عندما نجعل من النعمة نقمة.
عندما نجعل من النعمة نقمة.
#الفساد_والاعتماد_على_الريع_البترولي :
يمكننا الانطلاق في تشخيص الأزمة الحادة التي يعانيها المجتمع الجزائري حاليا من الفساد السياسي، بتسليط الضوء على البعد الاقتصادي باعتباره أحد مكونات انتشار هذه الظاهرة، وسنقوم بذلك من خلال تحليل سريع ومختصر لأسباب فشل النموذج الوطني للتنمية الذي اعتمدته النخبة الحاكمة بعد فترة وجيزة من الاستقلال واستمر خلال عشرية من الزمن (1967-1979).
لقد استند هذا النموذج إلى مجموعة من الأفكار والإجراءات، مثل التأمينات وبناء قطاع مداخيل البترول، كل ذلك يهدف إلى تشييد قاعدة اقتصادية متحررة تمتلك دينامكيتها الداخلية بعيدا عن التأثيرات والضغوط السلبية للاقتصاد العالمي بنموذجه الرأسمالي المهيمن، لكن بوادر فشل هذا النموذج بدأت تلوح في الأفق عندما عجزت هذه التجربة عن إطلاق دينامية اجتماعية وثقافية تسمح باستيعاب الخبرات والمهارات المرتبطة بنقل التكنولوجيا الحديثة وتحقيق تراكم معرفي ومهاري يحافظ على التجهيزات.
ولكن هذا المشروع لم ينجح واتسم بضعف الأداء والمردودية الاقتصادية، وكانت إحدى نتائج ذلك الفشل، والعجز المادي المستمر الذي تعانيه الوحدات الإنتاجية، إضافة إلى تعميق عملية التشوه والتبعية التي تعرضت لها البنية الاقتصادية بسبب الاعتماد شبه المطلق على مداخيل النفط والتي تمثل 98 بالمائة من قيمة الصادرات، وفي المقابل تزايد مستوى الإنفاق العام، نظرا إلى نمط الحياة الاستهلاكي غير الرشيد، إضافة إلى التأثيرات السلبية التي أحدثتها عملية الهيكلة والخوصصة التي زعزعت استقرار القاعدة الاقتصادية بأكملها .
لهذا فان خصوصيات الاقتصاد الجزائري اعتماده بنسبة كبيرة على الدخل الريعي، الذي يعتمد على الإيرادات النفطية والفوائض المالية في مؤسسات القطاع العام والريع المستمد من تشوهات السياسات الاقتصادية كاحتكارات الدولة، ومن خصائص هذه الإيرادات الريعية أنها تؤول لخزينة الدولة مباشرة دون أن تمر بقنوات قد تعرضها للمحاسبة والمساءلة، وعدم وجود الشفافية في التسيير سمح ذلك بأن تصبح العوائد الريعية مصدرا حاسما لتعزيز قوة النظام الجزائري وتمكينه من تخصيص الموارد الضخمة لحماية نفسه وإدامة حكمه، فليس من الغريب إذن أن يكون مستوى الإنفاق العسكري والأمني مرتفعا نسبيا مقارنة بدول أخرى لها نفس الوضع الاقتصادي والاجتماعي الجزائري، وهذا ما يولد أوضاع سياسة تتميز بضعف الإطار المؤسساتي وغياب المساءلة وانتشار الفساد ما يدفع بمزيد من القمع والتضييق على الحريات الشخصية، وهناك عدد من الدراسات التي بينت العلاقة الإيجابية بين الإنفاق العسكري والفساد وكذلك العلاقة بين الإيرادات الريعية وسوء الحكم .
والسبب في ذلك أن أجهزة الدولة في سعيها لحماية النظام تلجأ إلى أساليب مختلفة من الترهيب والترغيب، ويصبح شغلها الشاغل هو استخراج العوائد الريعية واستخدامها في تقوية شوكة النظام، وإضعاف خصومه باستخدام وسائل الدولة، من خلال التهديد وربما العنف من ناحية، ومن خلال الإغراءات التي قد تتخذ أشكالا متعددة مثل عرض المناصب الحكومية أو إعفاءات ضريبية أو إرساء العطاءات من ناحية أخرى .
وعلى الرغم من ذيوع المقالات والدراسات الأكاديمية والسياسية المحذرة من التداعيات الخطيرة للإعتماد الكلي على مصدر وحيد للدخل، لازالت الجزائر تعتمد على المداخيل النفطية ولم تستطيع لحد الآن تنويع مصادرها، وهو ما جعلها عرضة للكثير من الإهتزازات الخطيرة، كان أشدها وأعنفها منتصف الثمانينات، حيث انخفضت أسعار النفط في السوق العالمي وما تبع ذلك من إنعكاسات سلبية على كل المستويات.
حيث تقلصت نسب ومعدلات الإنفاق العام للدولة، وهو ما أدى بدوره إلى تدني القدرة الشرائية وبالتالي تدني مستويات المعيشة، وكل هذا أدى إلى تذمر في الأوساط الشعبية، ومن جهة أخرى إلى إنحرافات على مستوى السلوك الإداري داخل المنظمات الإدارية العمومية، سواء من طرف الإداريين أنفسهم، أو من طرف العمال في مختلف القطاعات والمستويات، حيث ظهر هذا الإنحراف في صور وأشكال عدة أهمها:
1. إنعدام روح المسؤولية والحس القومي إتجاه الملكية الوطنية والذي ظهر في شكل سوء استخدام المال والملكية العامة وسوء استخدام السلطة والمسؤولية، وما نتج عن ذلك من استهانة وتفريط في الملكية العامة بسبب اللامبالاة.
2. تخريب وإتلاف المعدات بقصد أو بغير قصد نتيجة الوضع الإجتماعي المتدهور لغالبية العمال والموظفين.
3. التغيب المقصود عن العمل بحثا عن فرص ربح ودخل سريع يؤمن الحاجيات الغذائية اليومية.
4.إنخفاض مردودية العمل لدى العمال والموظفين، وهو ما أثر في عرقلة أداء المرافق العامة بسبب رداءة العمل والخدمة المقدمة للمواطن، مما جعل هذا الأخير يعيش بين فكين حادين، فمن جهة معاناة على مستوى الجبهة الإجتماعية بسبب تدني المستوى المعيشي، ومن جهة أخرى بيروقراطية حادة وقاسية سمتها رداءة في العمل الإداري وتعقيد الإجراءات الإدارية.
5. تفشي بعض السلوكيات الفاسدة داخل الإدارات، كالتسيب الوظيفي، والغيابات المتكررة عن العمل ومخالفة القوانين النظامية واللوائح.
كما أن البحبوحة المالية التي عاشتها الجزائر جراء ارتفاع أسعار النفط في منتصف الثمانينات وبداية الألفية، كانت غطاء لبعض مظاهر الفساد التي كانت عن قصد أو غير قصد، من خلال مشاريع تنموية دون مراقبة ومتابعة وتضخيم الفواتير لمشاريع ليس لها أي فائدة اقتصادية أو اجتماعية، وهذا نتيجة لغياب سياسات عامة تنموية واضحة، وهو ما أنهك خزينة الدولة بسبب سوء التسيير وسوء التقدير.
ويشكل ظهور الفساد أحد أكثر الهموم المرافقة للتحول الاقتصادي، والذي يمكنه تدمير الإصلاحات الواعدة من خلال تقليص شرعيتها، فالنظام الضريبي الفاسد الذي يحابي بعض الجماعات والأفراد يمكنه تدمير الجهود المبذولة لوضع البلاد على أسس اقتصادية ومالية صحيحة، ويزدهر الفساد خصوصا عندما تركز الدولة على مداخيل المحروقات، ما يجعلها تتدخل في جميع الأنشطة الاقتصادية والحكومية بحيث يفتح الباب للموظفين الكبار من استقبال رشاوٍ من مختلف الأفراد لتجنب وتفادي القواعد والنظم والإجراءات العامة، والأسلوب الاقتصادي الذي يعتمد على إعانات الدولة سيؤدي إلى محاولة شراء ذمم المواطنين وفتح المجال للموظفين الحكوميين للتلاعب بهذه الأموال، وذلك اعتبارا لمقولة: “كلما زاد حجم الإعانات زاد مؤشر الفساد في المجتمع” .
وبالاعتماد على الاقتصاد الريعي ، جعل من الدولة أداة وظيفتها توزيع المنافع على أفراد المجتمع، وعليه تحدد دورها إلى الضغط لمنع أية قدرة إنتاجية مستقلة للبلاد، ومن ثمّ انتشرت الرشوة والنهب، حيث أن احتكار السلطة في ظل انعدام الشفافية في أثناء إبرام الصفقات، يجعل من القنوات غير المشروعة ذات أهمية، وتسود اغلب المجالات السياسية، ومن ثم ساهم الريع النفطي في خلق عقلية ريعية لدى النخبة الحاكمة، وصارت نظرة خاصة للعائد بدون أي جهد، فسادة قيم النهب والاحتيال وهكذا، يأخذ الفساد السياسي شكل البحث عن الريع (RENT-SEEKING)، ساعده في ذلك النظام السياسي الأحادي والأوضاع السياسية غير المستقرة، والفوضى الاقتصادية .
كما أن الطابع الريعي يتلازم مع الانكشاف الخارجي، فالدولة الريعية لا تنتج ما يكفي حاجاتها الأساسية، وتستورد من الخارج ما يلزمها وهذا يؤدي إلى تبعية واضحة اتجاه الخارج، أي الانكشاف اتجاه الخارج، وبالتالي التهديد بالأمن الغذائي، ورغم أن الجزائر بلد زراعي، لكن إهمال القطاع الزراعي لمصلحة قطاع المحروقات، ساهم في إضعاف المناعة في توفير المواد الغذائية الأساسية، كما أن الانكشاف الخارجي في الاقتصاد يترجم أيضا في الانكشاف السياسي وبالتالي تقويض إرادة النظام الحاكم، وكل ذلك تسبب في زعزعت الاستقرار السياسي وعرقلة التنمية الاقتصادية، ومنع الحالة الديمقراطية من النشوء والتطور وتكريس دولة اللاقانون، مع توسيع منظومة الفساد، وبالتالي تصبح مهام الحكومة محصورة في توزيع المزايا والمنافع على المواطنين، مع منح الأفضلية لتلك الفئة الموالية للسلطة، ومنه نستنتج أن العلاقة الايجابية بين الدولة الريعية والفساد أمر محسوم فيه.
فكان من الطبيعي أن يكون لانتشار هذا السلوك المدمر آثار على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزائر، حيث يؤثر الفساد على أداء القطاعات الاقتصادية ويخلق أبعادا اجتماعية لا يستهان بها، وتؤكد الأبحاث المتعلقة بالحركية الاقتصادية أن الفساد يضعف النمو الاقتصادي ويؤثر على اِستقرار مناخ الاستثمار ويضاعف من تكلفة المشاريع ويضعف الأثر الايجابي لحوافز الاستثمار، عندما تطلب الرشاوي من أصحاب المشاريع لتسهيل قبول مشاريعهم، وبذلك يعتبر الفساد ضريبة إضافية سلبية تعيق الاستثمار .
كما يؤدي الفساد إلى إضعاف البنية الأساسية والخدمات العامة، ما يسهل عمليات الربح غير المشروع عن طريق الرشاوي بدلا من المشاركة في الأنشطة الإنتاجية وهذا يحد من قدرة الدولة على زيادة الإيرادات خارج المحروقات، لأن التبعية التي تعرضت لها البنية الاقتصادية بسبب الاعتماد شبه المطلق على مداخيل الريع النفطي ستؤثر على الأمن الاقتصادي ككل، وأكد الخبير العالمي “جون لوي ريفرز” في المنتدى الذي نظمه المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي تحت عنوان “الاقتصاد القائم على المعرفة” في (10-09-2007)، أن الفائض المالي البترولي الذي كرس اقتصادا ريعيا في الجزائر قد يكون سببا في إبقاء الوضع الاقتصادي على حاله، فالأمر مرتبط بمصالح ذوي النفوذ في السلطة الرافضين لأي تغيير قد يفقدهم الامتيازات ويخشون تبني اقتصاد قائم على أسس مغايرة لما هي عليه الان، وكل ذلك مرتبط بغياب الإرادة السياسية لدى الحكومة التي ليس لها نية في التغيير والإصلاح ، لهذا يرى” يافز منيي” أن الفساد السياسي ناجم عن مبادلة سرية بين” سوقين” السوق السياسي والإداري من جهة، والسوق الاقتصادي والاجتماعي من جهة اخرى، وهي مبادلة خفية، لأنها تنتهك المعايير العامة، القانونية والأخلاقية، ويتم خلالها التضحية بالمصلحة العامة لخدمة المصالح الشخصية أو الحزبية والحصول على الموارد العامة عن طريق الصفقات وعقود التمويل المشبوهة، وبهذا الشكل لا يمكن تحقيق نمو اقتصادي حقيقي، لأن المجتمعات واقتصاد الدول لا يمكن لها أن تزدهر إلا بوجود حوافز واضحة للإنتاج ولجني المكاسب، لأنه بالانتقال من العامل المشجع على الازدهار إلى حافز النهب والسلب سوف ينهار الاقتصاد وتسقط المجتمعات إلى الحضيض، أي أن شرط قيام سوق مزدهر هو غياب الفساد.
فالقادة المستبدون يؤسسون أنظمة تمكنهم من مواجهة كل منافس لهم، وبالتالي تأمين عملية النهب ويصبح الحاكم هو المحتكر للسوق من أجل تعظيم أرباحه وتعزيز نفوذه، ولكن بتقييد مردود الاقتصاد، لهذا يستمرون في دعم السياسات التي تحقق لهم الأرباح وتوطد الحكم على حساب المجتمع والوطن ، فهدفهم هو رفع ثروتهم الشخصية إلى أقصى حد، ولكن عادة ما تكون الوسائل المتاحة غير مكتملة، فهم يسيطرون على الدولة ولكن ليس على مجمل الاقتصاد، وقد يمتلكون خدمات مدنية ضعيفة وإطار قانونيا غامضا ومشوشا .
لهذا فان الفساد البنيوي يتعدى مفعوله السلبي القطاع الاجتماعي _ الاقتصادي، والمتمثل في المحاباة ودفع الرشاوي. فهو يرفع كلفة السلع والخدمات، ويزيد من قيمة الدين العام ويكرس من التبعية للخارج، ويضاعف من أعباء المشاريع غير المنتجة أو غير ضرورية، لانه يؤول الى اختيار مشاريع ضخمة ولكن هدفها تغليب عائدات السمسرة والرشاوي التي تزيد من كلفتها بغض النظر عن جدواها الفعلية، خدمة للمصالح الشخصية على حساب المنفعة العامة.
رضوان منصوري
التعليقات مغلقة.