المؤامرة

164

كتب احد الافاضل عن موضوع عادة ما يختلف الناس بشأنه فقل:


1. إذا عرفنا المؤامرة ( complot) بأنها “ترتيب سري بين زمرة من الأقوياء والنافذين لاغتصاب سلطة اقتصادية أو سياسية ما”، فليس هناك عاقل يدعي أنه لا توجد مؤامرات، فالكيد والمكر والعنف من تدافع البشر، وهناك أدلة كافية عبر التاريخ أن البشر يدبرون ضد بعضهم البعض في كل الميادين، في الحياة الخاصة وفي المسائل العمومية، خاصة فيما يتعلق بالمال والنفوذ والسلطة والحرب.

2. هل هذا يعني أن كل ادعاء أو افتراض أو تخمين أو تفسير بأن هناك مؤامرة هو ادعاء صحيح؟ طبعا لا. هناك ادعاءات بالمؤامرة تبين أنها صحيحة : مثلا قضية واترغيت Watergate الشهيرة في الولايات المتحدة، أو قضية اختراق الجماعات المسلحة في التسعينيات أو قضية الكوكايين مؤخرًا في الجزائر. ولكن فيه ادعاءات بالمؤامرة غير صحيحة، منها نظريات تنسب مشاكلنا التاريخية أو السياسية للماسونية العالمية، أو النظرية أن الحراك صنيعة الجنرال توفيق ومتنفذين قبايل في اسلاك الدولة وعالم المال والاعلام ينّسقون مع باريس من خلال خلية من الفرنكوبربريست، أو نظريات تدّعي أنّ الأرض مسطحة، أو أن الاحتباس الحراري مفبرك، وهذا بكتمان العلماء الحقيقة بالتواطؤ مع القوى التجارية. هناك أيضا صناعة من هكذا ادعاءات تآمرية في المجال الطبي منها، مثلا، أن دواء السرطان موجود ولكن العلماء الذين اكتشفوه قتلوا أو تواطؤا مع الصناعة الصيدلانية للربح، أو مثلا أنّ اللقاح هدفه النهائي والخفي هو قتل أو تعقيم بعض الشعوب، أو زرع امراض ما فيهم، أو لتخريب مجموعهم المورثي، أو حتى زرع نانوشيبس فيهم للتحكم فيهم. هناك صفحات ترصد الادعاءات التآمرية من الطريفة الى المروعة لمن يريد التوسع في الموضوع.

3. إذا سلمنا بوجود مؤامرات حقيقية، من جهة، وبوجود مزاعم كاذبة عن مؤامرات، من جهة أخرى، فالسوائل هو كيف نميز بين الصنفين، كيف نميز الحقيقة عن الباطل؟

4. الادعاء بالمؤامرة يرتقي الى مؤامرة حقيقية لما تبرز أدلة قطعية أو موثوقة تثبت حيثيات الادعاء. وعادة ما يتم الكشف عن المؤامرات الحقيقية من قبل الصحفيين الاستقصائيين، أو المخبرين أو المبلغين عن أعمال غير قانونية أو أخلاقية، أو بتسريب وثائق أو مكالمات أو ضياعها أحيانا، أو بعمليات تجسس، أو بقرصنة أجهزة كمبيوتر، أو عبر أرشيف أو محفوظات رفعت عنها السرية الخ.

5. أما إذا لم تبرز أدلة قطعية أو موثوقة تؤكد الادعاء بالمؤامرة فيبقى الامر مجرد افتراض أو تخمين أو نظرية.

6. إذا أخذنا كلمة نظرية بمعناها العادي، فالفرق بين “المؤامرة” و”نظرية المؤامرة” هو أن الأولى واقعة مؤكدة والثانية أطروحة لم يتم تثبيتها أو تفنيدها بعد. أما في الاعلام والعلوم الانسانية فمصطلح “نظرية المؤامرة”‏ (théorie du complot) هو تعبير انتقاصي يشير إلى تبني فرضية المؤامرة على أساس غير مبرر وغير عقلاني. لماذا؟

7. هذا الانتقاص يرجع الى وجود قصور نمطية عديدة في طريقة تفكير هواة نظريات المؤامرة. سأسرد البعض منها:

أ‌. لا يوفّرون أدلة أو حجّج منطقية تدعم وجود المخططات (أو القوى الشريرة التي يدعون أنها تحك الدسائس في الخفاء)، فبالنسبة لهم وجودها محض يقين لا يستلزم الإثبات؛

ب‌. التفكير التآمري (complotisme) هو تفكير محصّن ضد الاستدلال. لما تٌطلب منهم الأدلة غالبا ما يردّون أنه من المستحيل الحصول على مثل هذه الأدلة نظرًا لسرية القوة المتآمرة، أو أن البيّنة على من رفض الادعاء. فمعظم نظريات المؤامرة لها الشكل المنطقي التالي: الافتراض “أ” صحيح، يستحيل إثبات حقيقة “أ” بسبب افتراض “ب”، فبالتالي الافتراض “أ” صحيح. هذا منطق مغلق على نفسه، وادعاءه غير قابل للبرهنة أو للإثبات تجريبيًا.

ت‌. هواة نظريات المؤامرة يظهرون اختلال أو تفاوت بين تشكيك شديد في كل ما يعارض اعتقاداتهم خاصة ما يأتي من جهات رسمية، من جهة، وبين سذاجة أو تهور في قبول كل ما يعزز اعتقاداتهم خاصة ما يأتي من الشبكة العنكبوتية، من جهة أخرى؛

ث‌. التفكير التآمري غالبا ما يعج بالتناقضات، منها أن هواته يشعرون أنهم ضحايا القوة المتآمرة، من جهة، وأبطال النظرية بمقتضى امتلاكهم الحقيقة، من جهة أخرى.

8. لما يقوم انسان بتقييم فرضية ما بطريقة موضوعية، غالبا ما يكون على مسافة متساوية من تأكيد الفرضية أو من نفيها، وحتى لو انحاز لهذا أو ذاك فيقوم بتحديث معتقده لما تصله أدلة جديدة. أما هواة نظريات المؤامرة فلا يراجعون تحيزهم في اطروحاتهم وذلك لأسباب نفيسة. هناك مجال من الدراسات الحديثة لنظريات المؤامرة يسلط الأضواء على ما يمكن أن تعلّمنا هذه النظريات عن نفسية الأشخاص الذين يختلقونها والأفراد الذين يصدقونها. هواة هذه النظريات يتقاسمون بعض الانماط النفسية.

9. هناك مجال أخر من الدراسات الحديثة لنظريات المؤامرة لا يركز على محتواها من الزيف أو الحقيقة بقدر ما يبحث في الظروف السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمعات التي تتفشى فيها، وفي إشكاليات السلطة وتوظيفها فيها.

10. فيه أيضا انشغال فلسفي بالموضوع، من باب نظريات المعرفة، أي كيف يمكن التمييز بين المعتقد الصحيح والمبرر، من جهة، والمعتقد الزائف، من جهة أخرى، وكذا من باب المنطق الذي يفحص البنيات المنطقية في الادعاءات التآمرية.

أرى أن هذا الموضوع مهم لكل انسان يمتهن الصحافة أو القضاء أو المسؤولية السياسية، خاصة بتفشي هذه الظاهرة من خلال الانترنت، حتى يكتسب أدوات معرفية ونقدية متينة، ولا يهيم في كل واد، ولا يصبح بدون قصد أداة في أيادي مرجفين أو متآمرين حقيقيين.

للأسف أهم المراجع والدراسات في الموضوع باللغة الانجليزية. Wikipedia فيها بعض المعلومات المفيدة لمن لا يريد التعمق في الموضوع.

التعليقات مغلقة.