الإستبداد السياسي والتمجُّد

98

د.خالد صالح الحميدي

تردَّدَت عبارات، بعضها مثير للتساؤل، عبر الفضائيات الناقلة للمشهد اليومي لبعض الشوارع العربية الثائرة.. من مثل: «الاستبداد» و»الطغيان» و»المجد».. وإذا كان الاستبداد في التراث العربي والإسلامي عنى: الحزم، وعدم التردّد في اتخاذ القرار وتنفيذه على قاعدة العدل، وهذا ما عناه الإمام محمد عبده حين انحاز إلى المستبد العادل.. إلاّ أن الاستبداد عنى بعد ذلك، حين افتقد لعنصر العدل: «الطغيان»، بما هو حُكم يستأثر بالسلطة دون خضوع لقانون، ودون النظر إلى رأي المحكومين، بل هو حكم قائم على الاستقلال بالرأي، والأنفة عن قبول النصيحة، وافق الشرع أو خالفه، ناسب السُنَّة أو نابذها.. وإن كان يُطلق، أيضاً، وبشكل مجازي، على استبداد النفس على العقل، وتحكّم الزوج في أهله وأولاده، والأستاذ في طلابه.. وغير ذلك!

ونجد للاستبداد توصيفاً مثيراً لدى عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، إذ يقول: «الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب، لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المَسْكَنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي.. فالمال، المال، المال»!؟ هذا التعريف أورده الكواكبي في معرض إجابته عن تساؤلات المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، حول سبب انحطاط العالم العربي والإسلامي، إذ يقول: كلّ يذهب مذهباً في سبب الانحطاط في الشرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً.. وقد تمحّص عندي أن أصل هذا الداء هو «الاستبداد السياسي» الذي لا بد من دفعه بالشورى، وأن أي إصلاح قبل هذا سيذهب هباء! لأن الكواكبي يرى: أن الاستبداد ليس سببه التهاون في الدين، بل استخدام الدين لتوطيد الاستبداد، وليس سببه الجهل، لأن المُستَبِد لا يخاف من أحد قدر خوفه من العلم والمتعلمين، ولهذا فهو يبذل جهده لنشر الجهل ومحاربة العلم، فالاستبداد والعلم ضدان متغالبان. كذلك، يرى الكواكبي، أن الاستبداد يتسبب في إفساد الأخلاق، حيث يجعل الإنسان يكفر بِنِعم مولاه ويجعله حاقداً على قومه فاقداً لحب وطنه ضعيف العلاقة بعائلته، لأنه ببساطة، أصبح أسيراً للاستبداد، فبفقده لحريته فقد أخلاقه.. يؤدي ذلك إلى أن تتحول عباداته إلى عادات، لأنها فقدت غايتها الأسمى في الرقي بأخلاقه!

ما دعاني إلى كتابة هذا المقال، ليس البحث عن معنى الاستبداد والطغيان فقط، بل عن معنى «المجد» الذي يدعيه ذلك الحاكم الذي يظهر على الفضائيات، متوهماً تمام الكمال، وامتلاك الحقيقة الكلية التي لا يأتيها باطل لا من بين يديها ولا من خلفها! ويصفه الكواكبي بالمستبد الطاغي المتمجِّد، أي أنه يُغالب المجد ويقيم مقامه التمجُّد.. وإذا كان المجد إحراز المرء مقام حب واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي وشريف لكل إنسان، لأنه بذل للنفع العام على سائر المستويات.. وميسَّر في عهد العدل لكل إنسان حسب استعداده وهمته، إلا أن التمجُّد نقيض المجد، لأنه خاص بالاستبداد والطغيان والفساد، يتقلد فيه المُتمجِّد سيفاً ليبرهن به أنه جلاّد، أو يُعلِّق على صدره أوسمة القتل والظلم، أوسمة الجلاّد في دولة الطغيان.. لا بل ويظهر علينا هذا الطاغية وقد أرغم المُتمجِّدين الصغار، من الساسة والمثقفين والأراذل والمرتزقة، على الالتفاف حوله كأنصار! إذ إن المستبد المُتمجِّد لا يكون كذلك إلا بالمستبدين المُتمجِّدين حوله، وهم أهل النفاق والرياء والنفع الدنيوي.. فدولة المُتمجِّد والمُتمجِّدين دولة أوغاد، وتسلط وطغيان، من أعلى السلم إلى أسفله، حتى الشرطي وكنَّاس الشوارع، الذين لا يدينون لدين أو ذمّة، لا بل أسفل المُتمجِّدين أعلاهم وظيفة وقُرباً من المُتمجِّد، يعتبرون الوطن ملكاً لهم، والمواطنين أعداء موضوعيين! فيوغلون في العسف والظلم والنهب والفساد والقمع والإرهاب، فينشبون أنيابهم ومخالبهم في لحم الشعب، الذي لو تُرك لما قلَّد القيادة لمثل هذا المُتمجِّد، ولحاربوه وبطانته وحاشيته من المُتمجِّدين..

فما أحوج الشعوب المُستَبَدة إلى حكم يقوم على دين الإسلام وشريعته، وتعاليم الرسول ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ خاصة، أن هناك تجارب للحُكم القائم على الشريعة الإسلامية وعلى الشورى قريبة منهم! وإذا كان للاستبداد تربة خصبة في بعض الدول، إلا أن الجزيرة العربية، كما يقول الكواكبي نفسه: لا يكاد أهلها يعرفون الاستبداد من قبل عهد ملوك تبّع وحمير وغسان، إلى الآن!

http://www.aleqt.com/2011/03/18/article_516092.html

التعليقات مغلقة.