الجزائريون والفساد: من يحارب الآخر؟ | بشير عمري
Apr 26, 2017
في غمرة الحملة الانتخابية للتشريعات المقررة يوم في الرابع من أيار/مايو المقبل، توقع أحمد أويحيى أن يكتسح حزبه (التجمع الديمقراطي الوطني) غالبية مقاعد مجلس النواب، وهذا في أحد التجمعات الدعائية الانتخابية.
وطبعاً لم يوضح أويحيى أي القواعد استند إليها في توقعاته تلك، لا سيما وأن السياسة معطلة في الجزائر منذ انقلاب 1991، وصالونات الكلام السياسي الموسمية ذات الصفة الكرنفالية، كما هو الشأن في ربيع هذا العام، لم تملأ الفراغ السياسي الأعظم الحاصل منذ أزيد من عقدين، كما أن مراكز الرصد والاستشراف والاستقراء لا وجود لها في جزائر الـ48 جامعةً ومعهداً جامعياً!
ورغم كل ذلك أويحيى، كغيره من رجالات السلطة المتهمة بإيصال البلاد إلى حافة الإفلاس وضد منطق الأشياء وقوانين السياسة والتاريخ، لا يجد أويحيى حرجاً في أن يتوج نفسه مسبقاً بإرادة الناس، ما جعل البعض يتساءل عن سر ومصدر الجرأة التي يتصف بها أمثال هؤلاء في مواصلة فرض وجودهم وإرادتهم على مجتمع قيل عنه بإجماع المؤرخين والساسة والنفسانيين أنه غير قابل للطغيان.
ومع أن الفساد فاق أعتاب التقريرية والإنشائية الإعلامية والحشو الخطابي للمعارضة، أحاديث الارصفة والمقاهي، مثلما كان عليه الحال بعيد الانفتاح السياسي أو ما عرف حينها بقضية الـ26 مليار دولار التي فجرها الوزير الأول السابق عبد الحميد ابراهيمي، وصار واقعاً عملياً واعترافاً ضمنياً وأحياناً تصريحياً لا تلميحاً من قبل الفاعلين السياسيين وبل ممن هم في السلطة أنفسهم مثلما كان عليه الحال مع أويحيى ذاته الذي هاجم في إحدى محطات خلافاته أو اختلافاته مع الحاكمين الفعليين للبلاد، تغول المال في السياسة، رغم كل ذلك، بدا المجتمع عبر كل شرائحه ومؤسساته أضعف من أن يعصف بالظاهرة، ويتمرد على المنتفعين بمقدرات الشعب مثلما فعل في خريف غضبه الذي استبق ما يسمى بالربيع العربي بما يزيد عن العقدين، ونقصد بها هنا أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988 التي كانت أول ربيع عربي تم إجهاضه وسحقه بتواطؤ الداخل والخارج معاً، إذ لم يتحقق التغيير سوى على القابضين على مصير البلد الذين ازدادوا نفوذاً وغنى وبالمقابل ازداد الوطن تأخراً والمواطن فقراً.
طبعاً جدلية إرادة التغيير الدائمة والهزيمة أمام طاحونة الفساد عادة ما أخفق الراصد للمشهد السياسي الجزائري في فك ملابساتها وفق ما تقتضيه الطبائع المكونة للإشكال، لا سيما ما يتعلق منها ببنية السلطة والمجتمع بوصفهما ضدين يمشيان على خطين متوازيين متضادين بإرادة قهرية، لذا يتم التسطح في استقراء تاريخ الفساد المرتبط عضوياً بميلاد السياسة وصراعاتها وتقلباتها، مذ تلاشت قواعد التحاكم والاحتكام في النشاط السياسي والتنافس حول السلطة لصالح ميزان القوة بكامل صنوفها وذلك بعيد الاستقلال الوطني بشكل رسمي وقبل ذلك بسنوات بشكل آخر، وأي سعي لضبط الظاهرة منشأً ومسلكاً خارج السياق العام لتطور السلطة والدولة من ناحية والمجتمع من ناحية أخرى، عُد نفخاً في الرمل، واجتراراً للبان الكلام.
وقد أكدت التجربة، أن كل من راح يتساءل عن المنشأ بغير هدى من التجربة الوطنية للسلطة والدولة في المجتمع الجزائري، ضاع ضيعة ثانية بعد الأولى المتعلقة بالمنشأ، في استشراف المآلات التي قد تنتهي إليها الظاهرة في حال لم يقطع المجتمع مع سيرورتها بالشكل ذاته الذي يفرزه صلف هؤلاء وتستطيعه أدواته الخاصة من وعي وتضحية.
ذلك لأن استدامة الاسترابة والانتظار التي اتصف بها رد فعل المجتمع عبر كامل أطيافه وشرائحه، أعاق الملاحظين عن فهم الماضي والحاضر من الظاهرة وبالتالي حضر العجز الكلي عن وضع تصور لها في قادم المراحل، وهذا تأثراً بالضبابية التي يعرفها مسرح الصراع على هرم السلطة وخلو قانون ذلك الصراع من أداة الحسم الطبيعي.
فحقيقة صراع الثروة والثورة كعاملين محفزين لاستشراء الفساد في الجزائر يعود في قدمه للحظة اغتنام الوطن، وتحريف سكة التوجه الوطني العام، في رسم وتسيير المجتمع ومؤسساته وسلطه الرمزية والإنتاجية والسياسة والعنفية، من خلال الانقلابات التي راحت تتوالى قبيل وبعيد الاستقلال الوطني فارضة على المجتمع إرادة أصحابها رافضة التمشي مع توصيات وتوجهات المجتمع.
فالعبث بالنشأة السياسية والسيادية الأولى للبلاد من خلال تحطيم منجزات الوعي والفعل الوطنيين اللذين كانا سبباً في انبثاق الذات الوطنية، جعل السلطة في يد جماعة تحتكر الشر والخير معاً وتوزعها بحسب حاجتها الذاتية وما يخدم مصالحها في المعركة مع الصوت المعارض للانحراف المؤدي إلى الانجراف الذي من خلاله توضع الجزائر اليوم بفعل هؤلاء عبر المراحل الدولة الوطنية على حافة المجهول.
فطالما ركز هؤلاء المال والسياسة في أيديهم، فهم قد تملكوا بالضرورة القدرة على توجيه المجتمع الوجهة التي يريدون، استدامةً لمصالحهم واستبقاءً لهيمنتهم على مقدرات البلاد وجثوهم على مصير الأمة.
وقد يتساءل أحدهم عن سر هاته القوة لدى السلطة في الجزائر، حتى تحتكر الارادة والوعي ولا تكتفي فقط بالهروب من شبهة الفساد بل تستمر في تخليقها، فالمعروف أن السلطة (الفعلية) في الجزائر لطالما وصفت بكونها منتجاً غير مجتمعي، أي أنها لم تتأت لا عن وعي لا إرادة المجتمع، فهذا الأخير لم يكن ذا طبيعة انقلابية قط ولا جهوية، ولا فئوية، ولو كانها حقاً، لاستطاع الاستعمار أن يكتم نفسه الثوري ويستبقيه في ملاحقه التاريخية والجغرافية، فكثيراً ما حاول عبر تلك السبل من خلال تأجيج الجهوية، وشراء ذمم الوجهاء، واستغلال بؤس بعض البسطاء لإحكام سيطرته على المجتمع، وهي ذات الوسائل التي اتبعتها ولا تزال السلطة، ما جعلها متغربة عن المجتمع طيلة عقود الاستقلال التي مضت، يعبر عنها بوسائل وخطابات عديدة لعل أبرزها غياب الشرعية، بقطع النظر عن مستويات الوعي والتحليل لهاته العبارة.
وطالما أن المجتمع في الجزائر هو من يمشي خلف السلطة عبر التحالف السري والأزلي بين أدوات الإغراء والقهر يصبح نسيان التطلع لنهاية وشيكة للفساد المؤسسي المتحصن بآليات التسيير والسيادة الرسميين أكثر من حتمي، فلا يمكن لمجتمع واعٍ بسيادته التامة على شؤون الأمة أن يقبل بميلاد بورجوازية هجينة مصطنعة بشكل فجائي قاطعة تماماً مع تاريخ حركة المال الخاص التي كانت جد بسيطة وضعيفة جسدتها لعقود منظومة مقاولاتية بسيطة تركز نشاطها في قطاع البناء لا غير، من نهاية ستينيات القرن الماضي، إلى نهاية ثمانينياته، ليتم دوسها وخلق غيلان مال لا عهد للمجتمع الجزائري بهم من أبناء فقراء ومحتاجين عبر قروض بنكية عمومية يشتغلون في عمومهم بقطاعات غير منتجة ومستهلكة للموازنة العامة من خلال مشاريع غير ذات أولوية ولا نفعية كما هو الشأن مع قطاع الطرقات الكبرى ومنها الطريع السريع شرق غرب.
وهكذا يتبين كيف أن الثروة قد زاوجت وزاملت الثورة عبر حقب تداول أجيال السلطة على قيادة المجتمع واقتياده، من يوم عُصف بالحكومة المؤقتة واشترى الانقلابيون ذمم بعض القادة الوطنيين، ليصححوا فيما بعد خطهم الثوري عبر السكوت المتواطئ على الانفجار البورجوازي الأول في سبعينيات القرن الفائت ممن كانت تخشاهم تلك السلطة وتعرف ما يعرفون عنها وما كانوا قادرين على فعله وتفعيله ضدها، ليكتسح الفساد مناطق أخرى من المجتمع سنوات حكم الشاذلي الذي تبرأ منها وتمرد عليها من خلال حركة الشعب سنة 1988 التي سُحقت وسحق ما تلاها من عهد جاد للتعدد الشامل كان قاب قوسين من أن يحول دفة القيادة الوطنية باتجاه المجتمع، لكن إرادة السلطة (الفعلية) أبت ذلك وفتحت حينها كل أدوات الاستحواذ الجديد على المجتمع ومن هذا الأخير تشكيل بورجوازية هجينة، في مقابل ساحة سياسية أهجن وأجهل، وساح المال العام في هذا الفضاء المتصحر من الوعي، واليوم يقف المجتمع على حافة الظمأ أمام كل مخاطر التاريخ.
وطيلة هذا النشاط الإنشائي الخاطئ على مستوى التوجه والتوجيه البنيوي للدولة والمجتمع من طرف السلطة، كانت النخب عن وعي وعن غيره لاهية في نشاطها غير المنقطع من الاستئناس بسجالات الهوية، مرة عن الأصل العرق للمواطن هل هو بربري أم عربي، عن قانون الأحوال الشخصية هل ينبغي أن يكون اسلامياً أم علمانياً، الشيء نفسه عن التعريب والفرانكوفونية، وحكم الإبقاء على «الإعدام» في القانون الجزائي من إعدامه!! قضايا هامشية تخدم الوعي المؤجل بضرورة تصحيح العربة السيادة وقلب شكلها المقلوب بجعل الحصان الذي هو المجتمع يقودها وليس سلطة ولدت في الظلام وفيه تعيش وتتناسل.
كاتب جزائري
اليوم أصبح لدينا مجتمعا , متكون من أفراد, بعد تكسير خلية الأسرة منذ 20 عاما.
النتيجة : وصلنا الى قوله عز وجل : تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى / واذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض قالوا انما نحن مصلحون /
vive la déesse république
.