لماذا قويت الثورة المضادة في تونس: بقلم أبو يعرب المرزوقي
كيف نفهم تردي النخب العربية ترديا حال دون من ولتهم الصدف قيادة مرحلة مابعد الثورة في أقطار الربيع العربي دونهم وإدراك المعطيات الجغرافية السياسية والحقائق التاريخية الحضارية فأهملوا المشروع الحضاري الطموح مشروع تحقيق الشروط التي تعيد الأمة إلى التاريخ الكوني وقصروا همهم في ما يزيدها تقزيما وابتعادا عن طموح أجيال النهوض والصحوة ؟ ما الذي يجعل قيادات الأمة في الأنشطة المقومة للوجود الإنساني في دويلاتها مقصورا همها على ظاهر من السلطان بأي ثمن حتى وإن أدى ذلك إلى مزيد الغرق في التبعية لمستعمر الأمس ؟
أحاول معالجة هذه المسألة بالانطلاق من الوضعية التونسية مثالا عينيا من الوضعيات العربية الأخرى. فتونس هي القطر العربي الذي بدأت فيه ثورة الربيع العربي بداية عللناها في أحد البحوث السابقة بمآل عملية التحضير المستبد. ذلك أن هذا التحضير المستبد بدأه الاستعمار و واصلته دولة الاستقلال فعمقت التبعية بصورة لم يكن الاستعمار نفسه يتخيل إمكانها. أصبحت التبعية تبعية بنيوية بعد أن كانت ظرفية في عهده: فهي قد صارت بعد الاستقلال تبعية مضمونية تشمل بعدي مادة العمران (الاقتصادي والثقافي) كما صارت تبعية شكلية تشمل بعدي صورة العمران (السياسي و التربوي). ومن ثم فهي قد آلت إلى غاية المأزق التاريخي الذي تعيشه بلاد العرب أعني الأزمة الحضارية التي هي أصل هذه التبعيات جميعا لكونها تمثل ما يشبه فقدان المناعة الروحية أو غريزة التهديم الذاتي.
وما كنت لأسهم في العمل السياسي لو لم أكن أتصوره علاجا لهذه التبعية. و ما كنت لأغادر العمل السياسي بلا رجعة لو بقي لي أدنى أمل في أن النخبة الحاكمة أو المعارضة في تونس تؤمن بجوهر الإشكال الذي تعاني منه الأمة أعني هذه التبعيات الأربع وأصلها أو بكلمة واحدة انحطاط الأمة. فبدون نخب تؤمن بمبادرة الإبداع المادي وشروطه وبمبادرة الإبداع الرمزي وشروطه وبجمع ذلك كله في تشكل تربوي وسياسي للكيان التاريخي للأمة لا فائدة من العمل السياسي الذي بات مشروطا بأن يتحول الحاكم والمعارض كلاهما إلى متنافسين على ترضية من يستمدون منه شروط البقاء في الحكم أو الوصول إليه بالتسول المادي (للقمة عيش شعب ربوه على ذل الطلب وكراهة الجهد و التضحية) والتنازل الروحي (شرط المستعمر هو التخلي عن مقومات الوجود الحضاري المستقل لكي يبقى على الحياة الاصطناعية للكيانات الهزيلة التي خلفها عندما أزال وحدة المكان والزمان والسلم والدورة المادية والدورة الرمزية للأمة): لذلك عدت إلى المجال الذي يمكن أن يكون له دور في بناء الأمة بعد أن تأتي أجيال تؤمن بشروط النهوض الحقيقي غاية للصحوة التي أصبح من يدعون تمثيلها أبعد الناس عن السعي إليها.
وليست هذه الحال بالأمر الخاص بتونس ونخبها. إنها بدرجات مختلفة حاصلة في جل البلاد العربية إن لم تكن فيها كلها وهي متناسبة طردا مع التحضير المستبد في هذه المجالات جميعا. فالنخب العربية عامة ونخب تونس خاصة صارت بأصنافها الخمسة الاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية والفكرية بما يحصل فيها و بواسطتها عالة على غيرها فمستمدة شرعيتها ليس من شعبها بل من ترضية من يوليها عليه بمقتضى الشرطين اللذين وصفت. ومن ثم فهي أهم عرض من أعراض مرض فقدان المناعة الروحية في الحضارة العربية الإسلامية التي بلغت غاية أزمتها فأصبحت ممثلة لأزمة البشريةكلها: التبعية المطلقة في كل شيء منتسب إلى مضمون الحضارة (الاقتصاد و الثقافة) وشكلها (السياسة و التربية) إذ هي لا تسهم في الإنتاج المادي والرمزي و لا في السعي لتحقيق شروط إمكانه بل هي تعمل كل ما تستطيع لتحول دون الأمة وتحقيق هذه الشروط التي تمكنها من ألا تبقى رهينة لمنتجات الأمم الأخرى ومبدعاتها ومن ثم فاقدة لكل علامات الوجودالسيد.
وعندما أقدمت على المشاركة في مجريات الثورة كان دافعي الأساسي الظن بأن الربيع العربي يمكن أن يمثل اللحظة الحاسمة التي قد تكون بداية التعافي فتؤسس لعودة الوجود المستقل والقائم بالذات بما قد ينتج عنها من شروع في توفير شروط التحرر من التبعية في هذه المجالات جميعا و بأيدي من يدعون تمثيل النهضة والصحوة إذا سعوا فارتفعوا إلى مستوى التحديات. لكني وجدت الأمر على خلاف ذلك: صار من يدعي تمثيل النهوض والصحوة بسلوكه وفكره ممهدا لنجاح الثورة المضادة إذ هم قد جعلوا الشعب الذي ثار ضد الاستبداد والفساد يندم على فعلته. وبهذا المعنى فتونس تمثل المحرار الحقيقي للوضع العربي كله من خلال ما يجري من صراع بين من يدعون تمثيل الثورة وخصومهم من ممثلي الثورة المضادة.
علل الاقتصار على رد الفعل
سبق أن كتبت في موقف ممثلي الثورة المضادة انطلاقا من تحليل ظاهرة السبسي الذي اختاروه زعيما لهم قبل تأسيس نداء تونس وبعده تحليلها بتأويل حكايته التي بدأ بها حكمه: حكاية التارزي الروماني وكسوة خروتشاف. ثم وصفت في محاولة لاحقة هذه الظاهرة بكونها فقاعة سريعة الفقع لو تم التعامل معها بمنطق يزيل ما تستمد منه معينها. لكن تنافر الثالوث الحاكم كان بسبب مزاجه اللاطبيعي. فليس لحليفي النهضة أدنى وجود فعلي في وجدان الشعب لغياب المرجعية الواضحة فضلا عن ضآلة الحضور الانتخابي. وسلوك مكونات الثالوث غلبت على قياداته السذاجة وحتى الرعونة فمكنت فقاعة السبسي الجوفاء من التحول إلى دمل جمع قيح كل المراحل السابقة من تاريخ تونس الحديث دمل قد يعسر بطه وهو على كل حال من عوائق النجاح الأساسية لأن حماة الثورة عامة ومن أنابهم الشعب لحكمه أو لمعارضة حكمه في المرحلة الانتقالية خاصة ليسوا على درجة من بعد النظر فيفهموا مقولة: الحيلة في ترك الحيلة.
جانبوا كل رشد في الحكم. ومثلهم فعل المعارضون. لم يكون الحاكمون فريقا يمثل تونس بل اكتفوا بالمحاصصة في إطار ما عندهم أعني لا شيء تقريبا فزادوا في صلف المعارضة التي بلغ سلوكها صبيانيات الأبناء المدللين خاصة والزوج الثاني من بنية ما تمت عليه الثورة لا يزال يصول ويجول قصدت حليف الاستبداد والفساد في كل تاريخ البلاد قصدت قيادات الاتحاد العام التونسي لاستغلال البلاد والشغالين. لم يفهم الفريقان أننا فلو فرضنا أنفسنا أمام تحد رياضي مثلا وأردنا أن نكون فريق كرة لنيل كأس عالمية -والنجاح في المرحلة الانتقالية أهم ألف مرة من أي كأس عالمية-هل كان يكفينا أن ننتخبه من ناد محلي أم علينا أن نأخذ أفضل ما يوجد في كل نوادي تونس.وقد حاولت إبراز صحة هذه القاعدة في بيت الحكمة. وكان ذلك قابلا لأن يعمم على كل المؤسسات بما فيها مؤسسة رئاسة الحكومة التي كان يمكن أن تستفيد من فرصة وجود خمسة رؤساء حكومة أحياء فتدعوهم للإسهام على الأقل بالمشورة والنصح لجعل المرحلةالانتقالية تتم بأقل التكاليف؟
لم يستبقوا الأحداث ليعدوا لها ما يستطيعون.اقتصروا على رد الفعل والتباكي على الماضي بفريق لا يوحد بين عناصره شيء عدا شراهة التحكم والتسيد والكلام غير المحسوب العواقب بعيدا عن كل فاعلية أو نجاعة. وما كان يمكن أن يكون بالمبادرة الحرة دالا على القوة أصبح بالتنازلات المضطرة دالا على الضعف وطريقا سريعة للحط من مهابة الدولة والحكم فلم يعد لأحد قدر لدى أحد و باتت القانون العام في الإعلام والحياة العامة قانون السفاهة والبلاهة: كان يمكن أن يكون الفريق الحاكم في المرحلة الانتقالية مؤلفا من أفضل ما يوجد في تونس حسما للخلافات والتشخيصات المرضية وربحا للوقت واقتصارا على علاج مسائل الانتقال دون الشروع في أكاذيب الإصلاح والتطهير و المحاسبة وهلم جرا من الدعاوى الممتنعة على من بيدهم شرعية مؤقتة وجزئية فخلطوا توهما بين الشرعية الانتخابية النسبية وبين شرعية الثورة المتجاوزة لها لكونها شارطة لها و معدة لما يتجاوزها حتما.
لكن ذلك لم يحصل بل هم عملوا ما استطاعوا لإطالة عمر المخاض في المجلس وفي الحكومة وفي الرئاسة حيث سيطر التردد و التلكؤ والتعلل بالتشاور في أروقة أحزاب ليس لها من النظام الحزبي إلا الاسم لأنها في الحقيقة فرق ونواد أكثر منها أحزاب بالمعنى المعاصر للكلمة. فتعفنت الأعراض وتزمنت الأمراض وتفتت أشباه الأحزاب في الحكم وفي المعارضة وتذررت الساحة بدلا من أن يحصل تجميع القوى لربح الرهان الذي هو دولي ومحلي في آن: أدخلوا البلاد في المعارك الزائفة وواصلوا العناد والتعثر مع جهل المآلات ومنطق الأمور طنا منهم أن من ينصح بعدم المبالاة بالمعيقات العرضية و الذهاب المباشر للغاية بمنطق الحرب الخاطفة يتجاهل ما يحاولون التركيز عليه في حين أنه يعتبر وقت علاجه لم يحن بعد. وبذلك أسهموا في تقوية الخصوم خاصة بما صاحب علاجاتهم من الكبر وقصر النظر وعدم التراتب القيادي في خوض المعارك السياسية حتى بات كل من دب وهب متصدرا الإحاطة بصاحب القرار الذي صار محجوبا عن رؤية الأمور بالرأي السديد يتنازعه الناصح البليد والمنفذ غير الرشيد لكأنهم جوق قطط جائعة تتناهش بقايا الثريد.
إن رفض علاج الأمور بأسبابها وعدم التركيز على الهدف الأساسي- أعني النجاح في تحقيق الانتقال الديموقراطي بأسرع ما يمكن حتى يأتي من يطهر و يحاسب بالقانون و الشرعية التي تستمد من جعل ذلك مضمون البرنامج الانتخابي للنوبة القادمة من المجالس النيابي فيعيد البناء على أسس من شرعية أقرها الدستور الجديد- مع تعطيل السعي لتحقيق أهداف الثورة تشعيبا بالصراع مع عرضي العوائق مثل معضلات الدستور الخلافية وسخافة إعادة انتخاب هيئة الانتخابات وتعطيل الهيئآت الممكنة من تسيير المرحلة الانتقالية في الإعلام والقضاء وغياب الحصافة التي أدت إلى إهمال الشرط الأساسي للإنجاز المؤثر في الرأي العام أعني وضع الإجراءات الظرفية في الدستور المؤقت (الذي لا ندري من أشرف على صوغه السخيف شكلا ومضمونا) للتغلب على العوائق الإدارية الموروثة عن العهد البائد وإجراءاته القانونية الحائلة دون التسريع في العلاجات المتنوعة التي كان يمكن أن توصل إلى حل المشاكل الأربعة الرئيسية:
الدستور
وآليات تحقيق الانتقال
والتنمية الجهوية
والتخفيف من البطالة.
كل ذلك ترك المجال فسيحا لمن يجيد استعمال الأوراق السياسية التي تنبني على توظيف الآليات البسيطة لعلم نفس الجماهير: والسبسي ليس له إلا هذه البراعةالشعبوية التي لعل أهم أدواتها هي لغة العروي وسماجة التنكيت البلدي. فأصل الخطة التي يتبعها أصحاب الثورة المضادة في كل أقطار الربيع العربي-وليس في تونس وحدها لأن كل البلاد العربية لها سباسيها- هو العلم بهذه الآليات البسيطة وتوظيفها لاستعادة المبادرة من الثورة. ذلك أنه من المعلوم أن الجماهير لا تريد عدم الاستقرار الطويل. ومن المعلوم كذلك أنها لا تصبر على التضحيات الثورية إلا في حدود ضيقة و آماد قصيرة خاصة إذا لم تكن قياداتها ذات كاريزما ورؤية واضحة توطدان ثقة الجماهير واطمئنانها. لذلك كانت أهم الأوراق الفاعلة في إنجاح الثورات هي الحسم السريع أو ما يمكن أن يمنع الخصوم من استعمال ورقة السلوك الساذج لعامة الناس أعني اللجوء إلى الماضي القريب هروبا من آلام المخاض الموالي لكل فعل ثوري. فكل الثورات تلاها تحصر شعبي مفاده الهروب من آلام المخاض وحال اللسان يقول: ليت الأمور بقيت على ما كانت عليه.
إن عموم الشعب لا يحركهم التغيير القيمي المنشود و العميق على الأقل في الوعي السطحي حتى وإن كان اللاوعي محكوما بها عندما تكون القيادات قادرة على إحيائه إحياء محركا للفعل التاريخي. فالذهاب إلى الغايات في العلاج من مطالب الخطط ذات النفس الطويل الخطط التي لا تنجح إلى بسلطان رمزي قوي يشد اسر الشعوب ويمتن عزم أصحاب النفس القصير. إذ كيف لمن يقتصر همه على تحسين نصيبه من الموجود قريب المدى –وهذه حال عامة البشر-حتى لو كانوا يعلمون أنه استبداد وفساد وتبعية أن يصبر على تغيير الشروط الذي ينتسب إلى المنشود بعيد المدى؟:
فالحرمان الدافع للفاعلية الثورية ليس حرمانا ينتسب إلى الشعور بغياب المثل العليا إلا للقلة من الصفوة وفي الثورات ذات المضمون الروحي كما حدث في ثورة الإسلام خلال بناء دولة الإسلام التي ربيت نخبها على الصبر والقناعة والسعي إلى تحقيق المثل العليا دون الاقتصار على إشباع الحاجات المباشرة: ثقافة التضحية و العمل الصبور الذي يهدف إلى تحقيق الغايات البعيدة. والمأساة هي أن القيادات نفسها في الربيع العربي ليس لها هذه الثقافة.
أما الأغلبية من الناس فالحرمان الذي يحركها هو حرمان ينتسب إلى الشعور بغياب السهم من الموجود على ما هو عليه أعني المصالح المادية التي حولتها التربية و الثقافة الاستهلاكية الفاسدة إلى مجال المنافسة الوحيد المنافسة التي ربي عليها جل الناس. لذلك ترى الفساد والاستبداد قد أصبحا خلق الغالبية كل في محيطه ومجاله ما جعل الثورة تعد عبئا على الغالبية لأنها حرمتهم مما كانوا يستفيدون منه من فساد واستبداد وخاصة أدوات فاعلية الدولة فيعمومها.
لذلك فالخطط السياسية التي تجعل الماضي القريب يصبح ذا بريق بالقياس إلى الحاضر الصعب بإطالته وتكثير إعاقات تجاوزه من الخطط الدالة على سوء التقدير خاصة إذا صاحبها النكير السخيف على هذا الماضي مما يغلب الالتفات إلى الماضي بدل الاشرئباب إلى المستقبل. إنها خطط ضررها أكبر من نفعها لذاتها فضلا عنها عندما تكون مرجعية صاحب النكير عليها مستندة إلى ماض أبعد منه ما يجعل سلوكه ليس تكريها للحاضر بل تشويها للماضي البعيد الذي يحتكم إليه: فالتجربة الإسلامية جعلت الإسلام جابا لما تقدم عليه لكل من التزم به ونحن لم نعتمد مبدأ الثورة جابة للماضي إذا التزم الناس بقيمها. لذلك كثروا من الأعداء وقللوا من الأصدقاء فنفروا حتى من كان من صفهم وباتوا أبعد الناس عن الإيمان بما يدعونه حتى أقدموا على ما لم يقدم عليه عتاة العداء لقيم الأمة من أجل المحافظة على الحكم الشكلي لأن الحل و العقد لا يزال بأياد خفية.
إن هذه المعادة البديل من المصالحة مع الماضي قريبه قبل بعيده مكنت الخصم من استغلال الهروب من آلام المخاض إلى ما تقدم عليه. والأمر يزداد سوءا إذا أضفت إلى ذلك تضييق الخناق على المنافسين الحقيقيين للخصم أعني ممثلي إيجابيات هذا الماضي فحلت دونهم ومصارعته ظنا منك أنك تستطيع بمفردك التصدي له نيابة عنهم بدل السعي لتوحيد الكلمة وتجميع القوى الوطنية دون تمييز. وذلك هو السر في المصالحة ذات خلق العفو عند المقدرة التي علمنا فتح مكة استعمالها من الرسول الأكرم وجربها مانديلا فنجحت.
ولأن مثل هذا الخلق غاب فلا عجب أن تتقوى ظاهرة نداء تونس فتنقلب الفقاعة إلى دمل سرطاني قد يجعل الاستبداد والفساد مطلوبين بعد أن ثار عليهما الشعب فوضع في محل النادم على ما فعل. فإذا علمنا أن هذه الظاهرة السرطانية يعززها ما يسود النخب بجل أصنافها من اصطفاف إليها بحكم تبعية جل هذه النخب إما مباشرة إلى مستعمر الأمس وثقافته أو بصورة غير مباشرة إلى تابعه الذي سوده سيده على الشعوب المقهورة بل و نوبه لسوسها بالوكالة. لذلك فهذه الظاهرة تحتاج إلى تحليل عميق وخاصة في أهم أبعادها أعني اصطفاف جل النخب معها وعلاقته بالسند الخارجي من قبل كل الذين ليس لهم مصلحة في نجاح الثورة عربا كانوا أو غربيين.
إن اجتماع هذين الأمرين في أصحاب الثورة المضادة مع الأخطاء التي لا تغتفر من قيادات الثالوث الحاكم جعل صفها يجد في السبسي المتحيل الأكبر يستعمل خطة أمدته قيادات الثالوث الحاكم بمضمونها الفعال والمتمثل في غرضين لا ثالث لهما:
فأما الغرض الأول فهو دعوى تمثيل القوى الديموقراطية شعارا يخاطب به الرأي العام الغربي الذي يولي ويعزل في ما عداه من العوالم بما له من قوة مادية ورمزية(مع أن خبرته كلها كانت مع الدكتاتورية)
وأما الغرض الثاني فهو دعوى توحيد التونسيين شعارا يخاطب به الرأي العام المحلي الذي بدأ يشعر بأن الجمع بين المعارك السياسية والحضارية أصبح يهدد النسيج الوطني (مع أن همه في الحقيقة هو حماية مصالح من كان مثله من خدم الأنظمة الفاسدة و المستبدة أعني أنظمة أبناء علي الثلاثة ابن علي الباي وابن علي بورقيبة وابن علي ابن علي)
والجمع بين هذين الدعويين هو ما يجعله قادرا على ادعاء الإصلاح المواصل للتاريخ التونسي الحديث بتحرير البورقيبية من هذين العيبين أعني الدكتاتورية والصراع الحضاري مع الهوية. جعلوه قادرا على توظيف هذين الغرضين فيزعم تخليص هذا التاريخ من الدكتاتورية ومصادمة الهوية مستغلا أخطاء خصومه الذين عملوا كل ما استطاعوا ليجعلوا تهمة القطع مع منجزات الماضي القريب ومعاداته وكأنها حقيقة لأنهم بسلوكهم وبخطابهم جعلوا الناس يعتقدون أنهم يسعون إلى محو الماضي القريب ومنجزاته مغلبين تصفية الحساب معه على البناء على إيجابياته.
إن عدم علاج الأمور بأسبابها يجعل النوايا الحسنة والسلوك غير المحسوب معينا لا ينضب لتقوية الخصوم والثورة المضادة معززين بذلك صفها إلى حد جعل من كانوا من المفروض أن يكونوا حلفاء الثورة وخصوما للثورة المضادة يصبحون مضطرين للانضمام إلى صفها هروبا من التضييق عليهم ممن توهموا الشرعية الانتخابية كافية لتكون حدا جامعا مانعا للثوار. وهذا الفهم الخاطئ حصر الشرعية الثورية في الشرعية الانتخابية ونسي أن الشرعية الأولى هي التي جعلت الشرعية الثانية ممكنة:
فقد كان ذلك بداية لإبراز الطابع الاصطناعي للحلفاء إذ تفجر الحزبان اللذان قبل قادتهما مقاسمة الحركة مسؤولية الحكم فانسلخ منهم جل قواعدهم.
ونفر الحلفاء الممكنين كالحال مع الكثير من الأحزاب التي لا يمكن لأحد أن ينكر دورها في الثورة بأن أبعد الذين ساهموا إيجابا مثل أحزاب اليسار والقوميين.
ولم يسع إلى استمالة من ساهم سلبا في الثورة بعدم مساندة النظام السابق أيام الثورة فقصر من عمره ما أبعد تونس عن المآل الذي عرفته ليبيا وتعرفه سوريا.
لذلك فمآل هؤلاء جميعا –إلا من آمن حقا بالثورة فجرا لنهوض الأمة وصحوتها-مآلهم المنتظر بات الحلف مع حزب الثورة المضادة الأكبر بعد أن أضفى عليه السلوك غير الحكيم لقادة حزب الحكم الأكبر تمثيل الحداثة والديموقراطية.
التعليقات مغلقة.