المثقفون والنرجسية ومرض الأنا
فائز الحيدر
من الأمراض النفسية التي لازمت الأنسان منذ قرون عديدة وحولته الى شخصية متصارعة الأفكار وذات حالة نفسية غير مستقرة هو مرض ( النرجسية والأنا ) ، هذا المرض الذي يعيش في نفوس الكثيرين من المثقفين العراقيين والعرب . ويمكن ملاحظة تأثير ذلك في علاقاتهم الأجتماعية والسياسية والدينية وفي الحوارات المتبادلة ، وما يطرحه بعض المثقفين من أفكار مختلفة على المواقع المختلفة خير دليل على ذلك .
لقد ساهمت الأنظمة السياسية المتعاقبة على الحكم والظروف الاجتماعية المعقدة التي مر بها بعض المثقفون وطيلة عشرات السنين في تثبيت وزيادة النرجسية ومرض الأنا وأصبح واحدا” من مظاهر السلوك اليومي للكثيرين منهم وبمختلف طبقاتهم الأجتماعية وثقافتهم ودرجاتهم العلمية بحيث انهى مشاعر التواضع والطيبة والمحبة لديهم ، حتى أصبح البعض منهم يمتلك شخصيات مزدوجة تظهر تحت واجهات دينية وعلمية وثقافية مختلفة وفي أوقات متباينة مدعين الحرص على الثقافة في بلدانهم . وأصبحت ظاهرة النرجسية والأنا والتعصب وعدم أحترام الرأي الأخر والسخرية مما يكتبه البعض من آراء ومقالات ثقافية أوعلمية أوفنية أبرز ما تتصف به تلك الشخصيات المريضة بتعاملها مع الآخرين .
وعادة ما تظهر النرجسية والأنا في المجتمعات المتخلفة حيث البيئة الملائمة من عادات وتقاليد وقوانين متخلفة بالية عفا عنها الزمن ، فتربية الأطفال الخاطئة وطرق الدراسة ومناهج التعليم القديمة التي لا تتناسب مع روحية العصر ، وحضور الأماكن المقدسة ودور العبادة ودواوين العشائر والملالي والمقاهي والنوادي الليلية حيث الأحاديث المطولة قد ساهمت بشكل مباشر او غير مباشر في زيادة حب الذات وتظخيمه والتفاخر به وفي تحويل بعض القصص الخيالية المتوارثة والأساطير إلى تقاليد وعادات يسير عليها المجتمع واصبحت بمرور الزمن أعراف أجتماعية وتقاليد دينية مقدسة يوجب الألتزام بها أجتماعيا” وأنطبعت في شخصية المثقف المريض بالأنـا .
وبما ان المثقفين هم شريحة اجتماعية ضمن فسيفساء المجتمع المتنوع وعاشوا طيلة عشرات السنين في مجتمعات متباينة فقد تأثروا بشكل مباشر بمرض النرجسية بغض النظر عن أعمارهم او ثقافتهم او درجاتهم العلمية واصبح هذا المرض صفة ملازمة لشخصية العديد منهم وهذا هو أحد أسباب الخلافات التي تظهر هنا وهناك خاصة عند تبادل الرأي وطرح الأفكار الجديدة على المواقع المختلفة ..
النرجسـية والأنـا
تبين الموسوعة الحرة ( ويكيبيديا ) أن النرجسية ( Narcissism) نسبة الى نارسيس ( Narcisse ) الفتى اليوناني الذي ورد ذكره في الاساطير اليونانية . كان فتى رائع الجمال ، نظر الى صورته ذات مرة في ماء البحيرة ، فراعه جماله وشغله عن العالم فعكف على الصورة يتأملها . واطلق اسمه بعد ذلك على كل من يركز اهتمامه على ذاته او يجعل نفسه بقيمها ومشاعرها مركز العالم .
أما في الميثولوجيا الإغريقية ، كان نرسيس طفلاً جميلاً جداً ، فأمه كانت إحدى الحوريات ، وأبوه كان النهر. ويتنبأ له تريزياس العراف بأنه سيعيش طويلاً بشرط ألا يعرف ( يرى) نفسه . وذات يوم يغريه أحد أعدائه بأن يتوقف عند بحيرة ليشرب فيرى نرسيس وجهه منعكساً على سطح البحيرة ، فيذوي ويموت ويتحول إلى زهرة النرجس التي أصبحت منذ ذلك الوقت رمزاً للحب بغير قلب أو دلالة الى العاطفة غير الصادقة .
من هنا جاءت التسمية في اللغة العربية ( النرجسية ) ، ( أي الحب المرضي للذات ) …. ويؤكد علماء النفس ان الحب يبدأ عند الأنسان في مرحلة الطفولة المبكرة مركزا” على الام وعندما يكبر قليلا” تتوزع دائرة ذلك الحب على الاخرين مثل الاب والاخوة وهكذا يبدأ الطفل يتعرف على نفسه عن طريق المرآة وبدعم الأم التي تبالغ عادة في المديح والثناء على طفلها لجماله او بتفوقه وابداعه في مجال معين ويظل يتأمل في المرآة مفتوناًً بصورته فتزداد ذات الطفل ويشعر بحب كبير لذاته ويشعر بالكمال في كل تصرفاته فينتابه الغرور والتعالي على الاخرين وعدم أحترامهم مما يسبب للطفل مشكلات نفسة تنعكس سلبيا” على شخصيته وعلى المجتمع ويدعى الطفل عندئذ بالنرجسي .
لقد أعطى علم النفس بشكل عام والطب النفسي بشكل خاص اهتماما” خاصا” بالنرجسية دون سواها من العلوم . حيث يرجع اهتمام علم النفس بالنرجسية الى عام 1905 على يد العالم الشهير فرويد . الذي نشر عام 1914 مقالة عنوانها ( مقدمة في النرجسية ) وفيها وصف النرجسية بمعاني عديدة منها :
( تتميز الشخصية النرجسية بالتعجرف والنقص في التعاطف مع الآخرين و فرط الحساسية تجاه آراء الآخرين . فهم لا يستطيعون تقبل آراء الآخرين بأي شكل من الأشكال دون أن يتركوا الآخرين يلاحظون ذلك ، ويسخرون بشكل غير مباشر من آراء واقتراحات الآخرين ، بل ويدعون أنهم يعرفون ما يفكر فيه الآخرين وأنهم ليسوا بحاجة إلى محاضراتهم . ويبالغ النرجسيون في إنجازاتهم وميزاتهم ومحاسنهم ويتوقعون من الآخرين أن يعترفوا لهم بالجميل بصورة خاصة ، سواء كان هذا الاعتراف مبرراً أم غير مبرر. ويستحوذ عليهم وهم النجاح والسلطة والتألق ويعتقدون أن وظيفتهم ضبط الأمور تحت سيطرتهم لأنهم على حق والآخرين على خطأ. (
أن النرجسية او حب الذات تعني تزايد حب الذات عند الشخص ليصل لدرجة الاعتداد بالنفس فيعجب بنفسه وبقدراته التي يعتقد انها لا تتوفر لدى أشخاص آخرين وصفاته النادرة …. فهو يطرح نفسه كما لو كان موسوعة علمية ( انسكلوبيديا ) عارفا” بكل شيء . فإذا كان اختصاصه النقد الأدبي مثلا” ، تحدث في علم النفس وكأنه العالم فرويد .
النرجسي يملك شعور غير عادي بالعظمة وحب الذات ، والبحث وأختيار أوصاف تدل عليه ، منها مثلا” ، إذا كان أكاديميا” يحمل لقب ( الأستاذ ) فهو لا يقبل منك أن تخاطبه بمفردة ( أستاذ ) إنما يجب مخاطبته ( بروفيسور ) ، وكأن لقب ( أستاذ ) يقلل من مكانته ، فيما لقب ( بروفيسور ) تعني بالنسبة له التميّز والاعتبار ، وهذا ما لا نلاحظه في الدول المتطورة والتي يعيش فيها الكثير من المثقفين فالألقاب عادة ما تستعمل في مجالات العمل فقط اما خارجه فينادى صاحب الشهادة ومهما كانت بأسمه فقط وهذا ينطبق بالتأكيد على حملة لقب دكتور أو مهندس أو غيرها . ولذلك نرى ان ظاهرة النرجسية لا يمكن ملاحظتها إلا في البلدان المتخلفة .
يعتبر المثقف النرجسي نفسه شخص نادر الوجود وانه من نوع خاص لا يمكن أن يفهمه إلا نخبة خاصة من المثقفين بمستواه وينتظر من الآخرين احترامًا خاص لشخصه وأفكاره ، وهو عادة ما يستغل الآخرين و يستفيد من مزاياهم وظروفهم في تحقيق مصالحه الشخصية ويلجأ الى طرق ملتوية من أجل الحصول على المناصب لتحقيق أهدافه الشخصية.
كما ان النرجسي لا يهتم بما يحيط به ويعتقد أنه على دراية كاملة بما يحدث بالعالم ، وأن ما يملكه من معارف علمية وثقافية هي نهاية الكون ، وبذلك تتحول حالة ( الأنا ) الى حالة مرضية دون ان يشعر بها . ولو نظرنا لحال المثقفين لوجدنا ان النرجسية وثقافة الأنا قد طغت على الكثيرين من الذين يحملون ألقابا” شتى ويدعون العلم والثقافة ولكنهم لا يفسحون المجال لطرح الأفكار المتباينة ومناقشتها ويكتفون بالنقد في امور تخص الثقافة ومستقبلها .
يبين الدكتور محمد الصغير استشاري الطب النفسي ان الشخص المعجب بنفسه يميل إلى الغرور والتباهي والكبرياء ويتطلع للفت أنظارهم بأي إنجاز يقوم به ويتفنن في استعراض أعماله وأحواله ويكثر الحديث حول ذلك بمناسبة وبدون مناسبة ويهتم بالشكليات والمظاهر وإذا أصاب هذا المرض الفنان على سبيل المثال يتنامي الشعور لديه بأنه البداية والنهاية في تاريخ الفن ، كذلك إذا هو أصاب أديبا” تنامى الشعور لديه بأنه البداية والنهاية في عالم الأدب وهكذا في بقية الأختصاصات .
وغالباً ما يعاني النرجسيون من الغيرة من الناس الذين يعتبرونهم أكثر نجاحاُ منهم ويحاولون وضع العراقيل في طريقهم إذا ما أحسوا أنهم أكثر نجاحاً منهم ، ويسخرون من آرائهم ويقللون من قيمتها وأهميتها أو يشككون بنوايا الآخرين وأهدافهم ، هؤلاء الأشخاص يعتبرون في الطب النفسي مرضى ( لديهم اضطراب في الشخصية ) وإنهم يعانون داخلياً من عدم الاستقرار النفسي والقلق واضطراب بالشخصية ويتفاعلون مع النقد الموجه لهم أو سماع الرأي المخالف لهم بغضب وبأنفعال شديد وخاصة عندما لا يتحقق ما يصبون له . أما علاقتهم مع الاخرين فينقصها المحبة والود والأحترام .
أن النرجسية وثقافة الأنا التي يحملها البعض هي بالتأكيد تعبر بشكل مباشر او غير مباشر عن ثقافة الكراهية ، التي تهتم بتحطيم الأخر والقتل الثقافي وهي ثقافة التعالي ، ثقافة انتهاك الأخر وقيمه الفكرية والروحية ، ثقافة تدعوا زوال ما يملك الأخر من إمكانيات وأفكار ومبادئ ، ثقافة تنكر حق الأخر في التعبير عن رأيه بحرية .
يقول الفيلسوف جون بول سارتر(( الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي وهو مفتاح لفهم ذاتي والاحساس بوجودي )). ولذلك الحوار مع الآخر هو اكتشاف لثقافة الأنا ومعرفة الثغرات والنواقص التي لا تخلو منها شخصية انسانية . وبما ان التنوع في الأراء هو طبيعة أنسانية لذلك فان الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدي الي الاختيار الحر لللآراء والى التفاهم والوحدة والمحبة والتعاون ..
ان لثقافة الحوار آدابا” وقيما” ومنهجا” يحترم الانسان وحريته في الاختيار كما يحترم حقه في الاختلاف. ان الحوار هو الباب الذي سيفتح امامنا الكثير من الابواب في مواجهة العنف والعدوان والتطرف…
وبهذا الصدد نرى العديد من المثقفين في داخل الوطن وخارجه وممن يملكون النرجسية والأنا والذين يدعون الثقافة والعلم يرفعون شعارات براقة مثل التكاتف والتسامح وأحترام الأخر وأفكاره ، ولكن عادة ما تكون تلك الشعارات سوى جمل وعناوين عريضة فارغة فقط , لأنهم ليسوا مؤهلين بعد لرفع هذه الشعارات ، فمن ينادي بهذه الشعارات لابد وان يكون مشبعا” بثقافة الأخر بسيطا” محبا” متواضعا” بعيدا” عن التعالي والتعصب والنرجسية وحب الأنا ويحترم الأخرين وهذا ما نفتقده فيهم مع الأسف .
من هنا ندعوا كافة الأخوة المثقفين إلى التواضع والأبتعاد عن التكبر والتعصب والنرجسية وأحترام الرأي الأخر والحوار الحضاري المتبادل ، فالحوار يتطلب وجود الطرف الآخر وهذا لا يتم إلا بالأبتعاد عن مرض الأنا ، وبالتالي كلما ترفع الانسان عن انانيته كلما اوجد في ذاته مكانا” رحبا” للآخر . لأن الحقيقة ليست في الأنا . انها تتكامل مع فكر وآراء الآخرين
http://www.mandaeanunion.org/Views/AR_Views_618.html
التعليقات مغلقة.