إبن تيمية ومعركة الحرية 4 – حاتم المطيري

366

(4)
انهيار المشرق الإسلامي والتجديد السياسي والديني

(إن العدل نظام كل شيء، فالله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة) ابن تيمية

بقلم أ.د. حاكم المطيري
9 شعبان 1437هـ
16 مايو 2016م

لم يقتصر الانهيار في المشرق الإسلامي بعد الاجتياح المغولي الوثني منذ سنة 616 هـ حتى 716 هـ على الانهيار العسكري والسياسي فحسب، بل كان الأخطر من ذلك هو الانهيار الروحي والديني الإيماني، وشيوع العقائد الوثنية المغولية، وعاداتها الجاهلية، حيث راجت سوق الشعوذة والسحر والتنجيم وعبادة القبور والكواكب، وتحكيم قانون الياسق وشريعة جنكيزخان، مدة قرن كامل من السيطرة المطلقة لإمبراطورية جنكيزخان وورثته على المشرق الإسلامي من حدود الصين شرقا إلى حدود الشام غربا، ونحو مدة قرنين من السيطرة الأوربية الصليبية على سواحل الشام، التي لا تقل في تأثيرها الديني والثقافي في المناطق التي احتلتها غربا، عما أحدثته الحملة المغولية في المشرق، وأصبح العالم الإسلامي فيها بين فكي كماشة، وأصبحت أحكام الدين الإسلامي بشقيها التوحيدي العقائدي والتشريعي الفقهي تتزعزع إيمانيا، وتتضعضع عمليا، وتتراجع سلوكيا أمام سطوة العادات الوثنية الشرقية، والثقافة الصليبية الغربية، وستكون المهمة الرئيسية التي سيقوم بها بعد ذلك ابن تيمية هي بعث الروح الدينية من جديد، وإحياء الاجتهاد الفقهي والتجديد، لمواجهة هذه الجاهلية العاتية، حيث كان ابن تيمية أشهر من رصدها، ودرس مظاهرها، وحذر من خطرها، كما سيأتي بيانه، وقد قال عن تلك المظاهر الشركية التي راج سوقها حيث امتد سيف التتار وسلطانهم : (وهذه الأمور تكون كثيرة عند من يكون مشركا أو ناقص الإيمان، وعند التتار من هذا أنواع كثيرة، ولا سيما دولة تمرخان وأتباعه، فإنهم سحروا الناس سحرا لم ير مثله، وأظهروا أحوالا لا حقيقة لها، فوافقت قدر الله، فعملت أعمالها، وذلك لما ضعف الإيمان بالشام، وقل نور النبوة، فظهر تأثير تلك الأحوال في الناس لضعف الدين، وامتلاء القلوب من حب الدنيا، وظهور مناكير معروفة، وكثرة الخبث، وقلة الطيب… ولهذا الدجال إنما يخرج من قبلهم، وبلادهم وهم أتباعه، ويظهر على يديه من الأحوال الشيطانية والأمور الزنديقية ما يحار له الناظرون، وهو كافر بالله العظيم، وأما الداخلون في الإسلام إذا لم يحققوا الإيمان والتوحيد واتباع الرسول، فتجد غالبهم ممن يعتقد بالشيوخ والبله وأصحاب الأحوال الشيطانية، ويأتي أحدهم إلى قبر الشيخ ويدعوه ويكشف رأسه عند قبره، ويطلب حاجته منه، ويستغيث به، ويستنصر به، وكل ذلك من ضعف الإيمان).[1]
وقال أيضا عن شيوع ظاهرة التقليد والتشبه بفارس والروم واليهود والنصارى في هذه الفترة:(وهذه المشابهة لليهود والنصارى، وللأعاجم من الروم والفرس، لما غلبت على ملوك المشرق هي وأمثالها، مما خالفوا به هدي المسلمين، ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله؛ سُلِّط عليهم الترك – التتر – الكافرون الموعود بقتالهم، حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجر في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله صلى الله عليه وسلم : “لتركبن سنن من كان قبلكم”[2]،… وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاثة من عادة أهل الكتاب والأعاجم، ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة).[3]
وقال أيضا عن أثر السيطرة المغولية على المشرق وشيوع البدع والعادات الجاهلية: (وإنما أحدثه في ظني بعض ملوك المشرق من أهل فارس، فإنهم أحدثوا في أحوال الإمارة والقتال أمورا كثيرة، وانبثت في الأرض، لكون ملكهم انتشر حتى ربا في ذلك الصغير، وهرم فيها الكبير، لا يعرفون غير ذلك، بل ينكرون أن يتكلم أحد بخلافه…).[4]
كما لاحظ ابن تيمية الارتباط بين السيطرة المغولية الوثنية في المشرق، والعبيدية الباطنية في المغرب، وشيوع العادات والمظاهر الشركية، في هذه الدول الجاهلية، فقال: (وهؤلاء يكثرون في أماكن الفترات التي تضعف فيها آثار النبوة، إذا لم يكن هناك من يقوم بحقائقها، وهؤلاء يكونون في الدول الجاهلية كدولة بني عبيد ودولة التتار).[5]

أثر الهزيمة النفسي والفكري على المشرق الإسلامي:
لقد كان للهزيمة العسكرية أمام جحافل جيوش المغول تداعياتها الفكرية والنفسية على العالم الإسلامي، وتجلى ذلك بانحراف الصوفية الفلسفية والسلوكية، واستشراء القول بالحلول والاتحاد على نحو غير مسبوق، لم يكن معروفا عند أئمة الصوفية قديما، كردة فعل تجاه تلك الكارثة، وتفسير ما جرى ويجري للأمة على أنه عقوبة ربانية، وهو إرادة الله، والتتر هم الذين نفذوا إرادته، والإرادة الكونية تقتضي عندهم الإرادة الشرعية، فكل ما يجري هو مما يحبه الله ويرضاه، وما ثم في الوجود إلا الله، ولن يقف أحد في وجه التتار، لأنه إنما يقف أمام قدر الله، ومن يدعو إلى جهادهم إنما يتحدى إرادة الله!
وقد جرى جدل بين ابن تيمية وأحد شيوخهم حول هذه العقيدة، فقال: (وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار آخر قدماتهم، وكنت أحرض الناس على جهادهم، فقال لي هذا الشيخ: أقاتل الله!
فقلت له: هؤلاء التتار هم الله؟! وهم من شر الخلق! هؤلاء إنما هم عباد الله، خارجون عن دين الله، وإن قدر أنهم كما يقولون، فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله! وقول هذا الشيخ لازم لهذا وأمثاله).[6]
وقال ابن القيم: (وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عاتبت بعض شيوخ هؤلاء، فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراد [لله]، فأي شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون، وعاداهم، ولعنهم، فأحببتهم أنت، وواليتهم، أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له؟ قال: فكأنما ألقم حجرا).[7]
لقد كان الواقع السياسي -الذي يعيشه العالم الإسلامي وهو يواجه الخطر الداهم شرقا وغربا، والموقف من الجهاد في سبيل الله، وتحكيم شرعه، والتصدي للتتار والفرنج وحلفائهم في الداخل عسكريا وفكريا- هو المؤثر الرئيس في مواقف ابن تيمية تجاه مخالفيه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.
وقد كان سبب تأليف ابن تيمية لكتابه “العقيدة الواسطية” هو شيوع مظاهر الجاهلية والوثنية في دولة التتر، التي امتدت كإمبراطورية لمدة قرن من أقصى تركستان شمالا وشرقا، إلى الهند جنوبا، والعراق غربا، حيث يقول: (فحضّرت ” العقيدة الواسطية ” وقلت لهم : هذه كان سبب كتابتها أنه قدم علي من أرض واسط بعض قضاة نواحيها، شيخ يقال له: “رضي الدين الواسطي” من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجا، وكان من أهل الخير والدين،وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر، من غلبة الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم، وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيت من ذلك، وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة؛ فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال، وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة، وأنا قاعد بعد العصر، وقد انتشرت بها نسخ كثيرة؛ في مصر والعراق).[8]
وقال عن فسادهم، وعن شيوع الشرك فيهم، وبسببهم: (وقد قال مالك: “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أو لها”، ولا ريب أن الأمر كما قاله مالك، فكثير من هؤلاء الذين يعظمون القبور والمشايخ ويستغيثون بهم ويطلبون حوائجهم منهم يطيعهم الشياطين بسبب ذلك في بعض الأمور، وذلك من جنس السحر والشرك… وأنا أعرف من هؤلاء عددا كثيرا بالشام ومصر والحجاز واليمن، وأما الجزيرة والعراق وخراسان والروم؛ ففيها من هذا الجنس أكثر مما بالشام وغيرها، وذلك لأن ظهور هذه الأشياء من الأحوال الشيطانية التي أسبابها الكفر والفسوق والعصيان في تلك البلاد أقوى وأظهر، وظهور الإسلام والسنة وإخلاص الدين لله في أرض الشام أقوى من سائر البلاد؛ فلهذا ضعفت هذه الأحوال الشيطانية وأنكرت، وإذا ظهرت ولم تنكر ولم تغير قويت واشتدت شوكتها، فحيث قويت الأحوال الرحمانية الإيمانية المحمدية والتوحيد ونور القرآن وظهرت آثار النبوة والرسالة ضعفت هذه الأحوال الشيطانية، فإن سلطانها إنما يقوى وتعظم جنوده في بلاد أهل الكفر والفسوق والعصيان، كبلاد جنكيزخان والهند والروم…).[9]
وقال عن مظاهر الوثنية في تعظيم القبور ودعاء الأموات -التي شاعت شيوع الجاهلية التي عمت بعد حكم التتار للمشرق الإسلامي؛ مما ينافي حقيقة التوحيد الذي جاء به الإسلام، وتأثر كثير من المسلمين وعلمائهم وصالحيهم خطاهم-: (فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، ولا بلفظ الاستعاذة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا لغير ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله تعالى ورسوله، لكن لغلبة الجهل وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذا أعظم ما بينته لنا؛ لعلمه بأن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى يدعون الأموات ويسألونهم ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر راجين قضاء حاجتهم بدعائه والدعاء به، أو الدعاء عند قبره، بخلاف عبادتهم الله تعالى ودعائهم إياه، فإنهم يفعلونه في كثير من الأوقات على وجه العادة والتكلف، حتى إن العدو الخارج عن شريعة الإسلام لما قدم دمشق خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم!
وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر … لوذوا بقبر أبي عمر …
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر … ينجيكم من الضرر …
فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه كان قد قضى الله أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، ولحكمة الله عز وجل في ذلك، ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله، ولما يحصل في ذلك من الشر والفساد وانتفاء النصرة المطلوبة من القتال، فلا يكون فيه ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة، لمن عرف هذا وهذا، وإن كثيرا من القائلين الذين اعتقدوا هذا قتالا شرعيا أُجروا على نياتهم، فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل والاستغاثة به وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب ولا نبي مرسل، كما قال تعالى يوم بدر: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر يقول: “يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث”، وفي لفظ: “أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك”، فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصرا عزيزا، ولم تهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من تحقيق توحيد الله تعالى وطاعة رسوله ما لم يكن قبل ذلك، فإن الله تعالى ينصر رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).[10]

الفوضى في المشرق وتداعيات الهزيمة عسكريا وأمنيا:
لقد كانت آثار الهزيمة -التي تعرض له المشرق الإسلامي، خاصة بعد فرار السلطان جلال الدين الخوارزمي، آخر ملوك خوارزم وانهيار جيشه، الذي كان سدا منيعا في وجه الغزو المغولي في بداية هجومه- كارثة كبرى عسكريا وأمنيا، حيث حلت الفوضى، وشاع الخوف، وكثر القتل، وتحول الجيش الخوارزمي بعد ذلك إلى عصابات تمارس القتل والنهب والسبي مدة ثلاثين سنة، وتفرقوا في الشتات حتى وصلوا إلى الشام والقدس ومصر؛ فأثاروا الرعب أشد مما فعل التتار، كردة فعل نفسية عنيفة، لما تعرضوا له من انهيار بعد أن كانوا يحكمون المشرق الإسلامي كله، وكانتقام من الأمة التي تقاعست عن نصرتهم ونجدتهم، حتى حكموا عليها بالردة، كما حكى الذهبي عنهم، بعد هزيمة التتار لهم، وتفرقهم في البلدان: (فبقي الخوارزميون يعيثون، ويفسدون أي شيء وجدوه… ثم إن ابن السديد التفليسي قصد الإصلاح ظنا منه أنهم يشبهون الناس، وأن لهم قولا وعهدا، فخرج يطلب الأمان لأهل المدينة أجمعين المسلمين والكرج واليهود، فأخذ خط جلال الدين وأخيه غياث الدين وحميته وختومهم، ولوحا من فضة مكتوبا بالذهب يسمى بايزة، وتوثق. فساعة دخلوا، نهبوا مماليك ابن السديد ونعمته وندم، وعملوا بجميع الناس كذلك، وسموا المسلمين مرتدين، واستحلوا أموالهم وحريمهم، وصاروا لا يتركون زوجة حسناء، ولا ولدا حسنا، ويهجم الواحد منهم على قوم، فيستدعي بطعام وشراب، ويؤاخي زوجة صاحب الدار، ويطلبها للفراش ويقول: هكذا أخوتنا، ثم يصبح، فإن وجد لهم ولدا يعجبه، أخذه معه، وإن كان عند أحد سلعة فأراد بيعها، فنادى عليها بخمسين دينارا، أخذها بخمسة دنانير، فإن تكلم صاحبها ضربه بمقرعة معه، رأسها مطرقة، فربما مات، وربما غشي عليه. قال: وعددهم لا يبلغ مائة ألف، ربما كان ستين ألفا، كلهم جياع، مجمعة ليس لهم مدد، وكلهم عليهم أقبية القطن، وسلاحهم النشاب القليل الصنعة يرمون على قسي ضعاف لا تؤثر في الدروع، وليس لهم ديوان ولا عطاء، إنما لهم نهب ما وجدوه، ولا يمكنه أن يكفهم عن شيء. قال لي: وجميع من جرب التتر يشهد أن سيرتهم خير من سيرة الخوارزميين… وفي الآخر ضعف دست جلال الدين، ومقته الناس لقبح سيرته، ولم يترك له صديقا من الملوك بل عادى الكل، ثم اختلف عليه جيشه لما فسد عقله… وطمعت فيه التتار لانهزامه من الأشرف واستولوا على مراغة وغيرها، ولقد كان سدا بين التتر وبين المسلمين، والتقاهم غير مرة، وقد ذهب إليه في الرسلية الصاحب محيي الدين يوسف ابن الجوزي، فدخل إليه، فرآه يقرأ في المصحف ويبكي، واعتذر عما يفعله جنده لكثرتهم وعدم طاعتهم. وفي آخر أمره كسره الملك الأشرف، وصاحب الروم، فراح رواحا بخسا، ثم بعد أيام اغتاله كردي، وطعنه بحربة، فقتله في أوائل سنة تسع وعشرين وستمائة بأخ له كان قد قتل على يد الخوارزمية، وتفرق جيشه من بعده وذلوا).[11]
وقد لاحظ ابن تيمية شيوع طبائع الجاهلية المغولية وهمجيتها التي تفتقد للرحمة بالخلق والإحسان إليهم -التي طبعت تلك المرحلة التاريخية للمشرق الإسلامي بطابعها الدموي الإجرامي، الذي كان قد سنه جنكيزخان وورثته، حتى اصطبغت أيامها بلون الدم والسواد، ولبست ثوب الحداد- بين بعض المسلمين الذين غلبت عليهم الجاهلية حتى أنهم : (إن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبا، وأقلهم رحمة وإحسانا وعفوا، كما قد جربه المسلمون، فكل من كان عن حقائق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، ومن يشبههم في كثير من أمورهم، وان كان متظاهرا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم، فالاعتبار بالحقائق “فإن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”، فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيها لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة، وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار).[12]
ومن رأى ما يجري اليوم في العراق والشام من قتل ونهب وسبي باسم الإسلام والجهاد على يد جماعات إرهابية -من بقايا جيوش النظام العراقي والسوري والليبي واستخباراتهم بعد انهيارها- وكيف أنها لا تقل إجراما وفتكا بالمسلمين عن عدوهم الذي احتلهم، والمشاكلة بين الطائفتين في الإجرام واستباحة الدماء؛ يدرك كيف كان الحال في تلك الفترة التي انهار فيها المشرق الإسلامي، وكيف طبعت الجاهلية المغولية المرحلة بطابعها الإجرامي الدموي، حتى مارس بعض المسلمين ما يمارسه التتار، كما فعل عسكر الخوارزمية المسلمين الذين هزمهم المغول، وسقطت دولتهم، فتحولوا إلى جماعات إرهابية، كما قال عنهم الذهبي: (وأما الخوارزمية فزالت دولتهم، وتمزقوا، وبقوا حرامية، يقتلون ويسبون الحريم، ويفعلون كل قبيح)[13]، وقال: (وعاش أهل الشام بهلاك الخوارزمية، وكانوا كالتتر في الغدر والمكر والقتل والنهب)[14]، وقال أيضا: (وأما الخوارزمية فإنهم تغلبوا على حران، وملكوا غيرها من القلاع، وعاثوا وخربوا البلاد الجزرية، وكانوا شرا من التتار، لا يعفون عن قتل، ولا عن سبي، ولا في قلوبهم رحمة)[15]، ووصفهم وكأنما يتحدث عن الواقع اليوم (ولما عدت الخوارزمية الفرات، وكانوا أكثر من عشرة آلاف، ما مروا بشيء إلا نهبوه، وتقهقر الذين بغزة منهم، وطلع الناصر إلى الكرك، وهربت الفرنج من القدس، فهجمت الخوارزمية القدس، فقتلوا من به من النصارى، وهدموا مقبرة القمامة، وأحرقوا بها عظام الموتى).[16]
ومن يرى ما يجري اليوم في العراق والشام تحت وطأة الاحتلال الأمريكي والروسي، ووحشية فرق الموت الإيرانية الطائفية، وإجرام جيوش الأنظمة الباطنية، وهمجية الجماعات الإرهابية التي ترفع راية الجهاد، ليفتك الجميع بشعوب الأمة الضعيفة؛ يدرك بعض ما حل بالمشرق الإسلامي في القرن الهجري السابع، بعد انهيار الخلافة وسقوط الأمة!
ووصف ابن العديم حال أهل الشام حين هاجم الخوارزمية قرى حلب ومنبج؛ فقال: (وجاؤوا أهل هذه النواحي على غفلة، فلم يستطيعوا أن يهربوا بين أيديهم، ومن أجفل منهم لحقوه، فأخذوا من المواشي والأمتعة، والحرم، والصبيان، ما لا يحد ولا يوصف، وارتكبوا من الفاحشة مع حرم المسلمين، ما لم يفعله أحد من الكفار، إلا ما سمع عن القرامطة، ثم رحلوا إلى بزاعا، والباب، فعاقبوا أهل الموضعين، واستقروهم على أموالهم التي أخذوها، واستصفوها منهم، وقتلوا منهم جماعة ونهبوا ما كان فيها من المتاع والمواشي، وكان بعضهم، قد هرب إلى حلب، وقت الوقعة، بما خف معه من الحرم، والمتاع، فسلم، ثم رحلوا إلى منبج، وقد استعصم أهلها بالسور، ودربوا المواضع التي لا سور لها، فهجموها بالسيف، في يوم الخميس الحادي والعشرين، من شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وقتلوا من أهلها خلقًا كثيرًا، وخربوا دورها، ونبشوها، فعثروا فيها على أموال عظيمة، وسبوا أولادهم ونساءهم، وجاهروا الله تعالى بالمعاصي في حرمهم، والتجأ لمة من النساء إلى المسجد الجامع، فدخلوا عليهن، وفحشوا ببعضهن في المسجد الجامع، وكان الواحد منهم يأخذ المرأة، وعلى صدرها ولدها الرضيع، فيأخذه منها، ويضرب به الأرض، ويأخذها، ويمضي).[17]

التحالف بين الحملة المغولية والقرامطة الباطنية:
كما كشف ابن تيمية طبيعة العلاقة الوثيقة بين الفرق الباطنية كالقرامطة والعبيديين والغزو الخارجي، وأسباب التحالف العقائدي بينهما، وهو ما يفسر موقفه الصارم تجاهها، ولا يمكن فهم آراء ابن تيمية في الفرق والطوائف بعيدا عن الواقع السياسي، وبعيدا عما جرى من كوارث ومذابح وغزو خارجي، كان لهذه الفرق يد طولى فيه، أو في صرف الأمة عن جهاد عدوها -ومن رأى ما فعل حافظ الأسد وابنه بشار وطائفتهم خلال أربعين سنه في الشام وشعبه، وما انتهى إليه حالهم من دعوة الروس لاحتلال الشام وقتل أهله وتهجيرهم بالملايين، وتحالف أشياعهم مع الأمريكان في العراق واحتلال بغداد، وما جرى في العراق من قتل الملايين من المسلمين وتهجيرهم؛ يدرك صدق ما حذر منه ابن تيمية، وأنه لا يمكن تجاهل ما جرى ويجري من خيانة وتآمر مع العدو الخارجي، وأثر ذلك على الأحكام التي أطلقها ابن تيمية على تلك الفرق – فقال عن ظاهرة شيوع الإلحاد في الفرق الباطنية، ووقوفها مع التتار والفرنج، وخطرها على الأمة: (ولهم في معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين؛ كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم في بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود وبقي عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، وصنفوا كتبا كثيرة مما ذكره السائل وغيره، وصنف علماء المسلمين كتبا في كشف أسرارهم وهتك أستارهم؛ وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذي هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام، وما ذكره السائل في وصفهم قليل من الكثير الذي يعرفه العلماء في وصفهم، ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم، وهم دائما مع كل عدو للمسلمين؛ فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم فتح المسلمين للسواحل، وانقهار النصارى؛ بل ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى -والعياذ بالله تعالى- النصارى على ثغور المسلمين، فإن ثغور المسلمين ما زالت بأيدي المسلمين، حتى جزيرة قبرص يسر الله فتحها عن قريب، وفتحها المسلمون في خلافة أمير المؤمنين “عثمان بن عفان” رضي الله عنه، فتحها “معاوية بن أبي سفيان” إلى أثناء المائة الرابعة، فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حينئذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل؛ ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره؛ فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك؛ ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى “كنور الدين الشهيد”، “وصلاح الدين” وأتباعهما؛ وفتحوا السواحل من النصارى، وممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر؛ فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية، ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم؛ فإن منجّم هولاكو الذي كان وزيرهم وهو”النصير الطوسي” كان وزيرا لهم بالألموت، وهو الذي أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء).[18]
وكذا كان موقف ابن تيمية من المتصوفة الاتحادية والحلولية الذين خذّلوا الأمة عن جهاد التتار، أو من تولى لهم ولاية كما حدث في حلب والشام، بدعوى أن كل الأديان هي طرق إلى الله، ولا فرق بين الإسلام والشرك، ولا فرق بين جنكيزخان وهولاكو، وخلفاء الإسلام، وذلك أنهم (يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية، كما يتمسك بالإسلام، ويجعلون هذه طرقا إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين، ويقولون لمن يختص بهم من النصارى واليهود إذا عرفتم التحقيق لم يضركم بقاؤكم على ملتكم، بل يقولون مثل هذا للمشركين عباد الأوثان، حتى أن رجلا كبيرا من القضاة كان من غلمان ابن عربي، فلما قدم ملك المشركين الترك هولاكوخان المشرك إلى الشام وولاه القضاء، وأتى دمشق أخذ يعظم ذلك الملك الذي فعل في الإسلام وأهله ببغداد وحلب وغيرهما من البلاد ما قد شهر بين العباد، فقال له بعض من شهده من طلبة الفقهاء ذلك الوقت: يا سيدي ليته كان مسلما، فبالغ في خصومته مبالغة أخافته، وقال: أي حاجة بهذا إلى الإسلام! وأي شيء يفعل هذا بالإسلام! سواء كان مسلما أو غير مسلم ونحو هذا الكلام).[19]
وقد قال المعاصرون من شيوخهم في بشار الأسد، وفي بوتين -وهما يدكان مدن الشام بالطيران والصواريخ ويهجران الملايين من المسلمين المستضعفين- ما قاله أسلافهم في هولاكو!

الأسباب الداخلية التي أدت لانهيار المشرق الإسلامي في القرن السابع الهجري:
لقد كان المشرق الإسلامي في مطلع القرن السابع الهجري مهيئا للسقوط أمام جحافل جيوش جنكيزخان؛ لفقده أسباب القوة الداخلية التي تحميه من الخطر الخارجي، ومن تلك الأسباب التي أدت إلى انهياره:
1- الاحتراب الأهلي والعصبية للمذاهب والطوائف:
حيث عصفت العصبية للطوائف والمذاهب السياسية والفقهية بالأمة والدولة أمام الغزو الخارجي، الذي جاء وقد فتك الخلاف بين مكوناتها، وهي تعيش حالة من الاحتراب الداخلي، والاقتتال الأهلي، كما جرى في الري بين الشافعية والحنفية من اقتتال حتى أفنى بعضهم بعضا، كما قص خبرها ياقوت الحموي حيث يقول عنها: (وكانت الري مدينة عظيمة خرب أكثرها، واتفق أنني اجتزت في خرابها في سنة 617 وأنا منهزم من التتر، فرأيت حيطان خرابها قائمة، ومنابرها باقية، وتزاويق الحيطان بحالها لقرب عهدها بالخراب، إلا أنها خاوية على عروشها، فسألت رجلا من عقلائها عن السبب في ذلك فقال: أما السبب فضعيف، ولكن الله إذا أراد أمرا بلغه، كان أهل المدينة ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم، لأن أهل البلد كان نصفهم شيعة، وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلا شيعة، وقليل من الحنفيين، ولم يكن فيهم من الشافعية أحد، فوقعت العصبية بين السنة والشيعة، فتضافر عليهم الحنفية والشافعية، وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف، فلما أفنوهم، وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعية، هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم، وكان أهل الرستاق وهم حنفية يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئا حتى أفنوهم، فهذه المحال الخراب التي ترى هي محال الشيعة والحنفية، وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي أصغر محال الري، ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه).[20]
وقد أدرك ابن تيمية خطورة هذه العصبية للمذاهب، وما جرى بسببها من حكم بالكفر على المخالف، ثم استباحة قتاله، وأنها السبب وراء سقوط الأمة أمام عدوها، حيث يقول: (وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا، وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا، وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه، وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل، المتبعين الظن، وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله، مستحقون للذم والعقاب، وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه؛ فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين، والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية، فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع، وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسنة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة، أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا، وقد تكون كذبا، وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق، عن قائل غير معصوم، ويدَعون النقل المصدق عن القائل المعصوم، وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الناقلين لذلك مصدقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحي يوحى}، قد أو جب الله تعالى على جميع الخلق طاعته واتباعه، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}، وقال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}، والله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل).[21]

2- شيوع الظلم السياسي:
فقد كان شيوع ظاهرة الظلم والطغيان السياسي من أسباب سقوط المشرق، ولهذا جعل ابن تيمية أساس قيام الدول ودوام الملك هو العدل، وسبب سقوطها هو الظلم، كما قال في كتابه “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” وهو يتحدث عن شيوع العادات الجاهلية ومن ذلك نصرة الظالم عصبية وحمية: (وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة، إذا استجار بهم مستجير، أو كان بينهما قرابة أو صداقة، فإنهم يرون الحمية الجاهلية، والعزة بالإثم، والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه، وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم، لا سيما إن كان المظلوم رئيسا ينادّهم ويناوئهم، فيرون في تسليم المستجير بهم إلى ما يناوئهم ذلا أو عجزا، وهذا على الإطلاق جاهية محضة، وهو من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا… وكذلك سبب دخول الترك المغول دار الإسلام، واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو ذلك… وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية).[22]
وقرر القاعدة الاجتماعية التي استنبطها من هدايات القرآن والسنة في ضرورة العدل لدوام الدول والأمم، فقال: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم: أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة . ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم)، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة،وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).[23]

المؤامرة المغولية الصليبية على العالم الإسلامي:
لم تكد الأمة تفيق من نكبة سقوط بغداد عاصمة الخلافة سنة 656 هـ، حتى زحف هولاكو-الذي اتخذ من تبريز في إيران عاصمة له- بجيوشه نحو الشام، يريد احتلال حلب ودمشق ثم القاهرة، وبلغ الخطر الخارجي أوجه بتحالف الجيوش المغولية الوثنية، وجيوش الحملات الصليبية، اللتين اتفقتا على حصار الشام، حيث اتفق هولاكو -حين دخل الشام سنة 658هـ- مع ملك أرمينيا هيثيوم الأول على الالتقاء في الرها، والتوجه لاحتلال القدس وتسليمها لهم، وقد شاركه في هذا الغزو بوهيمند السادس ملك أنطاكية وطرابلس، زوج ابنة هيثيوم الأول، وبارك مطران اليعاقبة في حلب لهولاكو حصارها واحتلالها، وباركه بابا روما الكاثوليكي إسكندر الرابع -تماما كما تفعل إيران وروسيا وأمريكا اليوم في العراق وسوريا بمباركة الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية- وتم تأمين النصارى وكنائسهم في حلب ودمشق وتأمين الأقليات الباطنية واستباحة عامة أرض الإسلام وأهلها!

استنجاد أهل الشام بمصر:
ولم يعد أمام أهل الشام -بعد سقوط العراق والمشرق الإسلامي تحت الاحتلال- من ينجدهم سوى جيش مصر، التي كان هولاكو ينوي احتلالها أيضا، فبعث الملك الناصر الأيوبي وهو في حلب (عندما بلغه توجه هولاكو نحو الشام بالصاحب كمال الدين عمر بن العديم إلى مصر، يستنجد بعسكرها، فلما قدم ابن العديم إلى القاهرة، عُقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور، وحضر قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ عز الدين بن عبد السلام: وسئلا في أخذ أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال ابن عبد السلام: إذا لم يبق في بيت المال شيء أو أنفقتم الحوائض الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء، إلا أنه إذا دهم العدو، وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم، وانفضوا. فوجد الأمير سيف الدين قطز سبيلاً إلى القول، وأخذ ينكر على الملك المنصور، وقال: لا بد من سلطان ماهر قاهر يقاتل هذا العدو، والملك المنصور صبي صغير لا يعرف تدبر المملكة. وكانت قد كثرت مفاسد الملك المنصور علي بن المعز أيبك، واستهتر في اللعب، وتحكمت أمه فاضطربت الأمور… وقبض قطز على المنصور وعلى أخيه وعلى أمهما، واعتقلهم في برج بقلعة الجبل. فكانت مدة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام.. فبلغ ذلك الأمراء فقدموا إلى قلعة الجبل، وأنكروا ما كان من قبض قطز على الملك المنصور، وتوثبه على الملك. فخافهم واعتذر إليهم بحركة التتار إلى جهة الشام ومصر، والتخوف مع هذا من الملك الناصر صاحب دمشق، وقال: وإني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك. فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم..).[24]

احتلال هولاكو حلب ودمشق:
وفي المحرم مطلع سنة 568 هـ: (نزل هولاكو على مدينة حلب وراسل متوليها الملك المعظم تورانشاه بن الملك الناصر يوسف، على أن يسلمه البلد ويؤمنه ورعيته، فلم يجبه إلى طلبه وأبى إلا محاربته. فحصرها التتار سبعة أيام وأخذوها بالسيف، وقتلوا خلقًا كثيرًا وأسروا النساء والذرية ونهبوا الأموال مدة خمسة أيام، استباحوا فيها دماء الخلق حتى امتلأت الطرقات من القتلى، وصارت عساكر التتر تمشي على جيف مَن قتل، فيقال إنه أسر منها زيادة على مائة ألف من النساء والصبيان. وامتنعت قلعة حلب، فنازلها هولاكو حتى أخذها في عاشر صفر، وخربها وخرب جميع سور البلد وجوامعها ومساجدها وبساتينها، حتى عادت موحشة).[25]
قال ابن كثير: (وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكوخان، وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة، فحاصروها سبعة أيام، ثم افتتحوها بالأمان، ثم غدروا بأهلها، وقتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، فجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة).[26]
وقد تراجع هولاكو بعد ذلك إلى الشرق، وخلف على جيوشه قائده كتبغا الذي توجه بجيوشه نحو دمشق بصحبة هيثيوم الأول وصهره بوهيمند السادس (فوردوا دمشق في آخر صفر فأخذوها سريعا من غير ممانعة ولا مدافعة، بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة، وقد كتب هولاكو أمانا لأهل البلد، فأمن الناس على وجل من الغدر، كما فعل بأهل حلب… وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له إبل سيان، وكان لعنه الله معظما لدين النصارى، فاجتمع به أساقفتهم وقسوسهم، فعظمهم جدا، وزار كنائسهم، فصارت لهم دولة وصولة بسببه، وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفا، وقدموا من عنده ومعهم أمان فرمان من جهته، ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: ظهر الدين الصحيح دين المسيح، ويذمون دين الإسلام وأهله، ومعهم أواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرا… ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها إبل سيان، فأهينوا وطردوا، وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم)!

معركة عين جالوت وتحرير السلطان قطز الشام في رمضان 658 هـ:
وقد ظلت دمشق وحلب تحت الاحتلال المغولي 18 شهرا، حتى حررها منهم في شهر رمضان سنة 658هـ السلطان “المظفر قطز” بالجيش المصري في معركة “عين جالوت”، التي كسرت شوكة التتار، وبطّأت من اندفاعهم نحو مصر والمغرب الإسلامي، واستعاد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، وبوعد الله لهم بالنصر على عدوهم، وكان هولاكو قد أرسل إلى السلطان المظفر قطز في مصر رسالة يتهدده ويتوعده إن لم يستسلم ويدخل تحت سلطانه، فقتل قطز الرسل، ودعا إلى الجهاد وتحرير الشام والعراق من المغول، قال المقريزي: (فطلب قطز الأمراء وتكلم معهم في الرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل، فقال لهم: يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين، فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلفهم في موافقته على المسير، فلم يسع البقية إلا الموافقة.[27]
فلما كان في الليل ركب السلطان، وقال: أنا ألقى التتار بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره. وأمر الملك قطز الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أن يتقدم في عسكر ليعرف أخبار التتر، فسار بيبرس إلى غزة وبها جموع التتر، فرحلوا عند نزوله، وملك هو غزة.
ثم نزل السلطان بالعساكر إلى غزة وأقام بها يومًا، ثم رحل من طريق الساحل على مدينة عكا وبها يومئذ الفرنج، فخرجوا إليه بتقادم، وأرادوا أن يسيروا معه نجدة، فشكرهم وأخلع عليهم، واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وأقسم لهم أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر.
وأمر الملك المظفر بالأمراء فجمعوا وحضهم على قتال التتر، وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحثهم على استنقاذ الشام من التتر، ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله. فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد. فأمر السلطان حينئذ أن يسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بقطعة من العسكر، فسار حتى لقي طليعة التتر. فكتب إلى السلطان يعلمه بذلك. وأخذ في مناوشتهم، فتارة يقدم وتارة يحجم، إلى أن وافاه السلطان على عين جالوت، وكان كتبغا وبيدرا نائبا هولاكو، لما بلغهما مسير العساكر المصرية، جمعا من تفرق من التتر في بلاد الشام، وسارا يريدان محاربة المسلمين، فالتقت طليعة عسكر المسلمين بطليعة التتر وكسرتها.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشري شهر رمضان: التقى الجمعان، وفي قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر، وذلك بعد طلوع الشمس، وقد امتلأ الوادي وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء، فتحيز التتر إلى الجبل، فعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: واإسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة؛ فأيده الله بنصره وقتل كتبغا مقدم التتر، وقتل بعده الملك السعيد حسن بن العزيز وكان مع التتر. وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم المسلمين يقتلون ويأسرون، وأبلى الأمير بيبرس أيضاً بلاء حسناً بين يدي السلطان.
ومر العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان، فرجع التتر وصافوا مصافًا ثانيًا أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم. وكان قد تزلزل المسلمون زلزالًا شديدًا فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهويقول: واإسلاماه ثلاث مرات، يالله انصر عبدك قطز على التتار. فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرًا لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم.
فورد الخبر بانهزام التتر إلى دمشق ليلة الأحد سابع عشريه، وحملت رأس كتبغا مقدم التتار إلى القاهرة، ففر الزين الحافظي ونواب التتار من دمشق، وتبعهم أصحابهم فامتدت أيدي أهل الضياع إليهم ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء التتر على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام.
وفي يوم الأحد المذكور: نزل السلطان على طبرية، وكتب إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله له وخذلانه التتر… واستولى الملك المظفر على سائر بلاد الشام كلها من الفرات إلى حد مصر… وأما التتر فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل. فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه).[28]
وقال ابن كثير: (فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة، وقتل أمير المغول كتبغا وجماعة من بيته… واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد أسر من جماعة كتبغا الملك السعيد بن العزيز بن العادل فأمر المظفر قطز بضرب عنقه، واستأمن الأشرف صاحب حمص، وكان مع التتار وقد جعله هولاكوخان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص… واتبع الأمير بيبرس البند قداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان، فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، وقد كان هولاكو أرسل تقليدا بولاية القضاء على جميع المدائن: الشام، والجزيرة، والموصل، وماردين، والأكراد وغير ذلك، للقاضي كمال الدين عمر بن بدار التفليسي!).[29]

الفراغ السياسي وإعادة الخلافة 659 هـ:
وقد تصدى السلطان الظاهر بيبرس -الذي تولى سلطنة مصر والشام بعد المظفر قطز الذي قتل أثناء رجوعه من عين جالوت- للفراغ السياسي الذي أحدثه سقوط الخلافة في بغداد، وكان حدثا خطيرا غير مسبوق في تاريخ الأمة، منذ ظهور الإسلام حتى سقوطها في بغداد، فاستقبل الظاهر بيبرس الأمير العباسي أبا القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر، وهو أخو الخليفة المستنصر بالله العباسي، وعم المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس في بغداد، وكان قدم مصر مع جماعة من كبراء العراق فرارا من التتار، فبايعوه في مصر خليفة سنة 659 هـ، فكان ابتداء الخلافة بعد تعطلها سنة 656هـ، وقد (بايعه الملك الظاهر، والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافة بديار مصر والأمراء بين يديه والناس حوله، وشق القاهرة في ثالث عشر رجب، وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبا، وكان أول من بايعه القاضي تاج الدين لما ثبت نسبه، ثم السلطان، ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضرب اسمه على السكة، وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصفا، لأن المستعصم قتل في أو ل سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة -أعني سنة تسع وخمسين وستمائة- وكان أسمر وسيما، شديد القوى، عالي الهمة، له شجاعة وإقدام).[30]
وقد لقبوه بالمستنصر بالله، وفي (يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة فجلسوا فيها، فألبس الخليفةُ السلطانَ بيده خلعة سوداء، وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان وهو رئيس الكتاب منبرا، فقرأ على الناس تقليد السلطان).[31]
(وعزم الخليفة المستنصر بالله على الخروج إلى جهاد التتار وتحرير العراق منهم، فجهزه السلطان الظاهر بيبرس بالأموال والرجال، وخرج مجاهدا، فسار السلطان الظاهر بصحبته حتى دخلا دمشق وكان يوما مشهودا، ثم خرج الخليفة من الشام، حتى دخل العراق، فالتقى بالتتار وهزمهم في عدة وقائع وحرر بعض ما كان في أيديهم، حتى كمنوا له وحاصروه، وثبت لهم حتى استشهد في محرم سنة 660 هـ، وشغر منصب الخلافة مرة أخرى، وكان معه في تلك المعركة ابن عمه الأمير أبو العباس أحمد بن علي بن علي بن أبي بكر بن الخليفة المسترشد العباسي، فرجع إلى مصر ومعه الأمراء من بني العباس، ففرح برجوعهم السلطان الظاهر بيبرس، وفي محرم سنة 661 هـ بويع أبو العباس خليفة، ولقب بالحاكم بأمر الله، وقلد السلطنة الظاهر بيبرس، فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته: “الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا، أحمده على السراء والضراء، وأستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء، وأئمة الاقتداء، لا سيما الأربعة، وعلى العباس أبي السادة الخلفاء، وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم، فلو شاهدتم أعداء الإسلام لما دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأطفال، وسبوا الصبيان والبنات، وأيتموهم من الآباء والأمهات، وهتكوا حرم الخلافة والحريم، وعلت الصيحات من هول ذلك اليوم الطويل، فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه، فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد {واتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}، فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين، وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل، العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار، وأصبحت البيعة بهمته منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود، فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا، ولا يروعكم ما جرى فالحرب سجال، والعاقبة للمتقين، والدهر يومان، والأجر للمؤمنين، جمع الله على الهدى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، واستغفر الله لي ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم”. ثم خطب الثانية ونزل فصلى، وكتب بيعته إلى الآفاق ليخطب له، وضربت السكة باسمه، فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة، وهذا الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا).[32]
وفي هذه السنة أيضا 661 هـ أسلم بركة خان المغولي وراسل الظاهر بيبرس يدعوه للتعاون معه على قتال هولاكو، وبدأ التتار بعده بالدخول في الإسلام.
وفي هذه السنة كذلك ولد ابن تيمية والذي سيتصدى للفراغ الروحي والفكري الذي أحدثه الغزو المغولي في المشرق والعراق، وقبله الغزو الصليبي للشام!
وقد ظل الخطر المغولي بعد ذلك يهدد الشام ومصر حتى تولى حكم مملكة المغول في إيران أبو سعيد بن خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيزخان سنة 716 هـ، الذي تصالح مع سلطان مصر الناصر محمد بن قلاوون؛ فزال الخطر العسكري، إلا أن ما أحدثه احتلال المغول للمشرق الإسلامي خلال قرن كامل تقريبا من 616 هـ إلى 716 هـ، كانت له تداعياته الخطيرة، حيث كان للسلطة المغولية المطلقة الغاشمة التي أسسها جنكيزخان، وما فرضه من قوانين وضعية (الياسق)، وما شاع في ظل هذه الفترة من مذاهب دخيلة على الإسلام وأمته؛ أسوأ الأثر على الهوية والخصوصية، حيث راجت الوثنية التي جاء بها التتر، وعادت العادات الجاهلية، وهو ما احتاج إلى ثورة فكرية وحركة تجديدية على يد ابن تيمية، لا تقل في عمقها عن إصلاح الخلل السياسي الذي تداركه السلطان الظاهر بيبرس بإعادة الخلافة ورسومها ووظائفها كنظام سياسي يمثل المرجعية السياسية للسلطة في الإسلام.

الفراغ الروحي والتجديد الديني:
لقد كان ما جرى من اجتياح مغولي للعالم الإسلامي صدمة حضارية عنيفة، أفقدت الأمة توازنها، وثقتها بنفسها ودينها، حتى كادت الجاهلية المغولية تغرق المشرق الإسلامي، بوثنيتها وعاداتها، وسحرها وشعوذتها، حتى شاعت عبادة القبور والأضرحة، وبناء المشاهد عليها، والحج إليها، على نحو غير معهود قبل ذلك في تاريخ الإسلام، وكذا شاعت الجاهلية الغربية الصليبية بأعيادها وطقوسها وثقافتها، ووقع ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كما رصد ذلك ابن تيمية، الذي أدرك الأثر العميق الذي ترتب على هذين الاجتياحين العسكريين والثقافيين للعالم الإسلامي، وأثرهما على عودة الجاهلية والوثنية، كما تقتضيه طبائع السنن الاجتماعية، من تأثر المغلوب لسنن الغالب، كما يقول عالم الاجتماع الأول ابن خلدون في مقدمته: (الفصل الثالث والعشرون: في أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب، في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقادا انتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحله من العوائد والمذاهب، تغالط أيضا بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائما، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم، وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير، كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة، فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله، وتأمل في هذا سر قولهم “العامة على دين الملك” فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به، لاعتقاد الكمال فيه، اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم…).[33]
لقد عبر عن تلك الأزمة والهزيمة النفسية ابن تيمية نفسه -الذي أدرك ضرورة استعادة الشخصية الإسلامية، والهوية الإيمانية، وحمايتها من هذه الجاهلية- وهو يقص حال أهل الشام حين غزاهم التتار، وكيف أن الحدث كان قيامة صغرى، تذكر بالقيامة الكبرى؛ فقد الناس فيها إيمانهم، وطاشت أحلامهم، فقال: (فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده، ودأب الأمم وعاداتهم، لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم، وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله {إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا}، ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان، من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان، ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية، وكفّر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى… وفي المنتسبين إلى الإسلام من عامة الطوائف منافقون كثيرون، في الخاصة والعامة… وهؤلاء يكثرون في المتفلسفة: من المنجمين ونحوهم، ثم في الأطباء، ثم في الكتّاب أقل من ذلك، ويوجدون في المتصوفة، والمتفقهة، وفي المقاتلة، والأمراء، وفي العامة أيضا، ولكن يوجدون كثيرا في نحل أهل البدع؛ لا سيما الرافضة، ففيهم من الزنادقة والمنافقين ما ليس في أحد من أهل النحل، ولهذا كانت الخرمية والباطنية والقرامطة والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم من المنافقين الزنادقة : منتسبة إلى الرافضة، وهؤلاء المنافقون في هذه الأوقات لكثير منهم ميل إلى دولة هؤلاء التتار؛ لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام؛ بل يتركونهم وما هم عليه، وبعضهم إنما ينفرون عن التتار لفساد سيرتهم في الدنيا، واستيلائهم على الأموال، واجترائهم على الدماء والسبي؛ لا لأجل الدين، فهذا ضرب النفاق الأكبر..).[34]
لقد أدرك ابن تيمية مبكرا أسباب النكبة وجذور الأزمة، التي أفضت إلى سقوط الأمة، أمام الغزو الخارجي، وساعده على ذلك النبوغ العلمي منذ صغره، فقد تفقه واستدل قبل البلوغ، وتصدى للتدريس والفتوى وصنف قبل سن العشرين، فقد ذكر الحافظ ابن حجر قول الذهبي عنه (قرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير وأفتى ودرس وهو دون العشرين، وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه).[35]

ويمكن تقسيم مراحل حياة ابن تيمية العلمية إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: الحفظ والتفقه من التمييز إلى البلوغ:
وهي ما بين سن 6 سنين إلى 16 سنة تقريبا، وقد حفظ فيها ابن تيمية القرآن والسنة والعربية والفقه والأصول، حيث عني به والده الإمام الفقيه القاضي الحنبلي عبد الحليم ابن تيمية عناية كبيرة مبكرا، كما قال ابن عبدالهادي: (سمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار، والأجزاء، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية على ابن عبد القوى، ثم فهمها وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم في النحو، وأقبل على التفسير إقبالا كليا، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذل، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه).[36]
ففي هذه الفترة كان يحفظ الحديث، ويتفقه على مذهب الحنابلة، ويستدل، ويطالع الفنون، كما هي عادة المدارس الحديثية والفقهية آنذاك، وكان مبرزا على أقرانه، قد بهر الناس بقوة حافظته، وشدة عارضته، وقد قال ابن عبدالهادي: (وقال بعض قدماء أصحاب شيخنا: أما مبدأ أمره ونشأته فقد نشأ من حين نشأ في حجور العلماء، راشفا كؤوس الفهم، راتعا في رياض التفقه، ودوحات الكتب الجامعة لكل فن من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة والاشتغال، والأخذ بمعالي الأمور، خصوصا علم الكتاب العزيز والسنة النبوية ولوازمها).[37]
وقد جمع ابن تيمية وألف في آخر هذه المدة، وهي بواكير كتاباته ورسائله، حيث كان إدراكه للانحراف العقائدي وهو صغير قبل سن الاحتلام، وقد كان حينها متمكنا من الجدل والرد على الكبار، كما أخبر عما جرى بينه وبين بعض المتكلمين فقال: (المعلوم من حيث الجملة: أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل، وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم؛ لا يكاد -والله أعلم- تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك! وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم، وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام، كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل، وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا، لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة، وإما أن تكون المسألة باطلا، فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظم هذا وذكر “مسألة التوحيد” فقلت: التوحيد حق. لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه، فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط، وذهب إلى ابنه -وكان أيضا من المتعصبين لهم- فذكر ذلك له، فأخذ يعظم ذلك علي، فقلت : أنا لا أشك في التوحيد، ولكن أشك في هذا الدليل المعين! ويدلك على ذلك أمور: – أحدها: أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا، وأضعف الناس علما ويقينا، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم، ويشهده الناس منهم، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا، وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل، ومن المعلوم: أن الاعتراض والقدح ليس بعلم، ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه : أن يكون بمنزلة العامي، وإنما العلم في جواب السؤال، ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر).[38]
وقد جادل ابن تيمية بعض المتصوفة وهو صغير جدا، فحكى ما دار بينهما، مما يؤكد نبوغه المبكر، وإدراكه لطبيعة الانحراف، فقال: (وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله : {وما يعلم تأويله إلا الله}، قال المعنى وما يعلم تأويل (هو) أي اسم ” هو” الذي يقال فيه : ” هو هو” وصنف ابن عربي كتابا في “الهو”، فقلت له،وأنا إذ ذاك صغير جدا، لو كان كما تقول: لكتبت في المصحف مفصولة (تأويل هو)، ولم تكتب موصولة، وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار، وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة. وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحا؛ لكن لا يدل عليه الكلام، وليس هو مراد المتكلم، وقد لا يكون صحيحا. فيقع الغلط “تارة” في الحكم و”تارة” في الدليل).[39]
وقد كان ابن تيمية في أول أمره قد اغتر بابن عربي، كما أخبر عن نفسه (وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظمه: لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من “الفتوحات”، “والكنة”، “والمحكم المربوط” “والدرة الفاخرة”، “ومطالع النجوم” ونحو ذلك، ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحق ونتبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمر عرفنا نحن ما يجب علينا، فلما قدم من المشرق مشايخ معتبرون وسألوا عن حقيقة الطريقة الإسلامية والدين الإسلامي وحقيقة حال هؤلاء: وجب البيان).[40]
وفي هذا النص ما يؤكد مدى الفراغ الروحي والعقائدي الذي كان المشرق الإسلامي يعيشه في تلك الفترة، التي سادت فيه دولة المغول وامتد فيها سلطانهم ودينهم، حيث كان المشايخ الصالحون فضلا عن العامة يبحثون عن حقيقة الدين الإسلامي!
وقد كانت خرافات الصوفية قد راجت في هذه الفترة رواجا كبيرا، وهو ما حدا ابن تيمية في صغره في هذه المرحلة أن يجمع رسالة في شأن الخرقة المنسوبة إلى الحسن البصري؛ ليبين بطلانها، كما قال: (وقد كتبت أسانيد الخرقة، لأنه كان لنا فيها أسانيد، فبينتها ليعرف الحق من الباطل، ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر، وهو منقطع جدا، وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة، ولا يقصون شعورهم، ولا التابعون، ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين).[41]
وقد ألف ابن تيمية في أواخر هذه المرحلة منسكا للحج، جمعه من كتب الأئمة، وذلك أول عمره، ولعله ابن ست عشرة سنة، وكان بطلب بعض الشيوخ، وقال عنه: (وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها، وكنت قد كتبتها في “منسك” كتبته قبل أن أحج في أول عمري، لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم تبين لنا أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لم يفعلوا شيئا من ذلك، وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك، وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد، من دعاء وصلاة وغير ذلك، إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرا له ؛ بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد غيره هناك تحريا لفضله، فبدعة غير مشروعة . وأصل هذا : أن المساجد التي تشد إليها الرحال، هي المساجد الثلاثة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم).[42]
وهنا يظهر بجلاء أنه كان في أول أمره مقلدا -كما هي عادة المبتدئين من المتفقهة آنذاك- ومتأثرا بالصوفية كابن عربي، وقد ألف بواكير مؤلفاته في هذه الفترة قبل أن يحج سنة 692 هـ بزمن طويل، وقبل أن يبلغ درجة الاجتهاد المذهبي، فضلا عن الاجتهاد المطلق، وقد تراجع عن بعض ما ذكره فيها بعد أن ثبت له بأنه من البدع والمحدثات، وقد تكون تلك الأقوال فيها ما ظل ينسب له بعد ذلك، حتى بعد تراجعه عنها، إذ ثبت أنه يؤلف الرسائل إجابة عن أسئلة من المشايخ، فيأخذون تلك الرسائل، ويعتمدون عليها، كما في هذا المنسك الذي ألفه لبعض الشيوخ، ومن هنا يصبح تحرير تاريخ مؤلفاته ومصنفاته ورسائله أمرا ضروريا، لمن أراد معرفة آخر آرائه بعد بلوغه درجة الاجتهاد المطلق، وأكثر كتبه يمكن تحديد سني تأليفها، وقد اشتهرت في حياته، وتظل بعض الرسائل التي قد تتعارض فيها أقواله محل البحث والتحرير، والقاعدة المطردة أن كل كتبه التي ظهرت فيها شخصيته كمجتهد مطلق، يستدل بالنصوص، ويرجح ويضعف ويصحح، ويخالف المذاهب الفقهية المشهورة، وما اشتهر من آراء المتكلمين، فهي من كتبه المتأخرة، وكل ما كان منها يميل إلى التقيد للمذهب ويقل فيها الاستدلال فهي من بواكير رسائله.

المرحلة الثانية: من البلوغ إلى النبوغ والاجتهاد المذهبي:
وفيها تصدى ابن تيمية للفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم جلس على كرسي أبيه في مدرسة الحديث السكرية، بعد وفاته، وهو ابن إحدى وعشرين، كمحدث وفقيه حنبلي، وشرع في التأليف والتصنيف، قال الذهبي: (وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى، وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير، والأصول، وجميع علوم الإسلام، أصولها وفروعها، ودقها وجلها، سوى علم القراءات).[43]
وقال أيضا عن صلاحه وتعبده وهو شاب (نشأ الشيخ تقي الدين رحمه الله في تصون تام وعفاف، وتأله وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكب على الاشتغال، ومات والده وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم، فدرّس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز في الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتعلثم، وكذا كان الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح).[44]
وقد حضر يوم جلوسه للتدريس علماءُ دمشق ومنهم شيخ الإسلام تاج الدين الفزاري الشافعي، قال ابن ناصر الدين: (قال الذهبي وكان الشيخ تاج الدين الفزاري يبالغ في تعظيم الشيخ تقي الدين بحيث أنه علق بخطه درسه بالسكرية انتهى، وهذا الدرس كان بعد موت والد الشيخ تقي الدين في يوم الاثنين ثاني المحرم من سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدار الحديث السكرية، التي بالقصاعين داخل دمشق، وبها كان سكن الشيخ تقي الدين ووالده من قبل، وحضر هذا الدرس قاضي القضاة بهاء الدين يوسف ابن القاضي محيي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي، وشيخ الإسلام تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري المذكور، والشيخ زين الدين أبو حفص عمر ابن مكي عبد الصمد بن المرجل، وكيل بيت المال والد صدر الدين ابن الوكيل الشافعيون، وشيخ الحنابلة العلامة زين الدين أبو البركات ابن المنجا التنوخي وآخرون، وكان درسا حافلا كتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه، كما ذكره الذهبي وغيره، لكثرة فوائده وأطنب الحاضرون في شكره، وكان إذ ذاك عمر الشيخ تقي الدين ابن تيمية نحو إحدى وعشرين سنة).[45]
وقد أذن له شيوخه بالإفتاء، وكانوا يفخرون بذلك، ومنهم الشيخ الإمام العلامة الخطيب المدرس المفتي القاضي شرف الدين أحمد ابن حماد المقدسي الشافعي، وكان توفي سنة 695 هـ، قال العيني: (وأذن لجماعة من الفضلاء في الإفتاء منهم الشيخ الإمام أبو العباس ابن تيمية، وكان يفتخر بذلك ويقول: أنا أذنت لابن تيمية في الإفتاء).[46]
وقد كان في هذه المدة يُقرأ عليه كتب الحديث والفقه، فقد قُرأ عليه كتاب الجمعة للقاضي أبي بكر أحمد بن علي المروزي في 14 رمضان سنة 681 هـ.[47]
وقد كان ابن تيمية منذ بواكير شبابه عابدا متنسكا متألها، كما قال بعض قدماء أصحابه: (ولم يزل على ذلك خلفا صالحا سلفيا، متألها عن الدنيا، صينا تقيا، برا بأمه، ورعا عفيفا، عابدا ناسكا، صواما قواما، ذاكرا لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجاعا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بالمعروف، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حذاق أهله مقصوده الكتاب والسنة، ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل على فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر، وينحل إشكال ما أشكل، قال وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي). [48]
وقد أصبح ابن تيمية في هذه المدة أحد أئمة المذهب الحنبلي، وكبار شراحه، حيث شرح كتاب العمدة لشيخ المذهب ابن قدامة المقدسي، كما شرح كتاب المحرر لجده -أبي البركات المجد ابن تيمية- في (التعليق المقرر على المحرر)، وصار ممن يرجع إلى قوله في معرفة صحيح مذهب أحمد، كما قال الطوفي عن مذهب أحمد: (والتصحيح الذي فيه، إنما هو من اجتهاد أصحابه بعده، كابن حامد، والقاضي وأصحابه، ومن المتأخرين الشيخ أبو محمد المقدسي رحمة الله عليهم أجمعين، لكن هؤلاء بالغين ما بلغوا، لا يحصل الوثوق من تصحيحهم لمذهب أحمد، كما يحصل من تصحيحه هو لمذهبه قطعا، فمن فرضناه جاء بعد هؤلاء، وبلغ من العلم درجتهم أو قاربهم، جاز له أن يتصرف في الأقوال المنقولة عن صاحب المذهب كتصرفهم، ويصحح منها ما أدى اجتهاده إليه، وافقهم أو خالفهم، وعمل بذلك وأفتى، وفي عصرنا من هذا القبيل شيخنا الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني حرسه الله تعالى، فإنه لا يتوقف في الفتيا على ما صححه الأصحاب من المذهب، بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده، فتكون هذه فائدة خاصة بمذهب أحمد، وما كان مثله لتدوين نصوصه ونقلها).[49]
وقد قال الطوفي هذا عن ابن تيمية سنة تأليفه كتابه “شرح مختصر الروضة” وهي سنة 708 هـ، وكان لشيخه ابن تيمية آنذاك 47 سنة، وقد نص الطوفي على ذلك فقال: (الفرع الثاني: وقع النزاع بين بعض الفقهاء في سنتنا هذه -وهي سنة ثمان وسبعمائة للهجرة المحمدية- صلوات الله على منشئها – في أن الجن مكلفون بفروع الدين أم لا ؟ واستفتي فيها شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية بالقاهرة – أيده الله تعالى- فأجاب فيها بما ملخصه أنهم مكلفون بها بالجملة، لكن لا على حد تكليف الإنس بها، لأنهم مخالفون للإنس بالحد فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف).[50]
فقد كان ابن تيمية سنة 708 هـ -كما قال الطوفي- قد تجاوز درجة الاجتهاد المذهبي إلى درجة الاجتهاد المطلق، وهي المرحلة الثالثة التي بلغ فيها درجة الإمامة ومشيخة الإسلام.
وقال الطوفي أيضا: (قلت: ومن مذهبنا أيضا سد الذرائع، وهو قول أصحابنا بإبطال الحيل، ولذلك أنكر المتأخرون منهم على أبي الخطاب ومن تابعه عقد باب في كتاب الطلاق يتضمن الحيلة على تخليص الحالف من يمينه في بعض الصور، وجعلوه من باب الحيل الباطلة، وهي التوصل إلى المحرم بسبب مباح، وقد صنف شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية – رحمة الله عليه[51] – كتابا بناه على بطلان نكاح المحلل، وأدرج جميع قواعد الحيل، وبين بطلانها بأدلته، على وجه لا مزيد عليه).[52]
وكذا عد ابن القيم اختيارات شيخه ابن تيمية التي خالف فيها المذهب وجوها في المذهب الحنبلي، كاختيارات غيره من أئمة المذهب، فقال في كفارة يمين الطلاق: (الوجه التاسع : أنه أحد القولين في مذهب أحمد، حكاه شيخنا واختاره وأفتى به، وأقل درجات اختياراته أن يكون وجها في المذهب، ومن الممتنع أن يكون اختيار ابن عقيل وأبي الخطاب والشيخ أبي محمد وجوها يفتى بها، واختيارات شيخ الإسلام لا تصل إلى هذه المرتبة، فالذي يجزم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق، وكون الثلاث في كلمة واحدة واحدة أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرج على أصوله أصح تخريج، والغرض نقض قول من ادعى الإجماع في ذلك).[53]
وقد تبوأت اختيارات ابن تيمية وترجيحاته مكانها بين أقوال شيوخ المذهب، وصارت موافقته لأحد الإمامين وهما جده المجد ابن تيمية صاحب المحرر، وابن قدامة المقدسي صاحب المغني: مذهبا معتمدا لدى متأخري الحنابلة، كما قال المرداوي: (فإن اختلفا -ابن قدامة صاحب المغني، والمجد ابن تيمية صاحب المحرر- فالمذهب مع من وافقه صاحب القواعد الفقهية -ابن رجب- أو الشيخ تقي الدين ابن تيمية).[54]
وقال أيضا: (اعلم أن مرجع معرفة الصحيح والترجيح في المذهب إلى أصحابه، وقد حرر ذلك الأئمة المتأخرون، فالاعتماد في معرفة الصحيح من المذهب على ما قالوه، ومن أعظمهم الشيخ الموفق، لا سيما في الكافي، والمجد المسدد – ابن تيمية الجد -والشارح، والشيخ تقي الدين- أي شيخ الإسلام ابن تيمية الحفيد – فإن اختلفوا فالمرجع إلى ما قاله الشيخان: أعني: الموفق والمجد، ثم ما وافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه، فإن اختلفا من غير مشارك لهما فالموفق، ثم المجد، وإلا ينظر فيمن شاركهما من الأصحاب لا سيما إن كان الشيخ تقي الدين أو ابن رجب).[55]
ولهذا صار ابن تيمية عند متأخري الحنابلة شيخ المذهب عند الإطلاق، كما قال الحجاوي الحنبلي الدمشقي في متن الإقناع، بشرح البهوتي الحنبلي المصري في كشاف القناع: (.. (ومرادي بالشيخ) حيث أطلقته (شيخ الإسلام) بلا ريب (بحر العلوم) النقلية والعقلية (أبو العباس أحمد) تقي الدين بن عبد الحليم (بن تيمية)، كان إماما مفردا، أثنى عليه الأعلام من معاصريه فمن بعدهم، وامتحن بمحن وخاض فيه أقوام حسدا، ونسبوه للبدع والتجسيم، وهو من ذلك بريء، وكان يرجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين، فكان من أمره ما كان، وأيده الله عليهم بنصره).[56]

المرحلة الثالثة: من الاجتهاد المذهبي إلى الإمامة والاجتهاد المطلق ومشيخة الإسلام:
وهي ما قبل الأربعين ببضع سنين، إلى وفاته وقد ناهز السبعين، وفيها بلغ درجة الإمامة في الدين، وأصبح مرجعا لعامة المسلمين، ولم يعد يتقيد بمذهب فقهي، بل ولا حتى بالمذاهب الأربعة، وإنما يفتي بحسب ما ترجح عنده بالدليل من الكتاب والسنة، كما قال الطوفي: (وفي عصرنا من هذا القبيل شيخنا الإمام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني حرسه الله تعالى، فإنه لا يتوقف في الفتيا على ما صححه الأصحاب من المذهب، بل يعمل ويفتي بما قام عليه الدليل عنده).[57]
وهو ما لم يحدث من قرون، منذ شيوع التقليد، وقصر الاجتهاد فقط على الترجيح المذهبي، حتى لا يكاد يوجد مجتهد يخرج عن المذهب، فضلا عن المذاهب الأربعة، قال الذهبي: (وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها، واحتج لها بالكتاب والسنة، وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام عليه الدليل عنده).[58]
وقال ابن حجر: (قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه.. ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر).[59]
وقال الذهبي أيضا: (وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل يقوم بما دليله عنده).[60]
ونقل ابن كثير عن علم الدين البرزالي قوله عن ابن تيمية: (وقل أن سمع شيئا إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم، وكان ذكيا كثير المحفوظ فصار إماما في التفسير وما يتعلق به، عارفا بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذي كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء، عالما في الأصول والفروع والنحو واللغة، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس، ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظا له، مميزا بين صحيحه وسقيمه، عارفا برجاله متضلعا من ذلك، وله تصانيف كثيرة، وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع، كمل منها جملة وبيضت، وكتبت عنه وقرئت عليه أو بعضها، وجملة كبيرة لم يكملها، وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن، وأثنى عليه وعلى علومه وفضائله جماعة من علماء عصره، مثل القاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم، والتدين، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
ماذا يقول الواصفون له
وصفاته جلت عن الحصر
هو حجة لله قاهرة
هو بيننا أعجوبة الدهر
هو آية في الخلق ظاهرة
أنوارها أربت على الفجر
وهذا الثناء عليه، وكان عمره يومئذ نحو ستين سنة).[61]
وقد شهد لها أئمة عصره في هذه المرحلة من كل المذاهب بالإمامة في الدين، وبلوغ درجة الاجتهاد، وتحقق شروطها فيه، ووصفوه بأنه شيخ الإسلام، حتى لا يعرف في تاريخ الإسلام كله من شهد له نحو مئة إمام من أهل عصره على اختلاف مذاهبهم الفقهية ومشاربهم العقائدية بأنه شيخ الإسلام إلا ابن تيمية وحده!
قال الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي: (وها أنا بعون الله العلي الكبير ذاكر من أثنى عليه بذلك، وبغيره من الجم الغفير ممن حضرني ذكره، وظهر لي بل لزمني إشاعته ونشره… ولقد كان العلامة الإمام قاضي قضاة مصر والشام أبوعبد الله محمد ابن الصفي عثمان ابن الحريري الانصاري الحنفي يقول: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن! وسيأتي إن شاء الله تعالى ذلك في ترجمته، لأني رتبت أسماء من شهد لابن تيمية من الأعلام بإمامته وأنه شيخ الإسلام على حروف المعجم المألوفة).[62]
وقد بلغ عدد من ذكرهم ابن ناصر الدين خمسة وثمانين إماما بين محدث وفقيه ومفسر وأصولي ومتكلم، ثم قال: (وهذا آخر من ذكرنا من الأعلام ممن سمى الشيخ تقي الدين ابن تيمية بشيخ الإسلام، ولقد تركنا جما غفيرا وأناسي كثيرا ممن نص على إمامته، وما كان عليه من زهده وورعه وديانته، وكذلك تركنا ذكر خلق ممن مدحه نظما في حياته أو رثاه بشعر بعد مماته).[63]
وقد ذكر منهم ابن دقيق العيد، وابن عبد الدائم، وابن عبد الهادي، وابن سيد الناس، والذهبي، وابن كثير، والإمام سراج الدين البلقيني، وابن أبي المظفر الشافعي النابلسي، وابن فضل الله العمري، وشهاب الدين البقاعي الشافعي، وابن الواني، وجمال الدين ابن المهندس الحنفي، وأبي المظفر السرمري الحنبلي، وابن رسلان البعلبكي الحنبلي، والقاضي ابن الزملكاني الشافعي، وابن القيم، وابن حيان الأندلسي، وابن السبكي، وابن السراج القونوي، وابن النحاس، وقاضي القضاة ابن الحريري الحنفي.
قال عنه علم الدين البرزالي: (الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ القرآن وبرع فيه، والعربية والأصول، ومهر في علمي التفسير والحديث، وكان إماما لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين، وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قول ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم، كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة والاشتغال بالله تعالى والتجرد من أسباب الدنيا ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأناب إلى الله تعالى خلق كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر والتقلل من الدنيا ورد ما يفتح به عليه).[64]
وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي: (الإمام العلامة، الحافظ الحجة، فريد العصر، بحر العلوم: تقي الدين أبو العباس الحراني، ثم الدمشقي، قرأ وانتقى وبرع في علوم الآثار والسنن، ودرس وأفتى وفسر، وصنف التصانيف البديعة، وانفرد بمسائل فنيل من عرضه لأجلها، وهو بشر له ذنوب خطأ، ومع هذا فوالله ما رأت عيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، كان إماما متبحرا في علوم الديانة، صحيح الذهن، سريع الإدراك، سيال الفهم، كثير المحاسن، موصوفا بفرط الشجاعة والكرم، فارغا عن شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه، ذكره أبو الفتح اليعمري – الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الشافعي المصري – في جواب سؤالات أبي العباس ابن الدمياطي الحافظ فقال: ألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا، إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه وذو رايته، أو حاضر بالنحل والملل لم ير أو سع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، لم تر عيني مثله ولا رأت عينه مثل نفسه).[65]
وذكر ابن ناصر الدين مثل ما نقله الذهبي عن ابن سيد الناس وزاد: (.. برز في كل فن على أبناء جنسه، لم تر عيني مثله ولا رأت عينه مثل نفسه،كان يتكلم في التفسير فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب، إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهودا ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق).[66]
وقال ابن عبد الهادي (ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والأشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبل الخير، حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم، والإنابة والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد، مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له، وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم والصبر على من آذاه والصفح عنه والدعاء له وسائر أنواع الخير، وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المخالفين، وشجى في حلوق أهل الأهواء المبتدعين، وإماما قائما ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرا لا تكدره الدلاء، وحبرا يقتدي به الأخيار الألباء، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار،قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل، نفسه وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه).[67]
وكتب الإمام البقاعي الشافعي بخطه على نسخة من كتاب (“الجواب الباهر في زيارة المقابر” أجاب به شيخ الإسلام، مفتي الأنام، أحد الأئمة الأعلام، فريد دهره، ومجتهد عصره، بقية السلف، وقدوة الخلف: أبو العباس أحمد بن الإمام عبد الحليم بن الإمام عبد السلام ابن تيمية، جوابا لسؤال ولاة الأمور عما أفتى به في زيارة القبور، سطره زمن حبسه بالقلعة المحروسة، حين امتحن بها وسجن بسببها، فذكر في هذا الجواب السنة، ورد على من نسب إليه منع الزيارة مطلقا وبينه قدس الله روحه ونور ضريحه).[68]
وقال ابن حجر عنه: (ونظر في الرجال والعلل، وتفقه وتمهر وتميز وتقدم، وصنف ودرس وأفتى، وفاق الأقران، وصار عجبا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والإطالة على مذاهب السلف والخلف).[69]
وقد أكثر في هذه المرحلة من التصنيف والفتاوى حين تصدى لنوازل الأمة التي لم يستطع فقهاء عصره الإجابة عنها، كما قال الحافظ البزار: (وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل فهي أكثر من أن أقدر على إحصائها، لكن دون بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلدا، وهذا ظاهر مشهور، وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة، وقل أن وقعت واقعة وسئل عنها إلا وأجاب فيها بديهة بما بهر واشتهر، وصار ذلك الجواب كالمصنف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل، ومطالعة كتب، وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله).[70]
وكما قال الذهبي عنه: (شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم.. وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله من المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلا عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس).[71]
وقال الذهبي في موضع آخر وقد ذكر الشيخ رحمه الله: (كان آية في الذكاء، وسرعة الإدراك، رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علما، وزهدا، وشجاعة، وسخاء، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وكثرة تصانيف… فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلّهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحتمل أن ترصع في مجلدتين، وهو بشر من البشر له ذنوب فالله تعالى يغفر له ويسكنه أعلى جنته، فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، وكان رأسا في العلم، يبالغ في إطراء قيامه في الحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ولا لحظتها من فقيه).[72]
وقال الذهبي قبل وفاة ابن تيمية بدهر طويل: (قلت وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجب في استحضاره واستخراج الحجج، منه وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند، بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف من بحر وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي، وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالا عديدة، وينصر قولا واحدا موافقا لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليل من التفسير أو من الفقه أو من الأصولين أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحوا من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلدة، وله في غير المسألة مصنف مفرد في مجلد، ثم ذكر بعض تصانيفه، وقال ومنها كتاب في “الموافقة بين المعقول والمنقول” في مجلدين، قلت هذا الكتاب وهو كتاب “درء تعارض العقل والنقل” في أربع مجلدات كبار، وبعض النسخ به في أكثر من أربع مجلدات).[73]
وقال أيضا: (أيضا جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه فوجدتها ألف مصنف ثم رأيت له أيضا مصنفات أخر).[74]
وقد عده أئمة عصره من مجددي الدين، كما قال الحافظ عمر بن علي البزار (جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع أمره لإعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته من أكبر شهادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم أنه ممن عني نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله “إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”، فلقد أحيا الله به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين، والحمد لله رب العالمين).[75]

طريقة درسه وإلقائه لمحاضرته:
قال الحافظ البزار: (وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها، وكان لا يهيئ شيئا من العلم ليلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره، ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، ونصر بعضها وتبين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح حجته، واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ كالغائب عن الحاضرين، مغمضا عينيه، وذلك كله مع عدم فكر فيه أو روية، من غير تعجرف، ولا توقف، ولا لحن، بل فيض إلهي حتى يبهر كل سامع وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يصمت، وكنت أراه حينئذ كأنه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب، ويحير الأبصار والعقول، وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا ويصلي ويسلم عليه، ولا والله ما رأيت أحدا أشد تعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على أتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان ورد شيئا من حديثه في مسألة ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه، يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنا من كان، وقال رضي الله عنه كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا الله ورسوله، وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه، ويقبل على الناس بوجه طلق بشيش، وخلق دمث، كأنه قد لقيهم حينئذ، وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال، مع ذلك الحال، ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس، وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور، يوافقني عليه كل حاضر بها، وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم، علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين).[76]
وقال أيضا (أما غزارة علومه فمنها ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه من الغاية التي ينتهى إليها، والنهاية التي يعول عليها، ولقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها، وكان مجلسه في وقت مقدر بقدر ربع النهار، يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئا معينا يبيته ليستعد لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسر، ويأخذ هو في القول على تفسيره، وكان غالبا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضى الزمن المعتاد لأورد أشياء أخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظرا في مصالح الحاضرين، ولقد أملى في تفسير {قل هو الله أحد} مجلدا كبيرا، وقوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} نحو خمس وثلاثين كراسة، ولقد بلغني أنه شرع في جمع تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلدا، أما معرفته وبصره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته وسراياه وبعوثه، وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة، فإنه كان رضي الله عنه من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارا لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثا في مصنف أو فتوى أو استشهد به أو استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرهما، وذكر اسم رواية من الصحابة، وقل أن يسأل عن أثر إلا وبين في الحال حاله وحال أمره وذاكره).[77]

تصديه للتجديد في أصول الدين:
لقد رصد ابن تيمية ظاهرة سقوط المشرق الإسلامي تحت الاحتلال المغولي، وحاول تحديد أسبابها، رابطا بين الأسباب الشرعية الأمرية، والكونية القدرية، وقد أدرك بأن الإصلاح الديني غير ممكن في ظل الفراغ الروحي الخطير، والتراجع الإيماني الكبير، إلا بتجديد أصول الدين ببعث روح الإيمان المطلق بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم، كمصدرين لهداية العقول، وتطهير القلوب، وتزكية النفوس، وأنه ما لم تحطم كل الأوثان المعنوية التي تعيق عودة الإيمان بالقرآن والتسليم للسنة كمصدر هداية وزكاء، وكمرجعية حكم وقضاء، حتى لا يزاحمهما فلسفة يونانية، ولا معارف إشراقية عرفانية، ولا تقليد مذهبي أو عقائدي لبشر كائنا من كان، وحتى يكون الله ورسوله هما البداية والنهاية، وهما المرجع والهداية؛ ولهذا كان جل عنايته في التجديد في أصول الدين، وإحياء حقائق التوحيد، بعد أن استشرت الجاهلية في ظل السيطرة المغولية، التي فتحت الطريق للمنجمين والسحرة والمشعوذين، وفي ظل حالة من التشرذم والعصبية للمذاهب والفرق التي كانت من أسباب الهزيمة أمام الغزو الخارجي، وقد كان لرحلته إلى الحج سنة 692 هـ وهو ابن إحدى وثلاثين سنة أثر كبير في معرفة واقع الأمة، ومدى الانحراف الذي وصلت إليه، قال ابن كثير في حوادث سنة 692 هـ: (وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله، وكان أميرهم الباسطي ونالهم في معان ريح شديدة جدا، مات بسببها جماعة، وحملت الريح جمالا عن أماكنها، وطارت العمائم عن الرؤوس، واشتغل كل أحد بنفسه).[78]
وقال العيني: (وفيها: حج بالناس في الركب المصري الأمير بدر الدين بكتاش المعروف بالطيار، وفي الركب الشامي الأمير الباسطي، وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية، ونالهم في مكة ريح شديدة جدا، مات بسببها جماعة، وحملت جماعة من أماكنها).[79]
قال الحافظ البزار: (ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلا عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومن قلد المسلم فيها أحد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوجود والدهرية والقدرية والنصيرية والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسالمية وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال، وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قل أن سمعت أو رأيت معرضا عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده،فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيف دلائلهم، ذبا عن الملة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجلية، ولا والله ما رأيت فيهم أحدا ممن صنف في هذا الشأن وادعى علو المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام، وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سموها بزعمهم حكميات وعقليات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضا عن غيرها أصلا ورأسا، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم، فتخبط حتى خبط فيها عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل، وإلا فالله أعظم لطفا بعباده أن لا يجعل لهم عقلا يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال، وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانا يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى! هذا باطل قطعا يشهد له كل عقل سليم، لكن {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور}، قال الشيخ الإمام قدس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أو جب أني صرفت جل همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية.
قلت: وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألف فيها لكل بصير الحق من الباطل، وأعانه بتوفيقه حتى رد عليهم بدعهم وآراءهم، وخدعهم وأهواءهم، مع الدلائل النقلية، بالطريقة العقلية، حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جلية، واضحة يعقلها كل ذي عقل صحيح، ويشهد لصحتها كل عاقل رجيح، فالحمد لله الذي من علينا برؤيته وصحبته، فلقد جعله الله حجة على أهل هذا العصر المعرض غالب أهله عن قليله وكثيره، لاشتغالهم بفاني الدنيا عما يحصل به باقي الآخرة فلا حول ولا قوة إلا بالله).[80]
وما زال الحديث مع ابن تيمية، ومعركة الحرية، وللحديث بقية..

[1] الرد على البكري – (1 / 137)
[2] البخاري ح رقم 6889، ومسلم ح رقم 2669 .
[3] اقتضاء الصراط المستقيم (1 / 356)
[4] الاستقامة (1 / 325)
[5] الصفدية (1 / 233)
[6] الرد على البكري (1 / 369)
[7] طريق الهجرتين وباب السعادتين (1 / 155)
[8] مجموع الفتاوى (3 / 164)
[9] الرد على البكري (1 / 137)
[10] الرد على البكري – (2 / 731)
[11] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (45 / 310)
[12] الزهد والورع والعبادة – (1 / 107)
[13] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (46 / 44)
[14] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (47 / 30)
[15] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (47 / 346)
[16] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي (47 / 348)
[17] زبدة الحلب في تاريخ حلب (1 / 181)
[18] إقامة الدليل على إبطال التحليل – (3 / 221)
[19] الصفدية (1 / 269)
[20] معجم البلدان (3 / 117)
[21] مجموع الفتاوى (22 / 254)
[22] – (ص 113)
[23] مجموع الفتاوى (28 / 146)
[24] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 137)
[25] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 139)
[26] البداية والنهاية (13 / 253)
[27] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 142)
[28] السلوك لمعرفة دول الملوك (1 / 143)
[29] البداية والنهاية (13 / 255)
[30] البداية والنهاية (13 / 268)
[31] البداية والنهاية (13 / 268)
[32] البداية والنهاية (13 / 275)
[33] تاريخ ابن خلدون (1 / 147)
[34] مجموع الفتاوى (28 / 427)
[35] الدرر الكامنة 5/ 185، والعقود الدرية (1 / 39)
[36] العقود الدرية (1 / 20)
[37] العقود الدرية – (1 / 21)
[38] مجموع الفتاوى (4 / 27)
[39] مجموع الفتاوى (10 / 560)
[40] مجموع الفتاوى (2 / 465)
[41] منهاج السنة النبوية (8 / 36)
[42] اقتضاء الصراط المستقيم (2 / 339)
[43] العقود الدرية – (1 / 40)
[44] العقود الدرية (1 / 20)
[45] الرد الوافر (1 / 86)
[46] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان (1 / 288)
[47] العقود الدرية (1 / 42)
[48] العقود الدرية (1 / 20)
[49] شرح مختصر الروضة (3 / 627)
[50] شرح مختصر الروضة (1 / 218)
[51] هذه العبارة (رحمه الله) كما هوظاهر زيادة إما من الناسخ أو من الطوفي نفسه حين قرأ عليه كتابه بعد وفاة شيخه.
[52] شرح مختصر الروضة (3 / 214)
[53] الصواعق المرسلة (2 / 624)
[54] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/ 17)
[55] الفروع وتصحيح الفروع (1/ 31).
[56] كشاف القناع عن متن الإقناع (1 / 28)
[57] شرح مختصر الروضة (3 / 627)
[58] العقود الدرية (1 / 132)
[59] الدرر الكامنة 5/ 175
[60] ذيل طبقات الحنابلة (4/ 496- 497)
[61] البداية والنهاية (14 / 157)، والرد الوافر (1/122).
[62] الرد الوافر (1 / 25)
[63] الرد الوافر – (1 / 137)
[64] الرد الوافر – (1 / 121)
[65] المعجم المختص بالمحدثين (1 / 25 رقم 22).
[66] الرد الوافر – (1 / 26)
[67] العقود الدرية (1 / 21)
[68] الرد الوافر (1 / 70)
[69] الدرر الكامنة ١/ ١٦٨ رقم ٤٠٩
[70] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 26)
[71] العقود الدرية – (1 / 39)
[72] العقود الدرية – (1 / 40)
[73] العقود الدرية (1 / 132)
[74] العقود الدرية (1 / 135)
[75] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 19)
[76] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 27)
[77] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 20)
[78] البداية والنهاية (13 / 392)
[79] عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان للعيني (1 / 260)
[80] الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية (1 / 33)

للقراءة من المصدر

تعليق 1
  1. الاشفندين يقول

    إبن تيمية ” أكذوبة يسمونها شيخ الإسلام وقد قال عنه بعض العلماء ان علمه كان اكبر من عقله
    وكبار علماء اهل السنة والجماعة الذن عاصروا شيخ التكفير ابن تيمية وناقشوه واستمعوا الى اراءه وقرؤوا كتبه وحاكموه وحكموا عليه بالكفر والاعدام (من حفر حفرة لاخيه وقع فيها!!) وخفف الحكم الى السجن المؤبد بعد تدخل الحاكم انذاك ومات في سجنه!. كي تكون حجة على الوهابيين والسلفيين واتباعهم ومريديهم علهم يستفيقوا من ضلالهم وتكفيرهم للمسلمين السنه المتصوفة والاشاعرة والشيعة ومن يخالفهم من المسلمين. والله تعالى من وراء القصد.

التعليقات مغلقة.