المشكلة ليست في “لا” بل في من ينظم العملية برمتها
المشكلة ليست في “لا” بل في من ينظم العملية برمتها
بعد قراءة بعض ردود إخواننا الذين صوّتوا ودعوا للتصويت بلا في التعديل الدستوري الأخير، واطلعت على تعليقاتهم وقراءتهم، في اعقاب ما أفرزته نتائج ذلك الاستفتاء، وجدت أن بعضهم ذهب إلى حد اتهام المقاطعين وتحميلهم المسؤولية عن “مرور” الدستور، وكأنهم كانوا يعتقدون حقا واقتناعا أن النظام كان سيقر بالهزيمة في حالة صوّت الشعب بلا، وأنه كان سيعلن بصدق ونزاهة عن النتائج كما هي دون تدخل منه، هذه المرة. أما لماذا يثقون فيه هذه المرة، وما الذي تغير؟ فلست أدري!
ردا على ذلك، ارتأيت ان اناقش المسألة بموضوعية، بعيدا عن أي تشنج أو تجريم، بل اقتصر على استنطاق الوقائع بدلا من الانتصار لنفس، وللرأي، لأن المجال أبعد ما يكون عن الذاتية وعن منطق “معزة ولو طارت”. قلتها وأعيدها المشكلة ليست في التصويت بلا، ولا حتى بنعم، مهما اختلفنا مع هذا لذرح او ذاك، لأن الأمر يظل (أو يفترض) اجتهاد صاحبه، وهو حر فيه ومحترم، لكن، المشكلة تفوق عملية التصويت برمتها، أو على الأقل هذا ما أعتقده، والله من وراء القصد وهي يهدي السبيل.
فمثلما أدليت برأيي قبل التصويت وقدمت قراءتي المتواضعة للوضع ولماذا اعتقدت أن لا طائلة من التصويت أصلا، لا بنعم ولا بلا، واسندت ذلك بما اعتبرته معطيات وحقائق تثبتها الوقائع والتجارب المتراكمة التي لا يمكن لعاقل وشخص نزيه نفيها، وبينت أن المحاولة بل وحتى المجازفة في المشاركة والتصويت قد تكون مقبولة في المرة الأولى، أو حتى الثانية، لكن، لا يمكن تبريرها بعد ممارسة عقدين من الزمن، نفس السبيل بنفس النتائج في إطار النظام نفسه وبنفس آلياتهم، المتفننة في مجال التزوير، ثم، كيف يمكن تحقيق نتائج مختلف، من خلال نفس العملية بأدواتها وعناصرها وكيماويتها؟ وهل بقي من جدوى تبرير المشاركة، من باب “التحلي بالإيجابية” وعدم استباق الأوضاع (أليست من مهام السياسي الاستشراف وقراءة المستقبل بناء على ممارسات الماضي وعناصر الحاضر؟؟؟)، أو ليقول المرء للمرة الألف، حاولنا، والمحاولة خير من المقاطعة؟ هل يصح ويعقل بعد ذلك، البكاء على الأطلال بعد أن يقع الفأس على الرأس، ونتهم المزور المتمرس، بأنه …زوّر النتائج، وهل انتظار غير ذلك معقول ومقبول؟؟؟
أقول، بعد الكشف عن النتائج المعلنة، برزت أصوات تحّمل المقاطعين المسؤولية، بحجة أنهم لو شاركوا وصوّتوا، لكان ممكن إجهاض مساعي السلطة في تمرير دستورها المعدل.
أولا، من الجانب “التقني”، اعتبر أن عدم جدوى التصويت، يعود لطبيعة النظام القائم، الذي يهتم بالدرجة الأولى بالمشاركة، لأنها تعطي الانطباع بأنه محل ثقة ومصداقية ومشروعية، بينما أكثر ما يرعبه، هو عزوف الناس ومقاطعتهم (بدرجة أكبر)، التي لا يمكنه حجبها عن الأعين، ولأنها تكشف عورته وتظهر أمام العالم لا شرعيته، مع التوضيح الفرق بين العزوف الناجم عن عدم الاكتراث، والمقاطعة التي تجسد أخطر أنواع تصويت تخشاه كل الدكتاتوريات، لأنه إذا كان من اختصاص النظام “هندسة” ما تحويه الصناديق والتحكم في نتائج الانتخابات، وتلوينها باللون الذي يريد، مهما صوّت المصوتون، وأيا كان لون أوراقهم، فإنه بالمقابل لا يمكنه التحكم في المشاركة، حتى وإن استطاع التأثير فيها نسبيا، ترهيبا وترغيبا وتضليلا، فإن في نهاية المطاف لا يمكنه أن يجبر المواطن، على الخروج من بيته والتوجه إلى مراكز الاقتراع، هذه حقيقة يدركها بمرارة ولا يملك أي حل لها، ولهذا ركز في حملاته على التصويت وحث الأحزاب والتنظيمات على المشاركة ولو بلا.
وبعد الفرز، ماذا علمنا؟ أن المشاركة كانت فعلا ضئيلة، وحتى نسبة 23,7 في المائة المنفوخ فيها، لم يستطع تزويرها تماما، وأقر بها، لكنه، بالمقابل، ومثلما بيناه من قبل، لوّن على الأرجح نتيجة التصويت، واستطاع كعادته أن يتحكم فيها، ولا استبعد أن تكون نسبة “لا” أكبر من نعم، ومع ذلك قلب النسب، لأنه ببساطة لم ينظم انتخابات ليخسرها.
وهنا نعود إلى إخواننا الذين حمّلوا المسؤولية للمقاطعين؛ لِنفترض أن المقاطعة كانت أقل وفئات عريضة صوتت ولم تقاطع، فذلك كان سيصب بالدرجة الأولى في صالح النظام اضعاف مضاعفة، ولن يغير في حصية النتيجة التي أرادها ونظم لها مسبقا، ولن يوقف مسعاه في تمرير الدستور المعدل، بل كان سيستفيد من نسبة المشاركة الأعلى، بما يظهرها على أنها دليل تزيده شرعية، ثم مهما كان تصويتهم، كان سيرجح كعادته، نسبة نعم، بماما مثلما هندية نتيجة “المشاركين بلا”، ليربح على أكثر من صعيد، هذا ليس تنجيم او تخمين، بل حقائق، تؤكدها نتائج عشرات المواعيد السابقة، وتعززها نتائج استفتاء فاتح نوفمبر 2020 نفسها.
هذا من الناحية التقنية، أما جوهر الموضوع، الذي يبرر موقف المقاطعة، كخيار إرادي متبصر، فلا علاقة له بالدستور أساسا، ولا بعملية الاستفتاء، سواء برفض مواده أو قبولها، فتلك قضية كانت ستناقش، بموضوعية وجدية، لو كنا في وضع دستوري فعلي ونظام شرعي حقيقي، أما وأن الدستور مزور مثله مثل الرئيس والنظام الذي طرحه، وكلاهما فُرِض فرضاً من قبل جهة غير مخولة دستوريا لتعيين الرؤساء والتحكم في الدساتير وتسيير سياسة البلد، أي القيادة العسكرية، فلا طائل إذن من تصويت على وثيقة تشرع للشعب، دون أن يكون للشعب راي فيها ولا ناقشها حتى، ومن ثم فلا يعتبر نفسه معني بها، فكيف يصوّت عليها؟
د. رشيد زياني شريف
التعليقات مغلقة.