من ديسمبر الانتحار إلى نوفمبر الإنكار والاحتقار
الجزائر الجديدة 186
من ديسمبر الانتحار إلى نوفمبر الإنكار والاحتقار
تظهر كل المؤشرات أن السلطة تسير عكس التيار، وهي لم تفهم ولا تمتلك أدوات فهم حركية المجتمع منذ 22 فيفري 2019، بل الأخطر من كل ذلك أنها لا زالت تعتقد أنها بالإمكان أن توقف سيل الحراك الجارف دون أن تضع البلد في مخاطر جمة لا يمكن تصور وحصر أثارها الكارثية على حاضر وغد الجزائر. بل إنها ترى في بعض المسكنات وممارسات القمع والعنف الذي سيرت بهما البلد منذ عشريات من الزمن يمكن أن تكون حلا لازمة بنيوية معقدة لا يمكن أن تخرج منها إلا بمسار تأسيسي يبني الدولة بعد إطلاق الحريات التي تجعل المجتمع يسعى لإنتاج النخب التي تبني المعنى عوض القطيع السياسي وحملة الشهادات الذين يتنافسون على التصفيق والتهليل لكل شيء طمعا في المناصب والمغانم والغنائم.
اقتراع دون ناخبين.. ملأ الفراغ بالفراغ!
هذا المسار الانتحاري الذي بدأ في 12 ديسمبر من السنة الماضية بفرض اقتراع لم يسبق للبشرية أن عرفت مثله، من حيث أنه اقتراع تم دون ناخبين، اقتراع كان فيه المرشحون يهربون من الناخبين ويحتمون بقوات مكافحة الشغب من أجل تصوير مقاطع من ثواني معدودة تعرض على شاشات التلفزيون لصناعة واقع غير موجود، وهو اقتراع كذلك اتفق كل المرشحين فيه على مقاطعة سكان بعض ولايات الجمهورية دون غيرها، وهو أمر خطير من كل النواحي السياسية والأخلاقية والرمزية.
اقتراع 12 ديسمبر، تم فيه فرض شخص في الرئاسة، كانت حناجر الملايين قد أسقطت وجوده قبل تنصيبه، وقد تحول إلى رئيس الأمر الواقع فرضته سلطة فعلية، والنتيجة تبرز اليوم للعيان بعدما يقارب السنة، فنحن أمام رئيس ضعيف لا يمكنه حتى تسيير الأزمة الداخلية لمنظومة الحكم بتناقضاتها وصراعات عصبها وشبكاتها.
هذا المسار الانتحاري الذي فرض بالقوة وبدعاية متخلفة، بدأت بنشر الكراهية والجهوية والعنصرية منذ جوان 2019، من أجهزة حزبية مفبركة ومن أجهزة إعلامية تقتات من المال العام ومن المال الفاسد،.
كانت كل هذه الأجهزة تخوف الناس بالفراغ الدستوري وما لم تقله أن الفراغ لا يمكن تغطيته بفراغ آخر، هذه الدعاية التي نشرت حتى الأخبار الكاذبة، سارت بشعارات “الجزائر تنتخب”، ثم “الجزائر تنتصر”، والان تحضر لحملة عنوانها التصويت على “دستور التغيير”، وهي كلها شعارات تضليلية تنطلق من ايديولوجية أمنية تعادي أي تغيير، ايديولوجية عنوانها أن الجريمة ليست جريمة، بل الحديث عنها هو الجريمة.
الدعاية التي استخدمت لفرض مرور انتحاري بالقوة في 12 ديسمبر من السنة الماضية كانت تخوف الناس ببعبع جديد سمي المجلس التأسيسي، رغم أن المجلس التأسيسي هو هيئة يتم انتخابها في اقتراع عام، وكان يقال للناس إن هذا المسار سيجعل هؤلاء يتلاعبون بعناصر الهوية والإسلام وأن هؤلاء توجهاتهم غربية، بمقابل هذا هللت الدعاية لتعيين هيئة من خبراء القانون غالبيتها كانت وراء تحرير دساتير زروال وبوتفليقة، رغم أن الشعب لم يكن له أي دور في تعيين هؤلاء، وهو مسار يبين احتقار الإرادة الشعبية التي تنتخب ممثليها لصياغة دستور، وتصفق بسلطة تعين وتحول الدستور من قضية سياسية تشكل عقدا سياسيا واجتماعيا إلى مسألة تقنية وإجرائية توكل إلى حملة الشهادات الذين يتمتعون برضا السلطان.
هذا المسار الذي يشبه كثيرا ما تم في عهد اليمين زروال الذي كلف ذات الخبراء لصياغة دستور قيل للرأي العام آنذاك أنه بداية لبناء الصرح المؤسساتي، والنتيجة أن الاستفتاء حول الدستور تحول إلى موعد لإطلاق الاحتفالات والدعاية التي تبعتها تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي مع عبد القادر بن صالح والطاهر بن بعيبش وأحمد أويحيى وغيرهم، لتتبعها انتخابات تشريعية ومحلية عرفت تزويرا فاضحا ذكرت الجزائريين والجزائريات من جيل الثورة بالانتخابات المزورة التي كان ينظمها الحاكم الفرنسي نايجلان، لكن كل هذا لم يحل الأزمة، بل إن السلطة كانت عاجزة حتى عن حل أزمتها الداخلية، وكانت النتيجة استقالة اليمين زروال ومساهمته في فرض اقتراع أفريل 99 الذي فرض عبد العزيز بوتفليقة في المرادية الذي لم يغادر القصر إلا بعد ثورة الشعب.
التحريف من نوفمبر التحرير إلى نوفمبر الانكار والاحتقار..
بالرغم من كل ما جرى ويجري، فإن احتقار الجزائريين والجزائريات مستمر إلى اليوم، من عهد زروال إلى عهد بوتفليقة إلى اليوم، ويتم اليوم تحويل موعد تمرير الدستور وفرضه باختيار تاريخ أول نوفمبر الذي جمع غالبية الجزائريين والجزائريات، غير أن السلطة تستخدمه اليوم لنفريقهم، خاصة وأن النقاش المصطنع حول الهوية هو الغالب في عملية تضليلية متجددة هدفها تفادي أي نقاش فعلي حول بناء الدولة والتغيير الذي لا يمكن أن يتم في ظل قمع الحريات الأساسية الواردة في كل المواثيق الدولية التي صادقت عليها الجزائر..
مسار ديسمبر الانتحاري الذي ملأ الفراغ بالفراغ، يتبعه مسار تحريفي، يريد أن يحول أول نوفمبر من رمز التحرير إلى نوفمبر الإنكار والاحتقار، وهو عمل ما كان للاستعمار أن ينجح فيه حتى ولو جند فيالق من المؤرخين والمضللين، هذا المسار الذي سيزيد في تعقيد الأزمة، وفي صراعات عصب وشبكات السلطة، لكنه سيعرض الجزائر كاطار قانوني وككيان سياسي إلى مخاطر جمة، مخاطر لا يمكن تصور أثارها الكارثية في عالم متحول لا يمكن أن تبقى فيه الأنظمة والدول التي تحول أهم وثيقة في تأسيس الدول إلى عبث وإلى بهرجة واحتفال يحضره كل الانتهازيين من المتلونين ومن وجوه القطيع السياسي الذين وضعوا البلد في هشاشة غير مسبوقة، فهل يفكر ما تبقى من العقلاء داخل النظام من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان ام أن الانتحار والإنكار والاحتقار وهي ثوابت وطنية لا رجعة فيها ومواد صماء لا يمكن تغييرها ولا تعديلها…
رضوان بوجمعة
الجزائر في 25 سبتمبر 2020
التعليقات مغلقة.