في ذكرى أول انتخابات تشريعية حرة و نزيهة في الجزائر
بعد قليل سيُسدل الستار على أول انتخابات تشريعية حرة و نزيهة ليس فقط في الجزائر و إنما في العالم العربي كله.
و في اليوم الموالي ستُعلن النتائج من طرف وزير الداخلية، الجنرال العربي بلخير و سيُصاب الجميع بالصدمة و الذهول.
فقد انتخب الشعب الجزائري، في مثل هذا اليوم 26 ديسمبر من عام 1991، قوى إسلامية راديكالية، كما توصف، بنسبة فاقت الـ 80 بالمئة من المقاعد (188 مقعد) التي حُسمت في الدور الأول، و جاءت جبهة القوى الإشتراكية و هي حزب علماني يساري في الرتبة الثانية بـ 25 مقعدا و تلاها حزب جبهة التحرير الوطني و هو الحزب الواحد، الذي ظل حاكما و لو شكليا، في الرتبة الثالثة بـ 16 مقعدا، كما فاز مستقلون بـ 3 مقاعد في منطقة غرداية.
و أشارت النتائج أن الدور الثاني سيكون مُشابها، إن لم يكن أكبر، بالنسبة لفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، و لم يفز أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى مثل حزب النهضة للشيخ عبد الله جاب الله، أو حزب حماس للشيخ محفوظ نحناح، كما لم تفز قوى يسارية راديكالية ممثلة في حزب العمال التروتسكي لصاحبته لويزة حنون أو للحزب الشيوعي لصاحبه الهاشمي شريف أو لحزب البربيريست المسمى التجمع من أجل الثقافة و الديموقراطية لصاحبه سعيد سعدي.
كانت هذه النتائج صدمة، ليس فقط، لخصوم الجبهة الإسلامية و لكن لأنصارها و قادتها أيضا، فلم يكن أحد يتوقع أن الجبهة التي تعرضت لحملة تشويه إعلامي غير مسبوق قبل ذلك، و تعرضت لاتهامات بأنها تُناصر و تدعم الإرهاب خاصة بعد عملية قُمار، في نهاية نوفمبر 1991، و التي قتل فيها عدد من المجندين، و نسبت الى جماعة إسلامية، كما تعرض بعض كبار قادتها للإعتقال و على رأسهم الشيخ عباسي مدني و نائبه الشيخ على بلحاج، لم يكن أحد يتوقع في هذه الظروف و الأوضاع أن يفوز حزب، أنشئ قبل سنتين، بهذه النسبة من المقاعد لذلك تساءل الكثيرون، إذا كان الجزائريون قد اختاروا الإسلام السياسي فلماذا فازت الجبهة الإسلامية بـ 188 مقعد من أصل 232 حُسمت في الدور الأول، في حين لم يفز أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى و لو بمقعد واحد.
و في نفس الوقت، لم يكن مفهوما إذا كان الشعب الجزائري قد اختار القطيعة مع النظام، لماذا لم ينتخِب و لو شخصا واحدا من الأحزاب التي تدعوا الى القطيعة الكاملة و الشاملة مع النظام خاصة الحزب الشيوعي و الحزب التروتسكي.
الواقع أن الشعب الجزائري كان يريد من يدعو للقطيعة الشاملة و التغيير الجذري و الكامل بالوسائل السلمية ( و هو ما دعت إليه مثلا هذه الأحزاب اليسارية ) و أن يكون البديل هو المرجعية الإسلامية ( و هو ما دعت إليه الأحزاب الإسلامية الإصلاحية مثل حزب النهضة و حماس).
الوحيد الذي جمع الأمرين معا ، القطيعة الجذرية و المرجعية الإسلامية، كان حزب الجبهة الإسلامية. و كان ما تعرضت له الجبهة من تشويه إعلامي و من ضغط أمني عسكري أكسبها تعاطفا آخرا من طرف الشعب الجزائري الذي يبني مواقفه في كثير من الأحيان على الدفاع عن المظلوم و لو اختلف معه.
كانت هذه الإنتخابات زلزالا سياسيا صادما و مخيفا لكل خصوم الإسلاميين و خاصة كبار قادة الجيش، و بعض كبار الساسة و الوزراء المدنيين، فاجتمع هؤلاء و هؤلاء ليقرروا مصير الجزائر و مصيرهم، هم بالأخص، إذا ما كُتب لهؤلاء أن يتولوا السلطة عبر صناديق الإنتخابات هذه و وفق إرادة الشعب الجزائري الصريحة و الصحيحة.
فتوالت الصرخات و الصيحات، لضرورة إيقاف هذه الإنتخابات بأي شكل، و نُودي على الرئيس الشاذلي بن جديد أن يمارس صلاحياته و يلغي هذه الإنتخابات، و لكن الرجل أكد مرة أخرى، و هو الذي كان قد تحدث في ذلك قبل أيام، أنه سيختار إرادة الشعب أيا كان الفائز و سيتعامل و يتعاون مع أي حكومة تأتي بها الصناديق.
قبل أن تتكرر الدعوات الى إلغاء هذه الانتخابات، شنت وسائل الإعلام الغربية، و الفرنسية على الأخص، حملة تشويه مست الكثير من قادة الجبهة الإسلامية و نُسب لهؤلاء الكثير بما فيها أنهم ” طالبوا الشعب الجزائري أن يغير ملبسه و مأكله و طريقة عيشه إبتداءا من الآن “.
ما هي إلا أيام و يدعو حسين آيت أحمد، أحد قادة ثورة 54، رئيس حزب القوى الإشتراكية، الذي جاء ثانيا و لكن بفارق كبير، الى مظاهرة رُفع فيها شعار لا للدولة البوليسية، لا للدولة الأصولية.
و قيل أنها ضمت مئات الآلاف من الجزائريين، و دعت الى مواصلة الانتخابات و الى اختيار معارضي الجبهة الإسلامية في الدور الثاني، سواءا كانوا من جبهة التحرير أو من جبهة القوى الاشتراكية أو ممن بقي من الأحزاب الأخرى في حلبة السباق في الدور الثاني.
و لكن هذه المظاهرة بالذات ستُستغل أيضا للقول من أن حتى حزب جبهة القوى الإشتراكية يريد إلغاء الإنتخابات و هو ما لم يكن صحيحا، وسيُثبَت ذلك في الأيام الموالية عندما يرفض رئيس حزب جبهة القوى الإشتراكية إلغاء المسار الإنتخابي و يرفض طلب الجنرالات أن يكون جزءا من هيئة رئاسية خماسية كان يُرتب لها بعد إقالة الشاذلي بن جديد.
كما أن أكبر الخاسرين و هو حزب جبهة التحرير الوطني بقيادة عبد الحميد مهري، أحد وزراء الحكومة المؤقتة للثورة، رفض رفضا قطعيا التلاعب بإرادة الشعب، و دعا الى تمكين الجزائريين من التعبير عن رأيهم، و أن فوز إسلاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليس خطرا على الجزائر كما يُشاع، و إنما هو بداية مسيرة ديموقراطية في الجزائر.
إنضم الى الداعين الى الغاء هذه الانتخابات عدد مما سُمي آن ذاك بوجوه المجتمع المدني و على رأس هؤلاء بعض المسؤولين في ما كان يُعرف آن ذاك بالمنظمات الجماهيرية، بما فيها منظمة إتحاد النساء ، منظمة المجاهدين، منظمة أبناء الشهداء، منظمة اتحاد الفلاحين و آخرين، و لكن أهم هؤلاء كان رئيس النقابة العمالية الوحيدة المعترف بها و هوعبد الحق بن حمودة (سيُغتال في 1996 و يُنسب اغتياله الى جماعة إسلامية). هؤلاء، مع شخصيات حزبية يسارية، يمينية و بربرية … شكلوا، و بدعم كبير من جنرالات الجيش، ما عُرف بـ” جبهة إنقاذ الجزائر” و هي التي ستُنادي، باعتبارها قوى مدنية، بإلغاء الإنتخابات.
الواقع ان الجنرالات كانوا في ذات الوقت يجتمعون في لقاءات وُصفت بالماراتونية لاتخاذ القرار، أو بالأحرى مجموعة من القرارات. فلقد أرغموا الرئيس الشاذلي بن جديد على الرحيل، و قرروا إلغاء الإنتخابات و حل المجلس الشعبي الوطني السابق حتى لا يتمكن رئيسه من رئاسة الجزائر لفترة الـ 45 يوم كما ينص على ذلك دستور 1989، و أنشؤوا مجلسا أعلى متكونا من 5 شخصيات، و اتصلوا بالمعارض محمد بوضياف، و هو أحد قادة الثورة، بل أحد مفجريها، ليرأس المجلس الأعلى للدولة، و هو الذي ظل لاجئا في المغرب لما يقارب 28 عاما، بعد خلافات على السلطة نشبت مع مجموعة وجدة، و أهم أعضائها بن بلة، و بومدين، و عبد العزيز بوتفليقة، الذين استولوا على الحكم بدبابات جيش الحدود.
و استُقدم بوضياف على عجل، سرا في الحقيقة، قبل أن يُستقدم رسميا في 16 يناير و هو التاريخ الذي كان محددا للدورة الثانية للإنتخابات التي أعلِن عن إلغائها رسميا كما أعلِن عن استقالة الشاذلي بن جديد يوم السبت 11 يناير 1992.
سيستتبع ذلك فتح أبواب الجحيم على الجزائريين و سيؤدي ذلك الى مقتل العشرات من الآلاف، حيث تُقدر الإحصاءات الرسمية أن عدد الذين قُتلوا يزيد عن الـ 200 ألف، أكثرهم مدنيون قُتل بعضهم في مجازر مروعة و بشعة، و سيمر على السجون مئات الآلاف يختفي منهم الآلاف الى الأبد، و سيُهجر الملايين داخليا و خارجيا، و سيصاب الملايين بأمراض مزمنة سببها الرعب و القلق، كما سيؤدي ذلك الى دمار هائل للإقتصاد و للسياسة و للثقافة و للمجتمع و لبلد المليون شهيد، و يستمر هذا الخراب بعد 21 عاما من تلك الإنتخابات و من قيام لجنة إنقاذ الجزائر.
وثيقة تاريخية للإطلاع:
الجريدة الرسمية عدد 4 يناير 1992 التي نشرت تفاصيل نتائج الإنتخابات.
التعليقات مغلقة.