الكاكيستوقراطية

92

الكاكيستوقراطية

عندما اطلعتُ على هذا المصطلح أول مرة، اعتقدتُ أنه يحيل إلى حكم العسكر، بإشارته إلى اللون الكاكي للبدلة العسكرية، لكن استقصاء للموضوع علمتُ أن المعنى الحقيقي للمصطلح (الإغريقي) يتكون من كلمتين، كاكيستو (الأسوأ) وكراسي (الحكم)، أي حكم الأسوأ، أي الذي يُثمِن الرداءة ويعيّن أصحابها الفاشلين في المناصب. وتساءلت ما سر انتقاء الفاشلين وتعيينهم في مناصب المسؤولية.
ولا شك أن الكثير منا تساءل كيف تمكن بعض الفاشلين، من عديمي الكفاءة، من تسلق سلم الوظائف والوصول إلى مناصب لا تؤهلهم قدراتهم الذاتية على توليها، خاصة وأن تبوؤهم مثل تلك المناصب أمر خطير ويعرض المؤسسة او النظام أو الشركة التي يعملون بها للخطر. وكان الباحث الإيطالي ديغو غانبيطاDiego Gambetta أجرى تحليلا فسر فيه هذه الظاهرة، وضرب مثلا عن ذلك، تنظيم عمل المافيا ثم طبقها أيضا على طريقة الترقية في الجامعات، وعنون دراسته “قيمة عدم الكفاءة، من المافيا إجمالا إلى المافيا الجامعية، مقاربة منهجية” يقول فيها:
1- أن مكافأة شخصا رديء، أو تخويله قدرا من السلطة، ينشئ لديه الشعور بالدين والولاء.
بالفعل، عندما يكافأ شخصٌ مقتدر صاحب موهبة وكفاءة أو توّسيع نطاق صلاحياته أو منحه علاوة في الأجر، يعتبر ذلك أمرا طبيعيا يتفق مع جهده وكفاءته، ولا يدين به إلا لنفسه وليس لغيره، ولا يترتب عنه ولاء لأي كان، في حين عندما نكافئ شخصا فاشلا، نجعله يشعر بالدين والامتنان لمن كافأه، بما يضمن ولاءه الأعمى في كل الحالات. وهذا بالذات ما نجده في الأنظمة غير الشرعية عموما والعسكرتية على وجه التحديد، في تعيينها للمسؤولين، على كافة الأصعدة، بناء على مدى ولائهم التام لها وليس كفاءتهم واختيار الشعب لهم.
2- أن تعيين شخص غير كفء يضمن الحصانة لمن عينه، لأنه لن يخشى عن منصبه من شخص فاقد للكفاءة والإرادة والجرأة
3- ضمان تعيين الأتباع في مراكز السلطة. في هذه الحالة يقوم الانتقاء على معيار التبعية، من ضعفاء الشخصية الطيعين، ممن يضمن أصواتهم ولا يهددون القرارات المصيرية، ويكون ذلك على حساب الكفاءات والنزاهة والضمير. ويبيّن هذا التحليل الذي أدراه غانبيطا مع مساعده، أن النظام لذي يُرّقي الرداءة وغياب الكفاءة، يسعى إلى البرهنة للآخرين، أنه يستحيل القيام بأي شيء خارج ماكينة النظام نفسه.
قلت أعلاه، أنني اعتقدتُ (خاطئا) أن لمصطلح يحيل إلى حكم العسكر بإحالته إلى لون الكاكي، لكن في الواقع، حتى بعد اطلاعي ومعرفتي أن المصطلح كان يشير إلى شيء مخالف، أقول رغم ذلك، انتهيت إلى خلاصة مفادها أن المصطلح يحيل إلى المقاربتين، إن لم يكونا متلازمين، لأن الحكم العسكرتي يستند هو الأخر وبالأساس على الطاعة العمياء والولاء، حتى عندما تتناقض مع المصلحة العليا للوطن والشعب، طالما يسمح له ذلك بالهيمنة على شؤون البلاد، ومن ثم يفضل التعامل مع من يخضع له ويدين له، من خلال التعيين، بدلا من التعامل مع أحرار ذوي كفاءات وإرادات، ويعلمون أن وكفاءتهم وجدارتهم هي التي تمكنهم من تلك المناصب ولا يدينون بها لغيرهم، مما يحرر كلمتهم وإرادتهم لقول رأيهم والاعتراض على كل فساد او فشل، أي النقيض تماما لما تسعى إليه الأنظمة العسكرتية ولا تستطع التعايش معه، أي بما يتفق تماما مع تعريف الكاكيستوقراطية.
لا شك أن العديد من قارئي هذا المنشور، يستحضرون مثالا على الأقل ونموذجا عما نتحدث.

رشيد زياني شريف

التعليقات مغلقة.