في ماهية الدولة العميقة | يانيس فاروفاكيس
هذا النص هو ترجمة لمقالة صوتية تمّ تفريغها من موقع الأكاديمي السياسي الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس وزير المالية السابق كان قد نشرها صيف 2018
إعداد وحيد الجزائري | ترجمة د. رشيد زياني
المبحث الأول: العدو الأكبر للديمقراطية
الدولة العميقة أكبر عدو للديمقراطية. خلاصة ما يميز الديمقراطية الأثينية (الإغريقية) القديمة، على سبيل المثال، إذا وضعنا جانباً كل ما ارتبط بها من أوجه قصور، خاصة عيوبها الصارخة، مثل إقصائها للأجانب المقيمين في أثينا، والمهاجرين والنساء والعبيد، ومحاصرتهم خارج نطاق نفوذها، فهي رغم تلك العيوب، كانت تشكل إطارا يسمح باتخاذ جميع القرارات مباشرة من قبل الجماهير في تجمعات مفتوحة، صناعة فيها معظم مواقع السلطة بشكل علني، أي ما يمكن اعتباره النقيض تماما للدولة العميقة.
الدولة العميقة هي دولة تسير شؤونها في غرف مظلمة، بحيث لا يمكن لأحد رؤية منْ يتخذ القرارات. أتذكر، أول مرة صادفت فيها مصطلح “الدولة العميقة”، كنتُ حديث السن جدا، لم أبلغ بعدُ سنة العاشرة، وربما يتعين علي أن أذكِر مستمعي، بأنني نشأت في ظل نظام ديكتاتوري عسكري، وأن المصطلح المستخدم باللغة اليونانية، اتخذت له مرادفها باللغة الإنجليزية: Parakratos، أو Para-state، أو الدولة العميقة، أي الدولة التي تعمل بالتوازي مع ما يبدو واضحا أنه جهاز الدولة، كان يستعمل هذا المصطلح للإشارة إلى استمرارية نظام استبدادي يستخدم غطاء النظام البرلماني للتستر على واقع معيّن، لم يكن فيه للجماهير أبدا موقع قدم في مراكز السلطة، ولم يكن هناك نية البتة ليتولوا السلطة يوما، ولم تكن الديمقراطية أكثر من عملية إضفاء الشرعية على واقع يستبعد الشعب من مراكز السلطة، ولم تكن الجماهير تشكل جزءًا من ديمقراطيتنا التي نفتخر بها.
أتذكر إنني عندما كنت – مثلما أشرت إليه سالفا – صغيرًا جدًا، في الستينيات من القرن الماضي، حتى قبل أن تتعرض الديمقراطية اليونانية، النظام الديمقراطي، للاغتصاب من قبل الدبابات والجيش، أتذكر أنه كان في اليونان آنذاك رئيس وزراء جد محافظ، لكنه من شدة هَوْل ما شهده، لم يمتلك نفسه، صرخ يوما بقلق ورعب “منْ بحق السماء يحكم في هذا البلد؟” وذلك لأنه أدرك رغم أنه كان رئيس الوزراء، لم يكن يتحكم في جهاز الدولة، الأمر الذي جعله يستنتج وجود دولة عميقة تعمل خلف الستار.
المبحث الثاني: قوة الدولة والطبقات الأربعة لصناعة الدولة العميقة
تتجلى سلطة الدولة وقوتها بشكل واضح في احتكار السلطة، احتكار القوة لممارسة العنف، بفعالية، احتكار حق الدفاع عن سلطانهم، احتكار صلاحية توظيف العدالة؛ لكن بالنسبة إلي، إن ما أثار اندهاشي بشأن الدولة العميقة وطريقة تسيير شؤونها في العالم الغربي على وجه الخصوص، شيء لا بد أن نصارح أنفسنا والإقرار به: فعندما يتعلق الأمر بنظام ستالين في الاتحاد السوفيتي، أو نظام بول بوت المرعب في كمبوديا، لا يحتاج المرء أن يكون خبيرا سياسياً بارعا أو فيلسوفا سياسيا ليعرف ماذا يجري في هذه الدول، لأن الأمر يتعلق ببساطة باستخدام تعسفي منهجي للسلطة من قبل أنظمة مستبدة، لكن ما يثير الاستغراب هو ليبرالية ديمقراطية أنظمتنا الغربية، التي لدينا بشأنها شعورا وإحساسا مشروعين في اعتقادي، بالفخر، كوننا نتحكم في ظل هذه الديمقراطية، بسياسات بلداننا. لكن، في واقع حياتنا، نجد داخل هذا العالم الديمقراطي الليبرالي في الغرب، أربع طبقات مثيرة للاهتمام، تشتغل من خلالها الدولة العميقة؛ وعندما أقول الدولة العميقة، ما أعنيه هو إن شئتم باللغة البليرية – نوع من التكنوقراطية العمومية / الخاصة نسبة لمذهب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير – جزء منها يحتفظ به الموظفون العموميون ويسيرون شؤونه، وجزء أخر تم خصخصته بالفعل.
هذه الطبقات الأربع هي طبقات الصناعة. صناعة الأسعار، الشركات الكبرى مثل Coca Cola وExxonMobil و Google وFacebook لا تنخرط في المنافسة في السوق لكن لديها طرق خاصة بها للتأثير فيه، وصناعة الأسعار فيما بينها؛ هذه هي الطبقة الأولى.
الطبقة الثانية، صناعة الرغبة. نظن ونوّد الاعتقاد بأننا نفعل ما نشاء ونحب ما نفعله، لكن في نهاية المطاف، الكثير من رغباتنا هي في الواقع نتيجة تحكم وصياغة خبراء التسويق وشركات العلاقات العامة.
الطبقة الثالثة هي صناعة الأموال. فلا يجب أن ننسى أن القطاع المالي ينتج أموالًا كل يوم من لا شيء، وهذا واحد من أكثر الجوانب الغريبة والمزعجة التي تميز الرأسمالية المالية.
وأخيرًا، صناعة الإجماع، على حد تعبير شومسكي، وفي حالة انهيار الإجماع كما حدث في اليونان في عام 2015، يحدث صناعة الإجماع- وهو نوع من الثورة المضادة التي تؤدي إلى خضوع الأغلبية لخدمة مصلحة الأقلية.
الدولة العميقة الفاشلة هي فقط من يحتاج إلى تعبئة الأجهزة الأمنية: الجيش، والجهاز القضائي، والترسانة القانونية. وهي تعرف كيف تفرض رقابتها على الإرادة، أما الدولة العميقة الناجحة، كما أوضحته من قبل، تنجح في صناعة الأسعار والرغبة، والمال والإجماع. وعندما تفشل في تحقيق ذلك فقط، أي لمّا تفقد الدولة العميقة السيطرة، تجد نفسها في حاجة إلى إقحام قوات الشرطة السرية التابعة للجيش وما إلى ذلك.
أتذكر عندما انتقلت إلى إنجلترا في عام 1978 لأول مرة، وكنتُ أبلغ 17 عامًا من العمر، أتذكر أنني دخلت في نقاش مع أحد المناضلين النقابيين الانجليز، قلت له “لا أفهم كيف يمكنك أن تشتكي وتثور، هل تعلم، أنني نشأت أنا في ظل ديكتاتورية، يا صاحبي”، استدار نحوي، وكان من يوركشاير؛ أتذكر كان يعمل في مصنع للصلب، وكان مرابطا في خط الاعتصام، فردّ عليّ قائلا “نعم أعلم ذلك، لكن، هل تريد أن تفهم ما يجري؟ إذا هددت الديمقراطية بإحداث تغيير ما في هذا البلد، يعني بريطانيا، سنحصل على الأرجح على ديكتاتورية عسكرية أيضًا.
المبحث الثالث: سوء فهم الفردية الليبرالية لحدود الدولة
الجزء العميق من الدولة العميقة يشبه بشكل من أشكال البُعد الجيولوجي. وبنفس الطريقة التي يتبعها منْ يريد فهم تركيبة الزلازل، فعندما يحاول فهم مورفولوجيا المناظر الطبيعية المحيطة بك، يحتاج في هذه الحالة إلى الحفر عميقا في الأرض لكي يرى مختبئا في الأسفل كل ما لا تستطيع العين المجردة إدراكه، ومن هنا فإن السعي للكشف عن الأسباب الكامنة تحت السطح، هو بمثابة محاولة محفزة ومثيرة للمشاكل في الوقت ذاته، لكنها مع ذلك، عمل يجب علينا القيام به كمواطنين، لكي نظل على علم وإدراك بالقوى التي تشكل حاضرنا.
من أجل فهم الدولة العميقة، من الضروري فهم “لا محدوديتها”. يتبنى الفلاسفة والمفكرون السياسيون الليبراليون نظرة خاطئة للدولة باعتبارها خلية ذات حدود وجدران محددة جيدًا، تنطوي على خط فاصل بين المجال العام والمجال الخاص؛ بين مجال الدولة والمجال الخاص أو فضاء السوق. لكن الأمر ليس كذلك. إذا أردنا حقًا أن نفهم كيف تنشأ السلطة، وكيف يُعاد إنتاجها ونقلها في المجتمع، فعلينا أن نفهم أنه لا يوجد حدود واضحة؛ لا يوجد خط فاصل بين سلطة الدولة وسلطة تكتل الشركات الكبرى.
لقد ارتكب خبراء الاقتصاد خطأً وضللوا الجمهور وجعلوه يعتقد بأن هناك تمايزًا واضحًا بين الدولة من جهة والسوق من جهة أخرى، في حين الأمر خلاف ذلك. لو قام أحد على سبيل المثال، بزيارة مركب Google في كاليفورنيا، أو قُدِر له يوما دخول مقر شركة Microsoft، أو زيارة شركة ExxonMobil، سيرى أن ما يوجد داخل أسوار هذه المباني والفضاءات، كيانات تشبه إلى حد بعيد ما يمكننا اعتباره اتحاد سوفيتي مصغر: اقتصاد مخطط ، مجتمع يسير بشكل مخطط ، تجمعات بشرية مخطط لها، تسيّر وفق تسلسل هرمي واضح؛ وتلك التسلسلات الهرمية السائدة وسط عالم تكتل الشركات، ترتبط في نهاية المطاف وبشكل وثيق بسلطة الدولة، ومن ثم، فإن الطريقة التي تبرم بها Google وExxonMobil و General Dynamics الصفقات التجارية مع قطاع الصناعة العسكرية؛ وعمالقة الصناعات الطبية في الولايات المتحدة، تجعل من العبث الحديث عن تقسيم واضح بين القطاعين، العام والخاص.
ولهذا، يمكننا القول إلى حد ما، أن القطاعين العام والخاص، أي الدولة من جهة وتكتل كبريات الشركات من جهة ثانية، متشابكين بطريقة، تجعل فكرة وجود حدود واضحة بينهما، بلا معنى. نعيش داخل نوع من التكنوقراطية التي يمكن النظر إليها في شكل تكنوقراطية خاصة/عمومية، لا يمكن في نطاقها تحديد بدقة، حدود الدولة العميقة؛ مما يجعل سقف الدولة العميقة مضخمٌ إلى أقصى الحدود ومعظم فيه بشكل كبير بسبب عدم وجود حدود واضحة للدولة العميقة، وهذه التكنوقراطية الخاصة/ العمومية، لا تتميز فحسب بلا محدوديتها من حيث غياب الخط الفصل بين القطاعين العام والخاص، بل لا محدوديتها تتجاوز حدود الدول القومية، وحتى داخل الدول القومية لديها القدرة على التغلب على أي من التصنيفات، التي نعتقد عادة بأنها سارية المفعول وصالحة في ديمقراطياتنا.
المبحث الرابع: الدولة العميقة، كمؤامرة بدون متآمرين
من وجهة نظري، تتميز الدولة العميقة في الديمقراطيات الغربية، بتماسك من دون وجود تصميم واضح المعالم. بعبارة أخرى أكثر بساطة، إنها مؤامرة بدون متآمرين. أنا لا أؤمن بالمؤامرات، لذا دعوني أقدم لكم مثالاً واحدا فقط، بناء على تجربتي الشخصية.
في 2015، عندما كنت وزيراً للمالية في اليونان، أتذكر كيف كانت تعمل وسائل الإعلام، أعني وسائل الإعلام العالمية، كان الأمر مذهلاً للغاية، لأن ما كان يدور بيني وبين محاوري من حديث خلف الأبواب المغلقة شيءٌ، بينما الذي كان يُنشَر في الخارج في وسائل الإعلام شيء آخر تماما، يتناسب كليا مع مصالح محاوري، لكنه غير صحيح على الإطلاق، مع ذلك ينتشر بشكل متناسق في جميع أنحاء العالم. كانت رائحة المؤامرة واضحة تماما، لكن لم تكن هناك مؤامرة؛ أو على الأقل لم يكن هناك متآمرون، لم يوجد متآمرون واعون بالمؤامرة. ماذا كان يحدث؟ كان الأمر بسيطًا جدًا، حقا عندما أشرت إلى مفهوم نعوم تشومسكي حول صناعة الإجماع، ما كنت أقصدته، هو أن لديك نظامًا، لا يحاول فيه أحد عمليا، صنع الإجماع، ومع ذلك فهم يقومون بذلك.
لذا، من بين محاوري، كان أحدهم، دعنا نقول على سبيل المثال، من المؤسسات التي تقرض المال لليونان، صندوق النقد الدولي أو المفوضية الأوروبية أو البنك المركزي الأوروبي، يريد من الصحف أن تنشر في اليوم التالي لاجتماعنا، على صفحاتها موضوعا محددا. وما كان يقوم به هذا الشخص، هو تسريب إلى صحفي أو اثنين من الصحفيين المقربين من أطروحاتهم، في بروكسل، معلومات حول ما يفترض أنه حدث، وهي معلومات بطبيعة الحال غير صحيحة. كان لدى هذه المجموعة من الصحفيين مصلحة قوية في الحفاظ على علاقة ثقة مع محاوري، لأن محاوري كان يمدهم بالأخبار حول ما يجري مع أروقة السلطة، وكانت قدرة الصحفيين على إنتاج أخبار عاجلة وقصص سبق صحفي، تعتمد على مدى الحفاظ على هذه العلاقة، لذا فإن ما قيل لهذا الصحفي كان متداول بين مختلف الصحف كما لو كان حقيقة مطلقة، ونظرا لكسل الصحفيين وعدم تكليف أنفسهم عناء التحقق منها، كانوا ينسخون ببساطة ما تنقله صحف كالفاينانشال تايمز أو وول ستريت جورنال أو صحفي في تايمز أوف لندن، باعتبارها حقائق، ثم، سرعان ما تنتشر هذه الرواية المتواترة لتعم كافة أرجاء العالم حول ما يزعمون حدث في اجتماعنا، في حين لم نجد منشورا في أي وسائل ما يشير إلى أن هذه الأخبار خاطئة من أصلها.
إذن، هل كانت هذه مؤامرة؟ لا، لم تكن مؤامرة. لم يكن هناك أي شيء يمكن اعتباره تآمريا بالمعنى التقليدي، في شكل تلك الصورة النمطية التي تُظهِر شخصا عجوزا يدخن السيجار في غرفة مظلمة، لكن مع ذلك، كان العمل يسير على نحو يشبه عمل شبكة يمكن فيها للدولة العميقة صناعة الإجماع والخضوع دون وجود كيان يدرك أنه يفعل ذلك، بنفس الطريقة التي يصف بها تشارلز داروين العملية التطورية، كما لو تعلق الأمر بتصميم رائع بدون أي مصمم. وبالطريقة نفسها التي وصف بها آدم سميث، الاقتصادي السياسي الأسكتلندي المرموق، الكيفية التي يعمل بها السوق بحماسة من أجل إنشاء توازن الأسعار دون أن يدرك أحد أنه هو من يقوم بذلك، عندما يشارك في نشاطات السوق، والأمر مشابه بالنسبة للدولة العميقة، التي تيسر أشغالها كعالم، ينتمي الفاعلون فيه، كل واحد منهم، إلى تنظيم مختلف: بعضهم موظفون مدنيون، البعض الآخر عسكريون، آخرون من رجال الأمن، والبعض الآخر يعملون في شركات كبرى؛ آخرون يشتغلون لصالح مراكز الفكر، منهم من يعمل في مجال الصحافة. كل فرد منهم يعتقد أنه يبذل قصارى جهده في حدود ما تتيحه الظروف والقيود: ولا أحد منهم يشكل جزء من أي مؤامرة، تماما مثلما هو الأمر بالنسبة للمشاركين في السوق، الذين يسهمون هم أيضا من خلال آلية السوق، في عملية توازن التسعير. وبالمثل، فإن كل هؤلاء الفاعلين، يسهمون في ما أطلق عليه اسم التكنوقراطية العامة/ الخاصة، من خلال تشغيلهم العملية، في أنشطة تابعة لما يشبه الدولة العميقة، دون أن يدري أحد منهم أو يدرك فعليا أنه يفعل ذلك حقا، ومع ذلك، فإن هذه الدولة العميقة حقيقة راسخة، بالنسبة لغالبية من الناس، وغالبية الدول.
المبحث الخامس: من غوبلز إلى حملة دونالد ترامب ضد الدولة العميقة
إحدى مشاجراتي الكبرى والعديدة مع دونالد ترامب، ومن على شاكلته أنهم من خلال شنهم باستمرار هجمات ضد الدولة العميقة، يضفون عليها مزيدا من الشرعية. في الواقع، كل نظريات المؤامرة هذه، في اللحظة التي تبدأ بتصوير الدولة العميقة في شكل غرفة مظلمة تختنق من شدة سحابات الدخان المتراكمة، واكتظاظها بأشخاص يتآمرون ضد الخيرين من الناس، تجعل من المستحيل التوصل إلى الحقيقة، والحقيقة هي أننا أمام مؤامرة دون متآمرين. تذكروا جيدا جمهورية فايمار. نتذكر الطبقات الحاكمة، المكلفة بالحفاظ على سير العمل اليومي الاعتيادي عندما كانت الرأسمالية تجتاز مرحلة تخبط كبيرة، كيف أنتجت رواية مناهضة لمنظومة الحكم القائم – رواية مناهضة للدولة العميقة، والتي، استخدمت موجة السخط الذي ولدته الأنظمة الفاشلة بسبب فشلها ومن خلال هجمتها المستبدة ضد غالبية الناس، غير أن رد الفعل العكسي جاء من جهة أخرى، من جناح اليمين المتطرف، من الكارهين للأجانب من القوى السياسية الجديدة، من قوى دولية، بنزعة فاشية وقومية في نفس الوقت. تذكروا موسوليني وهتلر والفاشي البلغاري والفاشي الروماني وفرانكو وغيرهم كثير. لقد استخدموا لغة انتقاد البنوك وانتقاد الدولة العميقة، من أجل فعل ماذا؟ من أجل الاستيلاء على السلطة، وتقديم وعود للأغلبية باسترجاع الكرامة، ووعدوا الأغلبية بتمكينهم من حقهم في الضمان الاجتماعي وتحرير معسكرات الاعتقال والحرب العالمية الثانية.
لم نستخلص الدرس منذ ذلك الحين، والآن نشهد مرة أخرى واحدة من تلك اللحظات الهزلية والسخيفة والمأساوية في التاريخ، عندما نجد أن شخصا مثل دونالد ترامب، هو وحده منْ يوجه خطابا ضد الدولة العميقة، بطريقة تعزز قوته وترقى بها إلى أقصى الحدود، وهو يستخدم في نهاية المطاف، كما تعلمون، الدولة العميقة ضد غالبية الناس الطيبين في الولايات المتحدة وبقية العالم. لقد حان الوقت لنستخلص دروس فترة الحرب.
قبل بضع سنوات، قضيت بعض الوقت، عندما كنت أجمع المواد لإعداد كتابا كنت أهم بنشره، في قراءة خطب جوزيف غوبلز. وجدت هذه الخطب منذ عشرينيات القرن الماضي، وليس من الثلاثينيات أو الأربعينيات، مذهلة، ومقلقة للغاية أيضا بطبيعة الحال. والسبب الذي جعلني اعتبرها مذهلة، أن جميع خطبه، كانت عادة تتراوح بين 8 و10 صفحات كاملة. ومن الصفحة الثانية، إلى الصفحة السادسة، نقرأ فيها ما يمكن اعتباره، انتقادات دقيقة للنظام السائد في العشرينات في ألمانيا. انتقد غوبلز السياسة الاقتصادية، وإساءة معاملة العمال، وتلاعب المصرفيين بأموال الناس، لم تكن انتقاداته تختلف عن جميع أنواع الانتقادات الصادرة عادة عن اليساريين، إلى أن نصل إلى غاية الصفحة 8، عندما يقدم الحل الناجع المنبثق عن نفسيته المضطربة، فيوصي بقتل المجموعات السكنية س، وع، وش. أليس هذا ما يجري اليوم؟
اليمين، العنيد، اليمين الكاره للأجانب على نحو فاضح، قد سرق، أو استعار الكثير من الانتقادات الدقيقة للغاية الموجهة من قبل اليسار إلى الرأسمالية المؤمولة، وإلى نظام العولمة، وللدولة العميقة، بالطريقة نفسها تماماً التي استعملها جوزيف غوبلز في عشرينيات القرن العشرين من أجل جذب الانتباه واستمالة ولاء الأشخاص الطيبين في ويسكونسن، في ميسوري، في شمال إنجلترا، في كلاكتون أون سي، في إيطاليا، في اليونان، في ألمانيا. وكان الغرض من اجتذاب ولائهم، الحصول على السلطة بشكل فعال، للانقضاض عليهم لاحقا، تماما كما فعل النازيون في الثلاثينات.
المبحث السادس: الدولة العميقة في بريطانيا واليونان في ستينات القرن الماضي وفي الوقت الراهن
حسنًا، يمكننا النظر إلى واقعة هارولد ويلسون باعتبار أنه كان مستهدفًا من قبل جهاز المخابرات؛ والنظر إلى الطريقة التي تم من خلالها تقديم المساعدة دون قيود لمشروع السيدة تاتشر في الثمانينيات وأوائل الثمانينيات، وبطريقة تتعدى مجرد الولاء لرئيسة الوزراء من قبل الدولة العميقة، التي كانت تعمل بثبات على تدمير منظمات الطبقة العاملة، والمنظمات المعنية بالعمل الجماعي، ونسيج ما كان يسمى بالاقتصاد المختلط.
أما إذا عدنا إلى زمننا هذا، سنكتشف على سبيل المثال، أن الدولة العميقة في بريطانيا هي التي حثت السلطات السويدية على ضرورة التمسك بطلبها بتسليم جوليان أسانج إلى السويد، رغم أن السويديين أنفسهم لم يرغبوا في ذلك.
هذه كلها أمثلة تبين أن الدولة العميقة تعمل بنشاط في بريطانيا. ليس لدي أدنى شك على الإطلاق، أنه بمجرد الإعلان عن فوز جيريمي كوربين بالانتخابات العامة، وآمل أن يفوز فعلا، سيتعرض لهجمات منسقة، لتقويض قدرته على تسير شؤون الحكومة، من قبل الدولة العميقة البريطانية، وسيشمل ذلك القطاع المالي في المقام الأول، بالإضافة إلى انخراط وسائل الإعلام في هذا الهجوم ضد جيريمي كوربين؛ الأمر ليس جديدا، سبق أن شاركت وسائل الإعلام في هذه الحملة وقامت بعمل مذهل على مدى السنوات القليلة الماضية، منذ أن تولى جيريمي قيادة حزب العمل، وقد برهنت هذه الوسائل الإعلامية على قدرة فائقة في تجاهل أي مدونة أخلاقيات صحفية وازدرائها، ومواصلتها حملة اغتيال معنوية لشخص زعيم حزب العمل الذي لم يخضع لمنظومة الحكم المكرسة في خيارات الدولة العميقة وأولوياتها. والسؤال المطروح هو: هل سيقف شعب بريطانيا، دعما للحكومة التي انتخبها؟ هذا هو السؤال الوحيد الذي يكتسي، على ما أعتقد، اهتماما كبيرا ويظل معلقا.
في حالة الانقلاب العسكري في 1967 في اليونان، كان الأمر عبارة عن مجرد امتداد لعمليات شبه الدولة (باراستيت) – التي كُنا نسميها في اليونان بالدولة العميقة – قبل 20 سنة. دعوني بهذا الخصوص أقدم لكم مثالا واحدا فحسب. في عام 1961، كان غريغوريس لامبراكيس، عضو البرلمان من اليسار، يقوم بحملة ضد الأسلحة النووية في منطقة سلونيك، فتعرض لعملية اغتيال نتيجة مؤامرة حقيقية، أثبتتها المحكمة، وشاركت فيها الدولة العميقة، لم يكن عناصرها الفاعلين موظفين حكوميين، ولم يكونوا من أفراد الشرطة أو الجيش، لكنهم كانوا يعملون تحت إشراف تام لأفراد الجيش وقوات الأمن لتنفيذ عملية القتل. وقد تم أنتاج فيلم عرف شهرة كبيرة، استنادا إلى وقائع الحدث، أخرجه كوستا غافراس، تحت عنوان Z ، وفاز بجائزة الأوسكار في أواخر الستينات.
وهكذا، لم تتوقف الدولة العميقة عن العمل الدؤوب لتقويض الديمقراطية، وعندما حان الوقت لحل الديمقراطية بصفة رسمية، أصبحت شبه الدولة، أو الدولة العميقة هي الدولة الشرعية أو يمكننا على الأقل أن نصفها بالدولة الرسمية. كانت الفترة التي انتقلت خلالها اليونان من دولة ديكتاتورية إلى ديمقراطية برلمانية فاعلة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فترة بالغة الأهمية، حيث كان بالإمكان أن نلاحظ أنه حتى في أعقاب النظام القديم، انهارت الديكتاتورية الفاشية واستبدلت بديمقراطية مفعمة بالنشاط. ومع ذلك، استغرق الأمر سنوات عديدة قبل أن تنكمش الدولة العميقة وتتقلص إلى درجة مكنت الناس من التقاط أنفاسهم والشعور بكرامة أكبر من أجل الحرية، لكن مرة أخرى، في عام 2015، عندما عدت للعمل في وزارة المالية، شهدت الدولة العميقة تعود من جديد إلى السلطة. وقد رأيت الطريقة التي كان يستفيد فيها المطورون، طيلة سنوات بقروض غير مستدامة، من البنوك الألمانية والفرنسية.
وكذلك مالكو وسائل الإعلام الذين كانوا يديرون عمليات إعلامية مفلسة، سواء عبر التلفزيون، أو المحطات الإذاعية أو الصحف، ويستمتعون أيضًا بقروض من نفس البنوك، وبطبيعة الحال، المصرفيون أيضا الذين كانوا يديرون البنوك من خلال مخططات احتيال ممولة من تلك البنوك، وقد تسببوا بالفعل في إفلاس تلك المؤسسات في عام 2010 عندما أصبحت وزيرا للمالية، وواجهت حينذاك ما أسميته مثلث الخطيئة. هذا المثلث المشكل من الأقلية المهيمنة المفلسة التي عزمت أمرها على التأكد من تجريد الشعب اليوناني من حقوقهم، 62٪ منهم كانوا قد رفضوا شروط المقرضين، التي كانت ضرورية لبقاء هذه الأقلية المهيمنة، وفي نهاية المطاف، جُرِدت فعلا هذه النسبة، 62٪ من الشعب اليوناني، من حقوقها، وهزِمت أمام سلطة الدولة العميقة الخاضعة لتلك الأقلية المهيمنة.
المبحث السادس: الدولة العميقة في بريطانيا واليونان في ستينات القرن الماضي وفي الوقت الراهن
لن نستخلص الدروس اللازمة ما لم نتمكن من الجمع بين الطرح الإنساني، واليسار والنسق الليبرالي التقدمي، ونسج علاقات بينهم وإقامة روابط بين الديمقراطيين في مختلف المناطق في العالم، سواء كانوا في أوروبا أو أمريكا اللاتينية أو وأمريكا الشمالية أو جنوب إفريقيا، وحيثما وجدوا، وذلك من أجل إنشاء تكتل دولي تقدمي، لمحاربة هذه الفاشية القومية الدولية، التي يقودها دونالد ترامب بمساعدة ذراعه الأيمن في الوقت الراهن، ماتيو سالفيني في إيطاليا. يجب ألا نكرر نفس الأخطاء التي حدثت في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين والتي أخشها كثيراً.
من المهم لنا جميعًا أن نكون على دراية بالدولة العميقة، لكن، من جانب آخر، من الضروري للغاية تجاهلها، وإنه من العبث على الإطلاق أن نوليها أهمية كبرى، إلى درجة الشعور بالهوس حيالها؛ يجب أن نفهم، بصفتنا مجموعات من المواطنين وشعوب، أنه لا يوجد ما يمكن أن يهزمنا طالما بقينا أوفياء وملتزمين بخياراتنا، وما دمنا ندعم الحكومات التي انتخبناها، وهذا يتحقق إذا واصلنا انتقاد الحكومات التي ننتخبها، على نحو يحصنها من مخططات التشنيع التي تريدنا الدولة العميقة، ووسائل الإعلام، التي تشكل جزء من الدولة العميقة، أن نصدقها.
سبق لجيريمي كوربين أن ساهم بشيء رائع، لقد أثبت بالفعل أنه من الممكن تمامًا تجاهل الدولة العميقة، وتجاهل وسائل الإعلام، ومواصلة تنفيذ برنامج متماسك للغاية، وبرنامج معتدل للغاية، وتحميس الشباب الذين يعرفون جيدًا كيف يتجاهلون وسائل الإعلام المهيمنة.
وقد فعلنا ذلك في اليونان في عام 2015؛ وهو شي يمكن إنجازه. دعونا لا نغرق في عالم الهوس، فلا يجب أن نشغل أنفسنا في البحث عن المؤامرات، بينما لا يوجد هناك مؤامرات أو كما أسلفت، عندما توجد مؤامرات، بدون متآمرين، والأهم من ذلك كله، لا بد من تقييم خياراتنا بشكل عقلاني، خياراتنا الفردية والجماعية، ونلتزم بها ونؤيد الخيارات التي تبنيناها كشعوب، كمجتمع يمتلك القدرة من خلال الحوار لتقرير ما يريد لنفسه.
المصدر المحتوى الأصلي باللغة الإنجليزية: موقع يانيس فاروفاكيس
Très troublant…la source inconnue des revenus capitalistes
الدولة العميقة كتسمية اظنها من انتاج اصحابها لان فيه تزكية ضمنية و اعتراف بدور مجموعات الضغط كبديل للدولة عندما تفشل هذه الاخيرة .التنظيم الموازي للدولة المتغلغل في مفاصلها نتيجة الاستمرار في المنصب لمدة طويلة بافتعال الازمات و العودة فى كل مرة وازاحة الوافد الجديد .تنظيم المجتمعات يخضع حقيقة لمؤامرات مستمرة غير واضحة للعيان لكنها دائما هنا لمنع الخروج عن الامر الواقع و تجدد الاساليب و الاشخاص