاسب الحراك المجمع عليها للخطر، لأنّ الأشخاص بمعزل عن الأفكار مهما كانوا، صدقا وإخلاصا وذكاء، لا يحل المشكلة بل يكون هذا المنطق سببا في تعقيدها، ذلك أنّ هذا المنطق لا يمنع من وصول أشخاص آخرين بمواصفات مغايرة إلى دفة الحكم، وبهذا يصبح المستقبل مرتبطا بأمزجة الأشخاص الجدد، عوض أن يحكم بمنطق يتحمّل الشعب بموجبه تبعات اختياره، لهذا كما يقال في الحكمة: ليس الزعماء من يجعلون الناس يثقون بهم، بل هم الذين يجعلون الشعب يثق بنفسه وقدرات مكوّناته على إحداث الوثبة السياسية الراشدة.
2- كان المنتظر -وفق منطق الحراك الذي ادّعى الجميع تبنيه- أن نرجع إلى الشعب من خلال قواه الحية في السياسة والاجتماع والتربية والثقافة و…في وضع تصوّر للحكم؛ فإشراك الجميع في وضع التصور والتصرفات السياسية والإجرائية المطلوبة، وبهذا ويسهم الجميع في تحميل الجميع مسؤولية تحمّل التبعات.
3- منطق الحراك لا يقوم على التمييز بين نضال بعض مجموعات الشعب وقواه الحيّة، إنّها تمثّل مجموع نضالات الشعب الجزائري، ولا يمكن أن تلغيه الرغبات، ومن ثمّ فمن أوليات الحراك الابتعاد عن القيام بوظيفة معارضة المعارضة، فتستعمل واقي صدام في التزاحم السياسي مع غير أهله.
* الحلول:
1- تجاوز منطق التفرّد والأحادية في تقرير مستقبل الوطن:
وهذا يفرض إجراءات مؤسسة على منطق جديد، يتجاوز منطق الإملاءات في مسائل لا يقبل فيها الإملاء، منطق مؤسس على المشاورات الواسعة والجادة مع جميع مكونات الشعب الجزائري، وعلى رأسها القوى الحية الحقيقية في المجتمع المدني من أحزاب ناشئة والأحزاب النزيهة وجمعيات ومجتمع مدني ومنظمات غير الحكومية، ومن بمقدوره أن يتبنى الحراك في السلطة بوصفه وعيا يتجاوز المنطق القديم في تأسيس السلطة واستمرارها (رفض منطق أنّ السلطة هي الدولة، السلطة تعود للشعب بشكل واضح وسلس).
2- تجاوز منطق الإفراط والتجاوزات التي طالت الحراك، أو وقع بعض أهله ضحية لها، وخاصة الاصطفاف وترغيب السلطة وترهيبها.
3- العودة الجادة للشعب في تقرير مستقبل الوطن:
أ- إنشاء أحزاب بمجرّد التصريح وفق منطق إنشاء المؤسسات، والشعب هو الذي يعطيها الاعتماد والسلطة المنبثقة عن انتخابات حرّة ونزيهة تصادق على قرار الشعب، وليس العكس.
ب- الاتفاق الجماعي على وثيقة شرف بين الجميع مفادها: البُعْد عن ثقافة تصفية الحسابات، وضمانات التأسيس لوضع سياسي جديد، يمنع حدوث التجاوزات في المستقبل، ويؤسس لمرحلة وطنية مبناها عملية سياسية لا تقصي أحدا من تقرير مستقبل الوطن سياسيا.
ث- استعادة ثقافة الدولة والابتعاد عن منطق العصب، فيكون الحاكم القابل ضامنا لمنع الارتكاس والعودة إلى منطق المجموعات المتحالفة ضد مصلحة الوطن والتي تعمل على تصفية خصومها (هي) ومهادنة أعداء الوطن.
ج- الإيمان والوعي بأنّ التغيير مستغرق في الزمن، عملية متدرّجة لا تنال بغير نضال جماعي مستمرّ ومتنوّع، مبناه الثبات على الوعي الحراكي المؤسس لاستعادة الاهتمام بالوطن بناء وحراسة وتنمية، والحفاظ على سلمية المسعى، والتفكير الجدي في الانتظام الجزئي المفضي إلى الوحدة الجامعة على مطالب الحراك الأساسية إزالة الاستبداد وتدمير مؤسسات تدوير الفساد.
صحيفة الأمة الإلكترونية .
التعليقات مغلقة.