سيكولوجية الاستبداد
مقدمــة
حين شرعت فى كتابة هذه الدراسة كانت تملأ وعيى صور الاستبداد داخل النفس (تحكم أحد المستويات أو الكيانات النفسية فى المستويات أو الكيانات الأخرى), والاستبداد داخل الأسرة (أب مستبد أو زوج مستبد أو أخ أكبر مستبد أو أم مستبدة), والاستبداد داخل المجتمع(مدرس مستبد أو مدير مستبد أو مسئول مستبد أو رجل دين مستبد). وكانت تمر من أمامي صور مرضاي المساكين ضحايا ألوان الاستبداد التي ذكرتها وأتذكر كيف كانت آلامهم وهم يعانون القهر والإذلال تحت سطوة شخص مستبد وهم لا يجدون مخرجاً أو مهرباً, وأتذكر كيف كانت نفوسهم تبدو مشوهة من كثرة ما تعرضوا لمطارق الاستبداد الغليظة.
وفجأة وجدت صورتي تمر من أمامي وسط ضحايا الاستبداد فتذكرت(وما كنت قد نسيت) أنني كنت ضحية استبداد رئيس قسم وأستاذ جامعي مستبد(للأسف الشديد) في أحد الجامعات الإقليمية, وكان دكتاتوراً ظالماً, دفعت من عمري سنوات عديدة بسبب ظلمه واستبداده, وقد انتهت حياته بفضيحة أخلاقية(مدوية) قبل موته بأسابيع نشرتها الصحف والمجلات,
ولم أكن أنا ضحيته الوحيد بل كان له كثير من الضحايا حاربهم فى مستقبلهم العلمي وظلم وشرد كثيرا من الناس وكانت مكانته كأستاذ جامعي ورئيسا للقسم تعطيه القدرة المطلقة على ذلك وتغلف اضطراباته النفسية وتشوهاته الخلقية التى كانت معلومة من الجميع ومسكوت عليها من الجميع. وقد كان ذلك فى بداية حياتي العلمية والعملية وأصابني بصدمة شديدة فقد وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام طاغية مستبد يظلمني بقدرته, ولا يجد من يقول له توقف عن ذلك.
ومن يومها وأنا أعي معنى الاستبداد وقسوته وخطورته ولا أقبله أبداً تحت أى مسمى أو أى لافتة, وأدعو ليل نهار بلساني وقلمي وسلوكي إلى الحرية والعدل والمساواة للجميع دون تفرقة على أساس اللون أو العرق أو الدين أو أى اعتبارات أخرى. ولم يدر فى بالى فى بادئ الأمر الاستبداد السياسي ربما لبعدي عن هذا المجال وعدم إشتغالى بالسياسة, على الرغم من معاناتي الشخصية أيضاً من هذا الاستبداد في مراحل معينة من حياتي.
ولا يتوقف الأمر على المعاناة الشخصية فى هذا المجال مهما عظمت وإنما يمتد ليشمل معاناة أمة بأكملها من مرض يحتاج لعلاج فالكل معرض للإكتواء بناره, إضافة إلى كونه عائقاً أمام التفكير الحر والإبداع والعمل الخلاق والنمو والتطور فى كل المجالات.
وعلى الرغم من ارتباط كلمة «الاستبداد» في وعى الناس بالاستبداد السياسي إلا أنه إفرازاً للاستبداد على مستوى النفس ومستوى الأسرة ومستوى المدرسة ومستوى دور العبادة ومستوى المؤسسات الاجتماعية, ولذلك وجب التنويه لذلك والتحذير من اختزال الاستبداد فى هذا المجال دون سواه.
وأنبه القارئ الكريم إلى أنني أعالج موضوع الاستبداد من جانبه النفسى فقط ولذلك أنصح باستكمال باقي الجوانب في دراسات متخصصة أخرى.
وأتمنى أن تكون هذه الدراسة لبنة فى بناء الحرية التى نتوق إليها جميعاً لتتحقق بها إنسانيتنا ونجنب أبناءنا ما عاناه جيلنا من ويلات الاستبداد, ولنفتح النوافذ للإصلاح الشامل فى كل نواحي حياتنا.
0 الحرية أصل .. والاستبداد مرض:
الحرية هي الأصل في الوجود الإنساني, وقد تفرد الإنسان بها من بين المخلوقات, فقد خلقه الله قادراً على فعل الخير وفعل الشر إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً (الإنسان 3) وهديناه النجدين (البلد:10), وأعطاه حرية الاختيار كاملة, ومنحه الإرادة لفعل هذا أو ذاك ثم جعله مسئولاً عن خياراته فى الدنيا وفى الآخرة.
وبهذا التكوين الحر الناضج المسئول استحق الإنسان التكريم على سائر المخلوقات. ولم يضمن الله الحرية للإنسان فقط بل ضمنها أيضاً لإبليس فمنحه الفرصة للاعتراض على أمر السجود لآدم ولم يشأ سبحانه أن يقهره على السجود, ولو أراد لكان فلا راد لأمره, ولم يكتف بذلك بل منحه فرصة إلى يوم القيامة يمارس فيها دوره الذى ارتضاه لنفسه فأسس حزب الشيطان والذي أنضم إليه ملايين من الأنس والجن بكامل حريتهم.
وأرسل الله الرسل تترى إلى البشرية ليبلغوهم كلمة الله وليؤسسوا حزب الرحمن الذي يضم المؤمنين من البشر, وليصححوا للناس معتقداتهم, ولينشروا الحق والخير والعدل فى الأرض فى مواجهة حزب الشيطان الذى ينشر الباطل والشر والظلم فى الأرض, ومع هذا فقد علم الله رسله درساً هاماً فى الحرية فى أعلى مستوياتها وهى حرية الاعتقاد الديني حيث قرر بوضوح لا لبس فيه أنه:[ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى, فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم] [البقرة : 256].
وسيدنا نوح عليه السلام لم يشأ أن يقهر ابنه على الاعتقاد فيما يعتقده ولكنه حاوره وحذره ثم تركه يقرر ما يريد رغم علمه بأن ما يريده ابنه فيه هلاكه فى الدنيا (الغرق) وهلاكه في الآخرة (جهنم), ولكن نوحاً يعلم مراد الله من البشر ويعلم قيمة الحرية التى منحها الله الإنسان حتى إذا عبده كان ذلك عن طواعية وحب وليس عن قهر وخوف، والحرية على المستوى النفسى ضرورة للنمو النفسى الطبيعي ولتطور الوظائف النفسية وبالتالي لنمو وتطور الحياة, فهي التي تعطى فرصة للتفكير الحر وللإبداع الحر وللعمل الخلاق الذى يثرى الحياة وينميها ويطورها.
ومن هنا يصبح الاستبداد مرضياً إنسانياً واضطراباً نفسياً لكل من المستبد (بكسر الباء) والمستبد (بفتح الباء) به فهو يشوه الطرفين ويشوه البيئة ويلوثها بكل أنواع الفساد. ولهذا نجد أن الأديان السماوية والحركات الإصلاحية الفلسفية والاجتماعية والسياسية حرصت فى كل مراحل التاريخ على علاج هذا المرض العضال الذى يعصف دائماً بمكتسبات الحضارة الإنسانية ويحدث – كما ذكرنا – تشويها لفطرة البشر وتلويثاً للبيئة الإنسانية بكل ألوان الانحراف والفساد, فالاستبداد هو مصدر الكثير من المفاسد الفردية والجماعية.
ويبدو أن المجتمعات العربية والإسلامية على وجه الخصوص قد أصابها من هذا المرض العضال الكثير ومازال حتى الآن, فعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية الحديثة قد انتبهت إلى خطر هذا المرض وكافحت كثيراً حتى وضعت الضمانات والآليات لمنع انتشاره فى صورة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفى صورة الأنظمة الديمقراطية المختلفة, وقبل هذا كله فى صورة ثقافة الحرية والعدل والمساواة, على الرغم من كل هذا الذى حدث فى المجتمعات المتقدمة حولنا, إلا أننا مازلنا نعانى الكثير من أعراض هذا المرض لدرجة أن العالم الخارجي(سواء بحسن نية أو بسوء نية) قد أصبح يعتبرنا مرضى نحتاج لتأهيل سياسي واجتماعي ونفسي حتى نرتقى إلى مستوى العالم الحر من حيث اعتناق قيم الحرية وحقوق الإنسان ومن حيث تطبيق الديموقراطية كآلية لمنع انتشار فيروس الاستبداد الكامن فينا مرة بعد مرة.
وقد حاولت دعوات الإصلاح قديماً وحديثاً علاج هذا المرض, فقديماً كتب عبد الرحمن الكواكبى عن«طبائع الاستبداد» فشخص المرض ووضع العلاج, ولكن كلماته وصرخاته ذهبت أدراج الرياح, وحديثاً حذر المصلحون فى الداخل دون جدوى, ويضغط علينا النظام العالمي الجديد لقبول العلاج حتى لا نصبح بؤرة مرضية فى المجتمع الإنساني.
وفى المقابل تجرى محاولات الإنكار والالتفاف حول جهود الإصلاح ومحاولات العلاج بإدعاء أننا لسنا مرضى إلى هذا الحد وبادعاء أن الديموقراطية نظام غربي لا يصلح لمجتمعاتنا الإسلامية وبادعاء أن الحرية تعنى الإنفلات من القيم والعادات والتقاليد العربية والإسلامية, وبادعاء أن لنا خصوصية يجب المحافظة عليها وأن الحرية والديموقراطية تهددان هذه الخصوصية, وفى الحقيقة هذه تبريرات يسوقها المريض لكي لا يتناول الدواء.
ويخطئ من يعتقد أننا نتحدث عن الاستبداد على المستوى السياسي في أنظمة الحكم فحسب, وإنما نحن نتحدث فى هذه الدراسة عن كل مستويات الاستبداد فى النفس والأسرة والمجتمع المحلى والمجتمع الدولي, ونتناول هذا المرض من جانبه النفسى أساساً والذي نعتقد أنه عنصر أساس فى تغلغل هذا المرض وانتشاره, حيث يبدو أن لدينا خللاً فى منظومتنا الفكرية سمح لتغلغل فيروس الاستبداد فى نفوسنا وأدى إلى تأخر العلاج حتى الآن وإلى رفض الدواء القادم من الداخل ومن الخارج على حد سواء، بل وأدى إلى فقد البصيرة حيال هذا المرض لدى قطاع كبير منا فلم يعد يشعر بأعراض المرض أو يشكو منه أصلاً, فنحن مجتمع أبوي يقوم على فكرة أن الكبير يعرف كل شئ ويملك كل شئ والصغير جاهل غرير لا يعرف أي شئ ولا يملك أي شئ (في بعض المجتمعات العربية يطلقون فعلا على الطفل والمراهق لقب “جاهل” ويتعاملون معه من هذا المنطلق).
0 منظومة الحرية:
نتحدث كثيراً عن الحرية وعن الديموقراطية وعن الشورى, وغالباً ما يكون حديثنا مرسلاً أو غير محدد المعالم وبالتالي تصبح هذه الأشياء أمنيات وأحلام يبعد أن تتحقق فى الواقع, ولكي ننجو من هذا المصير علينا أن نتعرف على منظومة الحرية بشكل منهجي حتى إذا سعينا إليها كان سعينا راشداً ومثمراً.
ومنظومة الحرية هي عبارة عن سلسلة متماسكة الحلقات تبدأ بمفهوم الحرية ثم مفهوم المساواة (المواطنة) ثم آلية تحقيق هذين المفهومين (الحرية والمساواة) ثم نتيجة كل هذا وهو صلاح الحياة. ولنأخذها بشيء من التفصيل حسب ما تقتضيه حدود هذه الدراسة.
1- الحرية: الحرية ليست مطلباً سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً فحسب وإنما هى ضرورة وجودية ارتبطت بالنشأة الأولى للإنسان. وإذا عدنا إلى المشهد الكوني الذي تم فيه إعلان خلق الإنسان لوجدنا أن هذا المشهد تضمن إعلاناً مدوياً لمبدأ الحرية, ويتبدى ذلك فى الحوار الحر بين الله والملائكة وحتى بين الإله القادر العظيم وبين إبليس.
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء, ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أنى أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى وأستكبر وكان من الكافرين} [البقرة :34]
وتبدو قمة الحرية فى إعطاء إبليس الفرصة للتعبير عن رأيه حتى وهو يتمرد على أمر الله بالسجود ولو شاء الله لقهره على السجود ولكنه درس عميق فى الحرية وفى احترم الاختيار وفى تحمل مسئولية المخلوق لنتائج خياراته.
وخلق الإنسان نفسه بما يحمله من قدرة حره على فعل الخير أو الشر وهديناه النجدين إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً كل هذا كان إعلاناً كونياً مدوياً لمولد الحرية كمكون أساس فى الإنسان وكضرورة نفسية لوجوده ككائن يملك الاختيار ويملك الإرادة لتنفيذ خياراته ويتحمل مسئولية ذلك. وقد ضمن الله سبحانه وتعالى هذه الحرية للإنسان حتى ولو استغلت هذه الحرية فى معصية الله والخروج عن أمره.
وقد تأكد مفهوم الحرية حين أعلن الله سبحانه وتعالى مبدأ عدم الجبر فى الاعتقاد{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (البقرة 256 ).. {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…}(الكهف 29). وإذا كان الله قد منحنا الحرية فى الاعتقاد وحملنا مسئولية الاختيار, فمن باب أولى نكون أحراراً فيما دون ذلك.
إذن فالحرية ليست ترفاً فى حياة الإنسان وليست من كماليات حياته وإنما هى من أساسيات وجوده, ولا تتحقق رسالته التى أرادها له الله إلا إذا تحققت حريته, فالمجبر غير مكلف وغير مسئول بالمعنى الكامل. وتبنى مفهوم الحرية (سواء كان مفهوماً فلسفياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو أخلاقياً) لا يكفى لتحقيقها وإنما يلزم وجود بقية مستويات المنظومة.
2- المساواة(المواطنة): هذا المبدأ غاية في الأهمية في منظومة الحرية, وهو يعنى أن البشر كل البشر متساوين في الحقوق والواجبات ومتساوين فى حقهم فى الحرية, فكلهم من خلق لله. وهذا المبدأ حين يتحقق يستبعد حق إنسان فى استعباد إنسان آخر على قاعدة أفضلية عرقية أو طائفية أو غيرها, فالجميع لهم حق الحياة ولهم حق المشاركة, بمعنى أن الجميع لهم حق المواطنة فى الدولة أو فى الأمة أو فى الأسرة البشرية كلها. وحين يختل هذا المبدأ يعتقد بعض الناس أنهم جديرون بالحرية دون غيرهم وأنهم فوق من يعتقدون أنهم دونهم وهنا تبدأ بذور القهر والاستبداد.
3- الشورى(أو الديموقراطية): وهى آليات لتنفيذ مفهومي الحرية والمساواة, وهذه الآليات تتشكل حسب الظروف فيمكن أن تأخذ صورة أهل الحل والعقد, أو صورة البيعة, أو صورة الانتخابات. وقد مرت البشرية بتجارب كثيرة سعياً نحو أسلوب أمثل لتحقيق مبادئ الحرية والمساواة ووصلت إلى نجاحات نسبية ولا نقول مثالية لذلك, فوضعت النظم والدساتير والآليات التى تمنع الاستبداد وتحافظ على الحرية. وهذه الآليات ليست هدفاً في حد ذاتها وإنما هى وسائل لتحقيق الحرية قدر الإمكان فى حياة البشر وبالتالي يمكن أن يتم تطويرها وتعديلها من وقت لآخر.
4- الصلاح: وبما أن الحرية والمساواة والشورى (أو الديموقراطية) ليست مفاهيم فلسفية مجردة وإنما هى مبادئ وأسس لصلاح الحياة فلابد وأن يتحقق هذا الهدف كثمرة لكل ما ذكرنا. وإذا حدث ولم يتحقق هذا الصلاح (عمارة الأرض) فلابد من مراجعة المفاهيم والوسائل السابقة للوقوف على مصدر الخلل.
0 منظومة الإستبداد:
وهى تتضمن صفات المستبد (بكسر الباء) والمستبد (بفتح الباء) بهم (المستعبدين)وطبيعة العلاقة بينهما, والبيئة التى يعيشون فيها.
1- التأله (العلو والكبر): يشعر المستبد بعلوه على من حوله من البشر وملكيته لهم, وبالتالي يطلب منهم الطاعة والانقياد, ولا يسمح لهم بمخالفته أو مناقشته, ويتقمص صفات القاهر الجبار. وهكذا شيئاً فشيئاً تتضخم ذاته خاصة مع خضوع من حوله, ويصل فى النهاية إلى الاعتقاد بألوهيته, وهذا هو نهاية متصل الاستبداد والذي وصل إليه فرعون حين قال: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات:24], وقال:{ يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} [القصص:38 ].
2- الاستخفاف: وفى داخل نفس المستبد استخفاف واحتقار لمن يستبد بهم, ويزيد هذا الشعور بداخله كلما بالغوا هم فى طاعته ونفاقه والتزلف إليه لأنه يعلم بداخله كذبهم وخداعهم, ويعلم زيف مشاعرهم, ويشك في ولائهم وإخلاصهم, كما أنه من البداية يشك فى قدراتهم وملكاتهم وجدارتهم, وبالتالي يصل في النهاية إلى الشعور بالاستخفاف بهم. وكلمة الاستخفاف التى وردت فى القرآن الكريم{ فاستخف قومه فأطاعوه} [القصص4] تحمل في طياتها معاني الاحتقار والاستهزاء والإذلال والاستغلال.
3- الجبروت والعناد: فالمستبد جبار متجبر عنيد وهى صفات متصلة ببعضها لأن جذورها فى النفس واحدة, فالمعنى اللغوي للجبّار”هو الذي يقتل على الغضب” وتجبَّر الرجل بمعنى تكبر (مختار الصحاح لمحمد بن أبى بكر الرازي المتوفى سنة 666 هجرية –دار الجيل– بيروت– لبنان ص91,90 طبعة عام 1407هـ 1987م).
فمنظومة الاستبداد تبدأ بالتكبر والاستعلاء الذى يصل إلى درجة التأله, ومن هنا كان بغض الله للمستبد وسخطه عليه لأنه ينازعه صفة الجبار وينازعه الألوهية بصفة عامة, وينازعه نفاذ الأمر الذى لا يبدل ولا يغيَّر, ولهذا توعده العذاب الشديد, فعن أبى موسى رضى الله عنه أن رسول الله صلي الله علية وسلم قال: «إن في جهنم وادياً, وفى الوادي بئر يقال له هبهب, حق على الله أن يسكنه كل جبار عنيد» ( راوه الطبرانى بإسناد حسن كما قال المنذرى فى الترغيب, والهيثمى في: المجمع 5/197 والحاكم وصححه ووافقه الذهبى 4/332 ).
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبى صلي الله علية وسلم قال: «ستكون أئمة من بعدى يقولون فلا يرد عليهم قولهم, يتفاحمون في النار كما تفاحم القردة» [رواه أبو يعلى والطبرانى, وذكره في صحيح الجامع الصغير برقم 3615 ]. وواضح من طريقة العذاب عظم الجرم الذى يقع فيه كل طاغية ومستبد ودكتاتور فى أى موقع وعلى أى مستوى.
والمتكبر لا يحتمل اختلافاً فى الرأي, بل لا يسمح من البداية أن يكون هناك رأياً آخر يزاحمه لأن هذا الرأي الآخر يعتبر قدحاً في تألهه وجبروته فهو يفترض أنه على صواب دائماً وأن ما يراه هو الحق المطلق, وبالتالي فهو يعتبر أن صاحب الرأي الآخر سفيهاً أو مضللاً ومتعدياً على مقامه الأرفع ومن هنا يكون غضبه شديداً يصل إلى درجة قتل المخالف مروراً بتعنيفه أو سجنه أو تعذبيه أو نفيه. والمتكبر دائماً وأبداً عنيد لأنه يفترض أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وبالتالي لا يقتنع برأي آخر ولا يريد أصلاً ولا يقبل أن يكون هناك رأى آخر.
4- الفسق : ومع استمرار السلوك الاستبدادي يتحول الناس (المستبد بهم) إلى كائنات مشوهه وذلك من كثرة الأقنعة التي يلبسونها لإرضاء المستبد فيتفشى فيهم النفاق والخداع والكذب والالتواء والخوف والجبن وتكون النهاية كائنات مشوهه خارجة عن الإطار السليم للإنسان الذي كرمه الله, والقرآن الكريم يصفهم بالفسق, والفسق هنا كلمة جامعة لكل المعاني السلبية التي يكتسبها الخاضعون للمستبد فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين [الزخرف 54].
5- الفساد: وحين تجتمع الصفات السلبية للمستبد مع الصفات السليبة للمستبد بهم تكون النتيجة بيئة مليئة بالفساد “وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد” [الفجر10-12] فالفساد نتيجة طبيعية ومباشرة للاستبداد مهما كانت مبررات الاستبداد ومهما كانت اللافتات التي يتخفى وراءها لأن الاستبداد تشويه للتركيبة النفسية للمستبد وتشويه أيضاً للتركيبة النفسية للمستبد بهم وبالتالي يحدث تشويه للبيئة التي يعيشون فيها, وكأن الاستبداد أحد أهم عوامل التلوث الأخلاقي والبيئي في الحياة.
6- الضلال: ونظراً لمحدودية رؤية المستبد وتشوه تركيبته النفسية منذ البداية ثم زيادة هذا التشوه نتيجة تضخم ذاته بالمدح والثناء من المستعبدين (بفتح الباء), ورفضه للاسترشاد برؤى الآخرين, وإصراره العنيد على إنفاذ أمره وحده فإن النتيجة هى قرارات خاطئة فى كل المجالات «فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد».
7- الهلاك:- والنتيجة المنطقية لتشوه المستبد وتشوه المستبد بهم, وفساد البيئة التى يعيشون فيها معا هي الهلاك المحقق, فما من مستبد إلا ووصل بجماعته إلى الهاوية فضاع وضاعوا معه «فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعو ن برشيد0 يقدم قومه يوم القيامة فأوردوهم النار وبئس الورد المورود» (هود 97/98).« فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين» (القصص 40).
والهلاك ليس فقط فى الآخرة وإنما يسبقه هلاك فى الدنيا, وهلاك منظومة الاستبداد ليس قائماً فقط على اعتبارات أخلاقية أو دينية وإنما هو سنة كونية وقانون حياتي لأن الاستبداد يسير ضد تيار الحياة الإنسانية وهو تشويه للفطرة (للمستبد والمستبد بهم) ولذلك فلا يمكن أن يستمر طالما قُدِّر للحياة أن تستمر وتنمو وتتطور, فالمستبد مثل أى ميكروب أو فيروس يدخل الخلية ويوجه نشاطاتها لخدمته وفى حالة عجز الخلية عن اكتشافه ومقاومته بجهاز المناعة لديها فإن المآل الحتمي هو ضد قانون تطور الحياة ونموها.
والأمثلة التاريخية لهلاك منظومات الاستبداد ليس لها حصر, ففرعون قد هلك غرقاً هو وجنوده, ونيرون أحرق كل شيء وأحترق معه, وشاه إيران ضاع وضاع ملكه ولم يجد فى نهاية حياته مأوى يؤيه وظل حائراً بطائرته في الجو وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت, وشاوشيسكو انقض عليه شعبه سخطاً وغضباً وألقاه فى مزبلة التاريخ, وقبلهم هتلر تسبب فى قتل 45 مليوناً من البشر ثم مات منتحراً أو مقتولاً تلاحقه اللعنات فى كل مكان, وصدام حسين أضاع ثروات العراق وأسلمها لاحتلال أمريكي بغيض لا يعرف أحد متى يرحل.
0 الاستبداد وعلاقته بنمط الشخصية:
هل توجد أنماط شخصية معين تميل إلى السلوك الإستبدادى؟
نعم, فدراسة حياة مشاهير المستبدين على المستويات المختلفة تؤكد وجود أنماط شخصية معينة تميل إلى السلوك الإستبدادى خاصة إذا واتتها الظروف, ومن هنا تصبح معرفة هذه الأنماط مهمة للوقاية من السلوك الإستبدادى ومن المستبدين. ونذكر من هذه الأنماط الشخصية ما يلي:-
1- الشخصية النرجسية(Narcissistic Personality): صاحب هذه الشخصية لديه شعور خاص بالأهمية وبالعظمة ويبالغ فى قيمة مواهبه وقدراته وإنجازاته ويتوقع من الآخرين تقديراً غير عادى لشخصه وملكاته وإنجازاته المبهرة فى نظره وهو يعتقد أنه متفرد في تكوينه وفى أفكاره ويحتاج لمستويات عليا من البشر كي تفهمه وتقدره,
ويحتاج للثناء والمدح الدائم والتغني بجماله وكماله وأفكاره وبطولاته الأسطورية وتوجيهاته التاريخية ومواقفه العظيمة غير المسبوقة وهو لا يشعر بالتعاطف مع الآخرين ولا يتفهم احتياجاتهم بل يريدهم فقط أدوات لتحقيق أهدافه وإسعاده وبلوغ مجده وهو أناني شديد الذاتية ويسعى طول حياته ليضخم هذه الذات التي يعتبرها محور الكون, وربما ينجح فى الوصول إلى مراكز عليا فى الحياة بسبب إخلاصه الشديد فى تحقيق ذاته ورغبته فى التميز والاستعلاء على الآخرين.
2- الشخصية البارانوية (الزورانية Paranoid Personality): تدور هذه الشخصية حول محور الشك وسوء الظن, فصاحبها لا يثق بأحد ويتوقع الإيذاء من كل الناس ولا يأخذ أى كلمة أو فعل على محمل البراءة بل يحاول أن يجد فى كل كلمة أو فعل سخرية منه أو انتقاصا من قدره أو محاولة لإيذائه, ولهذا نجده دائم الحذر من الآخرين, لا يهدأ ولا ينام, ويكافح طول عمره ليقوى ذاته ويحمى نفسه من الآخرين «الأعداء دائماً وأبداً», وهذا الشك والحذر وعدم الولاء للناس يدفعه للعمل الجاد والشاق لكي يصل إلى المراكز العليا فى مجال تخصصه, وهو حين يحقق ذلك يمارس السيطرة والتحكم فى الناس الذين يحمل لهم بداخله ذكريات أليمه من السخرية والاحتقار والإيذاء وبما أنه لا يسامح أبداً ولا ينسى الإساءة لذلك فهو يمارس عدوانه على من تحت يده انتقاماً وإذلالاً, ويحقر كل من دونه كراهية ورفضاً.
3- الشخصية الوسواسية (القسرية Anankastic Personality): والشخص الوسواسى يميل إلى الدقة والنظام والصرامة والانضباط ولا يحتمل وجود أى خطأ, وهو فوق ذلك عنيد ومثابر إلى أقصى حد, ولهذا يميل إلى أن يتأكد من كل شيء بنفسه ولا يثق فى أحد لأنه يعتبر الآخرين عشوائيين وغير منضبطين وأنهم سوف يفسدون الأمور التى توكل إليهم, لذلك نراه إن كان والداً أو مسئولاً يريد أن يستحوذ على كل شيء في يده ويتابع كل شيء بنفسه ولا يترك لأحد فرصة للتعبير عن نفسه أو تحمل مسئولياته, فالآخرون في نظره غير جادين وغير دقيقين وغير صارمين مثله وهم يحتاجون دائماً للوصاية والتوجيه والتحكم, فهم في نظره أطفال عابثون يحتاجون فى النهاية لمن يضبطهم ويوجههم وإلا فسدت كل الأمور.
4- الشخصية السادية (Sadistic Personality): وهو الشخص الذى يستمتع بقهر الآخرين وإذلالهم والتحكم فيهم وكلما شاهد الألم فى عيونهم استراح وانتشى وواصل تعذيبهم وقهرهم ليحصل على المزيد من الراحة والنشوة .
5- الشخصية المعادية للمجتمع(Dissocial Personality): وهو نوع من الشخصية لا يحترم القوانين والنظم والشرائع, بل يجد متعه فى الخروج عليها, ولا يشعر بالذنب تجاه شيء أو تجاه أحد, ولا يتعلم من تجارب فشله, ويعيش على ابتزاز الآخرين واستغلالهم مستغلاً سحر حديثه وقدرته على الكذب والمناورة والخداع, وهو شخص لا يفكر إلا فى نفسه وملذاته, والآخرين ليسوا إلا أدوات يستخدمها لتحقيق ملذاته.
وبعد استعراض هذه النماذج الشخصية الأكثر ميلاً للاستبداد نود أن ننوه أن المستبد يمكن أن يكون أحد هذه الأنماط ويمكن أن يكون خليطاً منها بعضها أو كلها.
أما المستبد بهم (المقهورون) فيمكن أن يكونوا أناساً ذوى سمات متباينة ولكن يغلب أن يكون لديهم سماتاً ماسوشيه بمعنى أن لديهم ميل لأن يتحكم فيهم أحد وأن يخضعوا له ويسلموا له إرادتهم ويستشعروا الراحة وربما المتعة في إيذائه لهم وإذلاله إياهم, فلديهم مشاعر دفينة بالذنب لا يخففها إلا قهر المستبد وإذلاله لهم على الرغم مما يعلنون من رفضهم لاستبداده.
وهؤلاء المستعبدين ربما يكون لديهم معتقدات دينية أو ثقافية تدعوهم إلى كبت دوافع العنف وتقرن بين العنف والظلم وتعلى من قيمة المظلوم وتدعو إلى التسامح مع الظالم والصبر عليه وترى فى ذلك تطهيراً لنفس المظلوم من آثامه.
والشخصيات المستعبدة لديها شعور بالخوف وشعور بالوحدة لذلك يلجأون إلى صنع مستبد ليحتموا به ويسيروا خلفه ويعتبرونه أباً لهم يسلمون له قيادتهم وإرادتهم ويتخلصون من أية مسئولية تناط بهم فالمستبد قادر على فعل كل شيء فى نظرهم, وفى مقابل ذلك يتحملون تحكمه وقهره وإذلاله ويستمتعون بذلك أحياناً.
إذن فالمستبد ليس وحده المسئول عن نشأة منظومة الاستبداد ولكن المستعبدين (المستبد بهم) أيضاً يشاركون بوعي وبغير وعى فى هذا على الرغم من رفضهم الظاهري للاستبداد وصراخهم منه أحياناً، ولا تزول ظاهرة الاستبداد عملياً فى الواقع إلا حين تزول نفسياً من نفوس المستعبدين حين ينضجوا ويتحرروا نفسياً ويرغبون فى استرداد وعيهم وكرامتهم وإرادتهم التى سلموها طوعاً أو كرهاً للمستبد, حينئذ فقط تضعف منظومة الاستبداد حتى تنطفئ, وليس هناك طريق غير هذا إذ لا يعقل أن يتخلى المستبد طواعية عن مكاسبه من الاستبداد خاصة وأن نمط شخصيته يدفعه دفعاً قوياً للمحافظة على تلك المكاسب الهائلة.
وإذا رأينا المستعبدين (المستبد بهم) ينتظرون منحهم الحرية من المستبد فهذه علامة سذاجة وعدم نضج منهم توحي ببعدهم عن بلوغ مرادهم وتؤكد احتياجهم لمزيد من الوقت والوعى ليكونوا جديرين بالحرية, فقد أثبتت خبرات التاريخ أن الحرية لا تمنح وإنما تسترد وتكتسب.
0 المستبد ودافعي التملك والخلود:
إن دافعي التملك والخلود ليسا قاصرين على المستبد وحده فهما دافعين أساسين فى النفس البشرية وقد عرفهما إبليس وحاول اللعب عليهما عندما أراد أن يغوى آدم فقال له مغرياً إياه بالأكل من الشجرة المحرمة (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (طه:120). وقال(ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) [الأعراف: 20].
وفعلاً نجح الإغواء لآدم على الرغم من التحذير الإلهي له ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [البقرة:35] وعلى الرغم من إتاحة فرص التنعم المتعددة فى الجنة, وهذا يدل على قوة هذين الدافعين وعمقهما في النفس البشرية, وعلى أنهما نقطتي ضعف يسهل الإغواء عن طريقهما.
ويبدو أن هذين الدافعين يكونان متخضمين فى نفس المستبد فهو لا يشبع من التملك وهو يسعى إلى الخلود وينكر فى أعماقه فكرة الموت. وكلما اتسعت دائرة نفوذه وكلما انتشرت صوره وتماثيله في كل مكان كلما انزلق إلى الإعتقاد بفكرة خلوده, ولو أصابه المرض أو أدركته الشيوخة وأيقن بفكرة موته فإنه يتسمك بملكه ويتعلق بخلوده من خلال أبنائه فيحرص على توريثهم كل ما استطاع أن يتملكه فهم امتداد لذاته, وهذه هى سيكولوجية الأنظمة التي تقوم على فكرة التوريث حفاظاً على بقاء المُلْك وخلود الذِكْر.
ومن سنن الكون التى قدرها الله أن كل من يتعلق بالملك أو الخلود يزول منه لأن الملك لله وحده والخلود له وحده, وحين سعى آدم نحو الملك الذى لايبلى والخلود, ابتلاه الله بالحرمان من الجنة بل والحرمان مما يستره من ملابس (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما) [الأعراف:22], هكذا يحدث مع كل مستبد تخدعه ذاته أو يخدعه إبليس بفكرة الخلود أو الملك الذى لا يبلى, حيث يبتلى بضياع الملك ويبتلى بالطرد من الجنة التى عاش فيها وظن أنه خالد فيها.
0 مستويات الاستبداد:
تبدأ بذرة الاستبداد داخل النفس ثم تنبت وتتمدد شجرته الخبيثة لتمد فروعها داخل الأسرة ثم داخل المدرسة ثم داخل المؤسسات ثم داخل المجتمع ثم داخل النظام السياسي حتى يصل إلى المستوى الدولي. وفيما يلي إيضاح لهذه المستويات:
1- الاستبداد النفسى:- ربما يكون هذا المفهوم غريباً بعض الشيء, ولكنه في الحقيقة هو جذر شجرة الاستبداد, وهو النموذج الأولى للاستبداد (Prototype) ولكي نفهم الاستبداد النفسى لابد أن نعلم بأن النفس البشرية رغم وحدتها الظاهرة إلا أنها تتكون من كيانات مختلفة تختلف أسماؤها باختلاف النظريات النفسية, ففي النظرية التحليلية لفرويد نجد الهو والأنا والأنا الأعلى, وفى نظرية التحليل التفاعلاتى لإريك برن نجد ذات الطفل وذات الناضج وذات الوالد, وفى علم النفس التحليلي نجد الأنيميا والأنيموس ونجد القناع والظل, وفى نظرية كارين هورنى نجد الذات المثالية والذات الاجتماعية والذات الحقيقية.
وتبدأ فكرة الاستبداد داخل النفس حين يتضخم أحد الكيانات أو أحد الذوات داخل النفس على حساب الكيانات أو الذوات الأخرى وهنا يختل التوازن النفسى ويتوحش هذا الجزء المتضخم فى حين تضمر وتنسحب الأجزاء الأخرى منتظرة اللحظة المناسبة للانقضاض على الجزء المستبد, وفى كل هذه الحالات تمرض النفس أو تتشوه أو تهلك.
2- الاستبداد الأسرى:- ففى الأسرة تتأكد مفاهيم الحرية أو تنتفي, فهي المحضن الأول والأساس لقيم الحرية والمساواة والعدل وغيرها من القيم, فإذا مارس الأب أو مارست الأم الاستبداد كان ذلك بمثابة نموذج أوّلى للاستبداد يحمله الطفل معه ويتحرك بموجبه فى كل المواقع التى يذهب إليها, فهو يتصنع الخضوع والاستسلام ويسلم إرادته لوالده المستبد, ثم حين تواتيه الفرصة(حين يكبر هو أو يضعف أبوه) ينقض عليه منتقماً ومتشفياً.
3- الاستبداد المدرسي:- ويمارسه ناظر المدرسة على مدرسيه ثم يمارسه المدرسون على الطلاب ثم يمارسه الطلاب الأقوياء على الطلاب الضعفاء، وبما أن المدرسة داراً أساسية للتربية فهي تنمى ذلك السلوك وتدعمه بل وتعطيه شرعيه تربوية وأخلاقية.
4- الاستبداد المؤسسي:- وهو امتداد طبيعي للاستبداد الأسرى والاستبداد المدرسي حيث تقوم كل المؤسسات على فكرة شخص واحد كبير يعرف كل شييء ويتصرف وحده فى كل شئ, وقطيع من المرؤوسين يسمعون ويطيعون. والعلاقة هنا بين الرئيس والمرؤس تقوم على الخوف والعداوة المستترة تحت غطاء من النفاق والخداع.
5- الاستبداد الدينى:- فعلى الرغم أن الدين الصحيح يؤكد مفهوم الحرية(حتى فى الاعتقاد الدينى نفسه) ويؤكد مفهوم المساواة ويؤكد مفهوم الشورى إلا أن بعض الأفراد أو بعض المؤسسات ربما تستغل بعض المفاهيم الدينية أو شبه الدينية لتمارس تسلطها على الناس بحجة أنها تتحدث باسم الإله وبأمره وأنها تملك الحقيقة المطلقة التى لا يصح معها حوار أو نقاش, وربما يكون هذا هو أخطر أنواع الاستبداد لأنه يذل أعناق البشر باسم الدين وتحت رايته.
وهذا النموذج نراه واضحاً فى زوج يقهر زوجته محتجاً بنصوص مأخوذة بغير معناها وخارج سياقها, أو أب يستبد بأبنائه ويلغى إرادتهم شاهراً آيات الطاعة فى وجوههم, أو رجل دين يمنح صكوك الغفران لمن يرضى عنه ويلقى بسخطه وغضبه على من يخالفه, أو حاكم يتستر تحت مفاهيم دينية ليخفى طغيانه.
ومن علامات الاستبداد الديني تآكل منطقة المباح, تلك المنطقة في السلوك البشرى التي سكت الله عنها لا نسيانا ولا إهمالا وإنما ليعطى فسحة للعقل البشرى أن يتصرف بحرية في أشياء لا تقع في منطقة الحلال أو منطقة الحرام. ومنطقة المباح هذه هي التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بأمور دنياكم”, وهى منطقة أرادها الله أن تكون واسعة وأن يحررها من قيود الحلال والحرام لكي يعطى العقل البشرى فسحة للعمل والإبداع دون حرج.
وفى مجتمعات الاستبداد الديني تعلو أصوات رجال الدين معلنة تحكمهم في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس تحت زعم أن الدين لم يترك شيئا إلا ووضع له حكما, ونسوا أو تناسوا أن حكم منطقة المباح أن تكون حرة, وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكره كثرة السؤال حتى لا يقع الناس في فخ التشديد والإلزام في أشياء لا تستدعى ذلك. وهذه المجتمعات التي تتآكل فيها منطقة المباح ويصبح الناس أسرى لآراء رجال الدين في كل صغيرة وكبيرة يقعون في فخ “الكهنوت” وهو مقدمة الاستبداد الديني.
6- الاستبداد الاجتماعى (الطبقى):- بمعنى أن تستبد طبقة ما بمقاليد الأمور مثل طبقة النبلاء أو الإقطاعيين أو طبقة رجال الأعمال أو طبقة البروليتاريا, في حين تستبعد باقي الطبقات وتعيش مقهورة ذليلة ولا تملك إلا الإنتظار المؤلم الحقود للحظة تتمرد فيها وتنقض على الطبقة المسيطرة وإذا انتصرت هذه الطبقة الجديدة المنقضة أو الثائرة أو المتمردة فإنها تستبد هى الأخرى بالأمور وتلغى أو تستبعد أو تستعبد الطبقات الأخرى وتبدأ دورة جديدة من دورات الاستبداد تنهك قوى المجتمع وتفقده أفضل ملكاته وإمكاناته.
7- الاستبداد السياسي:- وهو أكثر مستويات الاستبداد شهرة لدرجة أنه حين تذكر كلمة الاستبداد يخطر فى الذهن مباشرة هذا النوع من الاستبداد دون غيره, ربما لأنه الأكثر وضوحاً أو الأكثر شيوعاً أو الأوسع تأثيراً.
وهذا الوضوح وهذه الشهرة للاستبداد السياسي يجعلنا في غنى عن الحديث عنه بالتفصيل فقد أصبح من البديهيات ولكننا فى فقط ننوه إلى جذوره التى جاءت من نفس مستبدة وأب مستبد وناظر مستبد ومدير مستبد ووزير مستبد ورجل دين مستبد, فالاستبداد السياسي ثمرة مرة لثقافة استبدادية على مستويات متعددة وهو لا يزول بمجرد ثورة أو انقلاب ولكنه يزول حين تسرى ثقافة الحرية والمساواة والعدل فى كل أو أغلب المستويات سابقة الذكر.
وسريان ثقافة الحرية وحده لا يكفى بل لابد من أن يكافح معتنقوا الحرية من أجل ترسيخ آليات لممارسة الحرية مثل الشورى أو الديموقراطية أو أى آلية أخرى تكون ضماناً لاستمرار الحرية وحاجزاً أمام كل مستبد طامع يحاول الانقضاض فى أى لحظة على هذه القيم تحت أى لافتة مهما كانت براقة.
8- الاستبداد الدولي:- وقد أصبح هذا الاستبداد واضحاً منذ ظهور عالم القطب الواحد حيث تتحكم الإمبراطورية الأمريكية الآن –منفردة– في مقاليد الأمور, حتى الهيئات والمنظمات الدولية التى نشأت للمحافظة على الشرعية الدولية قد أطيح بها وأصبحت أداة فى يد الدكتاتورية الأمريكية المستبدة.
وتقوم بريطانيا بدور هامان للفرعون الأمريكي المتغطرس فبريطانيا لديها طموح سياسي تحققه من خلال تقديم الخدمات لأمريكا وتبرير أفعالها والسير فى ركابها وتقوم اليابان والصين بدور قارون المستفيد مادياً من هذا النظام العالمي الفاسد. أي أن أطراف الثالوث الاستبدادى (فرعون وهامان وقارون) التى ذكرناها آنفاً متحققة تماماً في النموذج الدولي. وهذه الأطراف الاستبدادية تتحكم فى مقدرات الضعفاء والمستضعفين والخاضعين والمستسلمين من شعوب العالم.
0 أطراف الاستبداد:
وهناك أطراف(أو أضلاع أو أركان) ثلاثة للاستبداد تتحالف مع بعضها وتتآمر لخلق منظومة الاستبداد التى تحاول أن تستفيد منها (أو تتوهم أنها ستستفيد منها) ويحدد الدكتور/يوسف القرضاوي (فتاوى معاصرة, الجزء الثاني, دار الوفاء المنصورة, الطبعة الثالثة 1415هـ-1994م صفحة639) أطرافاً ثلاثة للاستبداد هي:
0 الأول : الحاكم المتأله المتجبر فى بلاد الله, المتسلط على عباد الله, ويمثله فرعون.
0 والثاني: السياسي الوصولي, الذي يسخر ذكاءه وخبرته فى خدمة الطاغية, وتثبيت حكمه, وترويض شعبه للخضوع له ويمثله هامان.
0 والثالث: الرأسمالي أو الإقطاعي المستفيد من حكم الطاغية, فهو يؤيده ببذل بعض ماله, ليكسب أموالاً أكثر من عرق الشعب ودمه, ويمثله قارون.
ولقد ذكر القرآن هذا الثالوث المتحالف على الإثم والعدوان, ووقوفه فى وجه رسالة موسى, حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر:{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين* إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذّاب} [غافر:24,23]. {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا فى الأرض وما كانوا سابقين} [العنكبوت 39] .
والعجيب أن قارون كان من قوم موسى, ولم يكن من قوم فرعون, ولكنه بغى على قومه, وأنضم إلى عدوهم فرعون, وقبله فرعون معه, دلالة على أن المصالح المادية هى التى جمعت بينهما, برغم اختلاف عروقهما وأنسابهما (انتهى كلام الدكتور/يوسف القرضاوي).
0 أدوات الاستبداد:
لابد للاستبداد من أدوات للترهيب والترغيب حتى تخضع له الرقاب ويسلم له العباد (أو العبيد) إرادتهم وخياراتهم.
والمستبد يعرف جيداً مواطن ضعف البشر ويحاول استغلالها بأبشع الطرق وأكثرها حقارة ودهاءاً فى نفس الوقت. ونذكر من هذه الأدوات حسب ترتيب أهميتها:
1- السلطة: فالأب المستبد يستغل نفوذه المالي وقوته الجسدية ومكانته المعنوية فى قهر أبنائه, والزوج المستبد يستغل حق القوامة(كما يفهمه) ويستغل تفوقه العضلي وربما المالي في إذلال زوجته ووأدها, والمسئول المستبد يستغل ما يملك من صلاحيات للتحكم فى رقاب مرؤسيه, والحاكم المستبد يستغل جنوده(الشرطة والجيش) لإرهاب رعيته ويستغل النظام السياسي الموالى له لإضفاء الشرعية على أفعاله وتجريد خصومه من تلك الشرعية ووصفهم بالتآمر والخيانة والإفساد في الأرض وتعكير صفو الأمن.
والقرآن يصور هذا الموقف فى قوله تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} [القصص 8]. وقوله {فأخذناه وجنوده فنبذناهم فى اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} [القصص40].
2- المال: ومن لا يصلح معه الترهيب بالسلطة يصلح معه الترغيب بالمال, ولهذا يحرص المستبد على إمساك الثروة فى يده لتكون وسيلة ضغط على من تحت يده ووسيلة ترغيب وشراء ذمم.
3- المناصب: ينتقى المستبد من بين الناس أولئك المتعطشين للمناصب والراغبين فى العلو بأى ثمن فيستخدمهم ويستعملهم كدروع له وكأدوات لحمايته وتبريد أفعاله وتمجيده وتحلية صورته أمام العامة.
4- الإعلام: فالمستبد يحتاج لمن يدارى سوءاته ويزين عوراته ويسوق مشروعاته وأفكاره بين الناس ويبرر أخطائه ويحولها إلى انتصارات ويمارس الترييف للوعي والتخدير للعقول ودغدغة المشاعر طول الوقت. ومن هنا يمكن أن نعتبر الإعلاميين الموالين لأي مستبد بمثابة سحرة فرعون الذين كانت مهمتهم أن يسحروا أعين الناس بمعنى تزييف وعيهم.
5- رجال الدين: ونقصد بهم فئة معينة من رجال الدين يقبلون إضفاء شرعية دينية على فكرة الاستبداد وإضفاء شرعية على كل أفعال المستبد واستغلال المفاهيم الدينية لتبرير وتمرير كل ما يقوم به المستبد, وإصدار الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوى عنق الحقيقة لمصلحة المستبد. وكل مستبد يسعى إلى تقريب عدد من رجال الدين(حتى ولو كان هو ملحداً أو علمانياً) لمعرفته بقيمة الدين لدى الناس وتأثرهم به.
0 المستبد يصنعه الناس ومن حوله:
قد يبدو للنظر القصير أن مجموعة المحيطين بالمستبد ضحايا له إذ يعانون من استبداده ويتحملونه على مضض وهذا صحيح من جانب واحد أما الجانب الآخر فهو أنهم شاركوا فى صنع هذا المستبد, بعضهم شارك بالأقوال والأفعال التى ضخمت ذات المستبد (كالمدح والثناء والتبرير لكل صفات المستبد وأفعاله والمشاركة في تنفيذ مشروعات المستبد) وبعضهم الآخر شارك بالصمت والانكماش مما سمح لصوت المستبد أن يعلو عمن سواه وسمح لذاته أن تتمدد فى الفراغ الذى انسحب منه الآخرون كرهاً أو طوعاً.
ولهذا كانت قاعدة تغيير المنكر واجبة وفاعلة على مختلف مستويات القدرة من اليد إلى اللسان إلى القلب(والاستبداد من أخطر المنكرات): «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع, فبقلبه وذلك أضعف الإيمان » … “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.
وعلى الرغم من أن التغيير بالقلب يبدو هافتاً وضعيفاً إلا أنه مهم جداً حين يعجز الإنسان عن التغيير بالوسائل الأخرى(اليد واللسان) فبقاء الرفض القلبي للمنكر هو بمثابة بذرة للخير وجذوة للحق تظل كامنة إلى أن تتاح لها الظروف للنمو والظهور ولولاها لاختفى الخير وضاع الحق إلى الأبد. والناس يدفعون ثمن سكوتهم على الاستبداد مرتين مرة فى الدنيا ومرة فى الآخرة ففي الدنيا فساد وضياع ومعاناة وفى الآخرة عذاب شديد, وكأن الاستبداد خطيئة دنيوية وأخروية معاً.
عن جابر رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجْره: «أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب» قال وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدى, لا يهدون بهديى, ولا يستنون بسنتي, فمن صدقهم بكذبهم, وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ولست منهم ولا يردون على حوضي, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم, أولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي» (رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح, كما في إلى الترغيب للمنذرى, والزوائد للهيثمى5/247) .
وعن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: «إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم, فقد تودع منهم» (رواه أحمد فى المسند, وصحح شاكر إسناده (6521) ونسبه الهيثمى للبزار أيضاً بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح 7/262, والحاكم وصححه ووافقه الذهبى 4/96).
النموذج المثالي للاستبداد (Prototype ):
نعتد في علم النفس بما يسمى النموذج المثالى أو الأصلي وهو نموذج تتوافر فيه كل الأركان أو أغلبها على الأقل بحيث يصبح أصلح النماذج للقياس عليه وضرب المثل به, فهو يمثل ظاهرة معينة فى أوضح وأتم صورها ومعانيها.
وإذا جئنا إلى موضوع الاستبداد نجد أن النموذج المثالى له يتمثل فى قصة فرعون التى وردت فى الكتب السماوية ووردت بقوة فى القرآن الكريم وتكررت 74 مرة فى 28 سورة من سور القرآن.
وهذا الحضور القوى المتكرر لقصة فرعون يشير إلى أن ما تمثله هذه القصة من استبداد يعتبر مرضاً عضالاً تحتاج البشرية لمواجهته, وهذا ما أيده التاريخ فى كل مراحله فلم يحدث أن عانى البشر من شئ مثل معاناتهم من الاستبداد بصوره ومستوياته المختلفة.
وفرعون أصبح علماً على الاستبداد وقائداً معلماً لكل المستبدين من بعده فقد {علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم. إنه كان من المفسدين} [القصص:4], فالمستبد مستعلٍ متكبر طاغٍ يستضعف من يشاء يذبح الذكور ويستحى النساء ويفسد فى الأرض.
وربما كان فى ذبحه للذكور دلالة نفسية خاصة فالمستبد يخشى الرجال (الذكور) ويتوجس منهم خيفة لذلك يحيط نفسه بمن يقبلون التخلى عن رجولتهم, فهو يقوم بخصاء أو قتل الذكور حتى لا ينافسه أحد منهم ولا يرفع رأسه أحد.
وإذا غاب الرجال المنافسون أصحاب الكرامة والشرف والعزة قام بعد ذلك باستباحة النساء والإفساد فى الأرض كما يحلو له. واستباحة النساء هنا تجمع فى طياتها كل انواع الملذات التي يحرص عليها المستبد, والإفساد من قتل ونهب وسرقة وتشريد وكذب… إلخ
وعلى الرغم من حذر المستبد(فرعون, أي فرعون) ويقظته وحرصه على التخلص من كل الرجال المنافسين أو المهددين لملكه إلا أن هذا الحذر لا يمنع نفاذ مشيئة الله فى انهيار ملكه وتمكين أولئك الذين استضعفهم وأذلهم:{ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين, ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص:6,5] .
وفرعون وجنوده كأي مستبد يستخدم التعذيب ليرهب الناس {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} [البقرة :49]، وفرعون يجلب على قومه الشح والفقر{ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} [الأعراف: 130].
وفرعون يبنى مجداً زائفاً قضت مشيئة الله أن يدمر{ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} [الأعراف:137].
وفرعون وحاشيته لا يؤمنون بآيات الله حتى وإن تظاهروا بالإيمان وتوشحوا بالدين {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله} [الأنفال: 52] ولسان حالهم يفضحهم فأفعالهم توحي بتكذيب آيات الله {كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم} [الأنفال:54]. ومصير فرعون وأعوانه الهلاك {فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون}[الأنفال:54].
وفرعون لا يتورع عن استخدام كل الوسائل للدعاية لنفسه وتزيين صورته فلكل فرعون سحرة (إعلاميون) يمارسون تزييف وعى الناس وإبهارهم بالصورة أو بالكلمة أو بالفعل{وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم} [يونس:79].
وفرعون يحرص على تخويف الناس وفتنهم {على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} [يونس:83]. وفرعون يستعلى دائما فى الأرض ويتسم بالإسراف والطغيان وتجاوز كل الحدود {وإن فرعون لعالٍ فى الأرض وإنه لمن المسرفين} (يونس:83).
وفرعون يحرص على التحلى بمظاهر الزينة والفخامة ليحيط نفسه بهالات الملك والعز ليبهر بها أعين الناس ويحرص على امتلاك المال ليضمن به النفوذ والقدرة ويستخدمه فى شراء الذمم {وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً} [يونس:88].
وفرعون لا يهدأ ولا ينام بل يتتبع أعداءه أينما ذهبوا بعيونه وببطشه {وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده} [يونس:90]. وفرعون يفتقد للرأي الرشيد {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}(هود:97).
وفرعون لا يتردد أن يلصق التهم بمعارضيه لينفر الناس منهم {فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً}(الاسراء: من الآية101). وفرعون طاغ ومتجبر ومتجاوز كل الحدود فى الظلم{ اذهب إلى فرعون إنه طغى}[طه:24]. وفرعون لا يكف عن المكر والتدبير وحشد كل إمكاناته للدفاع عن ملكه والاستعراض لقوته لإرهاب معارضيه {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى}[طه:60].
وفرعون ينحرف بقومه عن الجادة ويضلهم عن سواء السبيل {وأضل فرعون قومه وما هدى}[طه:79]. وفرعون وأعوانه لا يكفون عن ظلم الناس لدرجة أن الظلم أصبح أحد صفاتهم المشهورة {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} (الشعراء:10و11). وفرعون يتنكر لوجود رب العالمين لأن طغيانه جعله يعتقد أنه أعلى قوة فى الأرض {قال فرعون وما رب العالمين} [الشعراء:23].
وفرعون يشترى كل شئ بالمال {فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجر إن كنا نحن الغالبين} [الشعراء41]. وفرعون يوهم أتباعه أن له أسرار ومعجزات وقدرات هائلة{فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} (الشعراء:44). وفرعون يتسم بالفسق والخروج عن طريق الحق {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}(النمل: من الآية12).
إن فرعون وهامان وجنودهما {الطاغية المتكبر والسياسي الوصولي وقوتهما العسكرية الباطشة} يمثلون ثالوثاً شيطانياً {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}(القصص: من الآية8)
وفرعون لا يتورع عن إعلان ألوهيته بشكل مباشر أو غير مباشر {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (القصص:38).
ويتشكل ثالوث شيطاني آخر من فرعون (الطاغية المستبد) وهامان (السياسي الوصولي الداهية) وقارون (صاحب رأس المال الجشع) يقول تعالى:{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}(العنكبوت:39).
وفرعون لا يتورع عن قتل معارضيه (تصفيتهم جسدياً أو معنوياً) أو محاولة قتلهم ظناً منه أن ذلك سوف يحل المشكلة{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر:26) وفرعون يحرص على حجب الرؤية والمعرفة والحقيقة عن شعبه حتى ينفرد وحده ببرمجة عقولهم وتزييف وعيهم {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: من الآية29).
ويظن فرعون أنه قادر على كل شئ, ويخدعه وزيره هامان ويوحى له بأن كل شئ ممكن وأن كل شئ رهن إشارته {وقال فرعون يا هامان أبن لى صرحاً لعلى أبلغ الأسباب}[غافر: 36].
وفرعون من كثرة ما مارس الكذب والخداع يقع هو فى نفسه فى شرك ا لأوهام فيصدقها ويعانى هو نفسه من تزييف الوعي {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}(غافر: من الآية37).
وفرعون لا يصل إلى شئ فى النهاية, فقد انهار كل فرعون على مدى التاريخ وما كيد فرعون إلا فى تباب،{فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب} [غافر: 45].
وفرعون لا يلقى جزاءه فى الدنيا فقط بل ينتظره عذاب شديد فى الآخرة, ليس هو وحده بل كل من انتسب إليه أو عمل معه{ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر:46). ودخول فرعون وأعوانه أشد العذاب يدل على فداحة جريمة الاستبداد وما تفرع عنها من جرائم.
وفرعون مغتر بملكه ويظن أنه دائم وأنه يحميه {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (الزخرف:51).
وفرعون وأعوانه في كل العصور لا يعتبرون بما يصلهم من رسائل إنذار فيتجاهلونها رسالة وراء أخرى حتى يلقون المصير المحتوم{ ولقد جاء آل فرعون النذر• كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42.41].
وبعد فقد كانت هذه هى صورة وخصائص فرعون فى القرآن كنموذج مثالي لطبائع المستبد وخصائص الاستبداد.
0 أكذوبة المستبد العادل:
شاع مفهوم المستبد العادل فى المجتمعات الإسلامية وذلك نظراً لافتقادهم حتى مجرد الحلم بالشورى أو الديموقراطية فرضوا بالاستبداد ولكن تمنوا أن يكون المستبد عادلاً, وراحوا يستدعون نماذج تاريخية يؤيدون بها هذه الفكرة وصورت لهم عقولهم أن عمر بن الخطاب أو غيره من خلفاء المسلمين أقرب ما يكون إلى هذا النموذج, فهو يمارس حكماً فردياً ولكنه منضبط بضوابط العدل والشرع.
ويؤيد هذا المفهوم أكثر بعض التيارات الإسلامية التى تتشكك فى الديموقراطية ونسبها وأصلها وجدواها وتعتبرها من ممارسات الكفار, وتقف من الشورى موقفاً خاصاً إذ تعتبرها معلمة لا ملزمة بمعنى أن الحاكم يستشير من حوله ليعلم آراءهم فقط ثم يقرر ما يريد هو.
ونحن هنا لسنا فى مجال تفنيد هذه الآراء أو محاكمتها أو تقييمها من الناحية التاريخية أو الدينية وإن كانت فعلاً تحتاج لكل هذا, ولكننا سنلتزم بمناقشة مفهوم «المستبد العادل» من الناحية النفسية فنجد أن هذا المفهوم خاطئ من بدايته فبمجرد أن أصبح الإنسان مستبداً انتفت عنه صفة العدل فوراً, لأن استبداده يعنى انفراده وتعاليه واستئثاره بالرأي, ويعنى احتقاره للآخرين واستخفافه بهم واعتباره أنهم غير جديرين بالاستشارة فضلاً عن المشاركة وهم لا يصلحون فى نظره إلا للتبعية والتلقى والطاعة العمياء لما رآه فهو يقول لهم كما قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى, فأي عدل يكون بعد ذلك لدى هذا المستبد. وهذا المستبد يتنكر لما لدى الآخرين من عقل وحكمة ومهارة وكفاءة فيهدر كل هذا لحساب عقله هو وحده, فأي جريمة يرتكبها حينئذ.
ولذلك نربأ بعمر بن الخطاب رضى الله عنه عن هذه الصفة, فقد كان حازماً قوياً فى الحق ولم يكن أبداً مستبداً, ويكفى أن نستدل على ذلك بالبيان الأول الذى شرح فيه منهجه للحكم حين قال:[ أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجا فليقومني فقال له رجل «والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا، فقال عمر: «الحمد لله الذى جعل فى المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بحد سيفه»], وهو الذي عارضته امرأة فى مسألة تحديد المهور فقال: «أصابت امرأة وأخطأ عمر». ولم يشأ عمر -وهو على فراش موته– أن يفرض على المسلمين خليفة بعينه وإنما وضع آلية للاختيار وترك للناس اختيار من يرونه صالحا. وكان دائم الاستشارة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا برأيهم.
فالاستبداد ينفى العدل تماماً, فهما ضدان لا يجتمعان فى شخص أو فى مجتمع.
العلاج:
إن علاج أى مرض يبدأ بالتشخيص الصحيح المبنى على أحدث ما وصل إليه العلم فى هذه المرحلة, ويلي ذلك مصارحة المريض بمرضه حتى يتعاون فى مراحل العلاج المختلفة, وفى حالة رفض المريض للعلاج فهنا أحد احتمالين: إما أنه يريد أن يزيد عليه المرض حتى يموت أى أن لديه ميول انتحارية خفية, أو أن هذا المريض فاقد للقدرة على الاستبصار بمرضه وهنا يتدخل العقلاء المحيطون به لعلاجه رغماً عنه حتى لا يكون بؤرة مرضية ينشر المرض في المجتمع الإنساني.
والعلاج لمرض خطير مثل الاستبداد لا يكون بالبخور والتمائم والشعوذة والزار ولا يكون علاجاً شعبياً غامضاً, وإنما يكون علاجاً على أسس علمية يسير على محاور أربعة:
1- إعلاء قيمة الحرية فى النفوس:- خاصة وأن موضوع الحرية لم يأخذ مكانه اللائق به فى الفكر العربى والإسلامي, ويبدو أن العلماء قد عزفوا عنه خوفا من بطش الحكام في المراحل المختلفة من التاريخ الإسلامي وانصرفوا إلى مناقشة مسائل فقهية وخلافات مذهبية لا ترقى إلى مستوى قيمة الحرية, أو أن التهديد الخارجي المتتابع(الصليبي والتترى والإنجليزي والفرنسي والإيطالي والإسرائيلي والأمريكي) قد أدى إلى تأجيل النظر في موضوع الحرية لحساب الحشد فى مواجهة الأخطار الخارجية, وربما يكون المستبدون الداخليون قد استفادوا من هذه الظروف لتبرير استمرار استبدادهم. على أية حال فقد وجب إعادة موضوع الحرية إلى أعلى مستوى من الوعي العربي والإسلامي وعدم الإلتفات إلى أي مبررات للتأجيل أو التهميش.
ونحن نقصد أن تنتشر ثقافة الحرية على كل المستويات كما ذكرنا من قبل حتى لا يختزل الأمر إلى المستوى السياسي فقط كما يحدث دائماً.
2- إعلاء قيمة المساواة (المواطنة): فالكل شركاء فى الوطن(بحق وحقيق), ولهم الحق قي التفكير والتخطيط والتنفيذ لصالح هذا الوطن, ونقصد هنا بالكل, كل الناس على إختلاف ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم وهذا هو اصل مبدأ التعددية الذى هو الضمان الوحيد لأمن وسلامة المجتمع, حيث أن التمييز العنصري واستبعاد أو تهميش أو إلغاء أي طائفة أو مجموعة يؤدى بالضرورة إلى نمو تيارات عدائية تحتية تهدد أمن واستقرار الوطن بأكمله.
فالديموقراطيات الحديثة أعطت فرصة التمثيل والعمل حتى للتيارات المتطرفة. وهذا فى حد ذاته صمام أمان حتى لا تعمل هذه التيارات سراً, بالإضافة إلى أن العمل العلني يرشد ويحد من التطرف. والمساواة تتضمن فى طياتها قيمة العدل فما دام الناس متساوون إذن فلهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
ومبدأ المساواة يتضمن حقيقة أنه لا توجد فئة مميزة تملك وتحكم طول الوقت وتستبعد وتعزل باقي الفئات وتصمها بالانحراف أو الخيانة للوطن, فالمجتمع الدولي والإنساني لم يعد يحتمل هذا التمييز العنصري في القرن الواحد والعشرين, ومن يصر على التشبث بهذه الأفكار العنصرية المتحجرة فسوف يدهسه قطار التاريخ وسوف ينظر إليه على أنه بؤرة صديدية تستحق الإجتثاث, والوقت لم يعد يحتمل المناورات أو الالتفافات فالأوطان ملك لأبنائها جميعاً, ولم يعط أحد الحق لفئة معينة لتكون وصية على باقي أبناء وطنها تمنح من تشاء وتمنع عمن تشاء وتصف من تشاء بالمروق.
3- وجود آلية مناسبة للتطبيق: ويجدر هنا أن نشير إلى الديموقراطية كنظام وآلية لتحقيق المساواة, حيث ثبت من تطبيقها فى المجتمعات الأخرى قدرتها (النسبية) على تحقيق الكثير من قيم الحرية والمساواة. والديموقراطية ليست هي النظام الأمثل لتحقيق الحرية ولكنها هي أفضل مال وصل إليه الفكر السياسي البشرى لتحقيق مبادئ الحرية وهى بالتالي قابلة للتطوير والتغيير مع استمرار نضج العقل البشرى, فهي في النهاية ليست نصوصا مقدسة.
وربما يعلن البعض أن الديموقراطية نظام غربي ولا يصلح لنا, والرد على ذلك هو أن الديموقراطية ما هى إلا آلية لتحقيق الهدف مثل التليفون الذي يتيح لك الاتصال ومثل السيارة التى تتيح لك السفر, فالآليات تستخدمها لتحقيق أهدافك وليس لها دخل فى عقيدتك وأخلاقك وعباداتك, ومع هذا إذا تطورت مجتمعاتنا وأصبحت قادرة على صنع آلية افضل للشورى فلا بأس فى ذلك فنحن أشبه بمريض يحتاج للعلاج فوراً والعلاج هنا ليس له جنسية المهم أنه يؤدى للشفاء طالما أنه ليس محرماً, ولو أصبح لدينا مصانع محلية للدواء تنتج دواءاً أفضل من المستورد لوجب علينا إستخدام دواءنا. وعدم وجود آلية كان هو السبب الرئيس في أننا ندور حول أنفسنا منذ مئات السنين فنحن نتشدق بالحرية وبالمساواة وكتبنا الدينية وغير الدينية مليئة بالمبادئ العظيمة, لكننا نتوقف عند الأفكار والوجدانيات ولا نحولها إلى مشروعات سلوكية ولا نبحث لها عن آليات تطبيق ووسائل تقييم.
ولقد وردت آيات الشورى في القرآن مجملة وترك الله لنا كبشر إيجاد الآليات المناسبة لتحقيقها بما يتناسب مع تطور المجتمعات البشرية, ولو كانت قد وضعت آلية محددة وثابتة لما ناسبت المجتمعات المختلفة في المراحل التاريخية المتعاقبة. ولذلك وجدنا آليات متباينة مثل رأى أهل الحل والعقد, والبيعة وغيرها, وترك الأمر لمزيد من الإجتهادات. ولم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمى خليفته من بعده صراحة وإنما ترك اختياره للناس وقد تم ذلك بالبيعة, وكان اختيار كل خليفة بعد ذلك بآلية ناسبت الظروف التي أحاطت بتوليه وفى هذا إشارة إلى ترك الآلية للاجتهاد البشرى بما يلائم ظروف الزمان والمكان.
ومن خلال خبرات التاريخ المتعاقبة ونمو الفكر البشرى الاجتماعي والسياسي وجد الناس ضرورة أن يكون هناك نظاما ثابتا ينظم ويكفل تطبيق مبادئ الحرية والعدل والمساواة ويحول في ذات الوقت دون انقضاض أي مستبد مغامر على هذه القيم الأساسية في حياة البشر, وكان هذا النظام هو الديموقراطية .وربما يجد البعض حساسية خاصة في تطبيق نظام غربي في المجتمعات الإسلامية خاصة أن مرجعية الديموقراطية هي الشعب ومرجعية المجتمعات الإسلامية هي الكتاب والسنة, وهذه إشكالية يجب مناقشتها بصدر رحب وإيجاد الحلول المناسبة لها مع الحذر من الإنقاص من قيمة الحرية تحت دعاوى الخصوصية الثقافية(راجع مناقشة هذه الإشكالية وغيرها فرى كتاب “حوار لا مواجهة للدكتور/أحمد كمال أبو المجد, إصدار الهيئة العامة للكتاب, مكتبة الأسرة 2000, وكتاب فتاوى معاصرة للدكتور/يوسف القرضاوى, إصدار دا ر الوفاء للطباعة وا لنشر بالمنصورة).
4- وسائل تقييم الإصلاح: عندما نعالج أى مرض فلابد لنا من علامات ومحكات ومقاييس توضح لنا مدى التحسن أو عدم التحسن بعد استخدام العلاج. وهذه أيضاً آلية نفتقدها فنحن لا نهتم أبدا بالرؤية المرتجعة أو التقيم المرتجع Feed back لأي نشاط قمنا به, وهذا التقييم المرتجع هو سر كبير من أسرار الحضارة لأنه يتيح الفرصة للمراجعة والتطوير والتحسين على أسس علمية.
5- الإيمان بروح الفريق ومنظومات العمل: فقد عشنا دهراً نطرب للبطولات الفردية ونصفق لها ونصنع لها الملاحم(عنترة بن شداد, أبو زيد الهلالي, سيف بن يزن, أدهم الشرقاوى) ومازلنا نعمل بشكل فردى ونفتقد روح الفريق ولمنظومات العمل, وقد أصبح واضحاً أن العمل كفريق والعمل من خلال منظومة(System) يعتبر سراً من أسرار التقدم والحضارة, وأن الإنجازات الفردية مهما عظمت فلن تصنع أمه أو حضارة وإنما تصنع مجداً شخصياً لصاحبها وربما بالإضافة لذلك أصابته بالنرجسية وصنعت منه مستبدا.
http://www.maganin.com/articles/articlesview.asp?key=168
http://www.maganin.com/articles/articlesview.asp?key=172
http://www.maganin.com/articles/articlesview.asp?key=174
http://www.maganin.com/articles/articlesview.asp?key=178
التعليقات مغلقة.