الاعتدال في الإسلام ضمانة تحرير الأرض والإنسان

256

أ.د. أسعد السحمراني
29سبتمبر2013

وقفة مع المصطلح:

الاعتدال مشتقّ من العدل، والعدل نقيض الجور والظلم، ومن عدل الشيء: قومّه. ودلالة المصطلح اعتدال تقاربت مع مفردة استقامة، لذلك درج أصحاب الأقلام ومعتلو المنابر على القول: الاعتدال والاستقامة.

قال “ابن منظور”: ” الاعتدال: توسّط حالٍ بين حالين في كمٍ أو كيفٍ، كقولهم: جسم معتدل: بين الطول والقصر، وماء معتدل: بين البارد والحارّ، ويوم معتدل: طيّب الهواء، وكلّ ما تناسب فقد اعتدل.”

فالاعتدال يكون إذاً فضيلة هي التوسّط أو الوسط. والوسط فضيلة بين طرفين كلاهما ذميم؛ كالكرم فهو قيمة سمتها الاعتدال وهي بين طرفين مذمومين هما: التبذير والبخل. والشجاعة فضيلة اعتدال ووسط بين التهوّر والجبن. والعزّة قيمة هي الاعتدال والاستقامة بين التكبّر والذلّ.

ويأتي بين معاني الاعتدال؛ أنّه القصد في الأمور، والاعتدال: التوسّط وعدم مجاوزة الحدّ. فالاعتدال هو الاستقامة والاستواء، وهو وسط بين الإفراط والتفريط. كما أنّ الاعتدال يقال لحالة التوازن بين الغُنْم والغُرْم، أو التوازن بين الحقّ والواجب.

ومصطلح الاعتدال يصحّ أن يكون البديل من الوسطية. وقد قال ابن منظور: “وسط الشيء: أفضله وأعدله… ورجل وسط ووسيط: حسن… قال الزجاج: فيه قولان: قال بعضهم: وسطاً: عدلاً، وقال بعضهم: خياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد؛ لأن العدل خير والخير عدل. وقيل في صفة النبي عليه الصلاة والسلام: إنه كان من أوسط قومه؛ أي خيارهم، تصف الفاضل النسب بأنه أوسط قومه.” فالوسط هو الأجمل من المناظر، وهو الأكثر خيراً من المصادر، وهو الأقدم من نماذج السلوك، وهو الأحسن نسباً وسمات شخصية من الناس، فالاعتدال والاستقامة والسويّة والوسطية كلّها من الصفات الإيجابيّة والخصائص المرضية.

الاعتدال هو الأصل:

إنّ الله تعالى خلق الإنسان في صورة قويمة تزيد في سماتها عن سائر المخلوقات، وفي الآية الكريمة: “لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم.” (سورة التين، الآية 4) فالاستواء والاستقامة في الإنسان تتمثّل بهيئته الآدمية وآلات بدنه، كما تتمثّل بقدراته العقلية والنفسية المختصّ بها، والتي ليست لسواه من المخلوقات. وهذا يجعله مفطوراً على الاستقامة والاعتدال، لأنّ القوام الأحسن يؤهّله لهذا الاعتدال. جاء في تفسير القرطبي: “(في أحسن تقويم) وهو اعتداله واستواء شبابه، … وخلقه هو مستوياً، وله لسان ذلِق، ويد وأصابع يقبض بها.

وقال أبو بكر بن طاهر: مزيّناً بالعقل، مؤدّياً للأمر، مهدياً بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده.

ابن العربي: ليس لله تعالى خَلْق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حيًّا عالماً، قادراً مريداً متكلماً، سميعاً بصيراً، مدبراً حكيماً.”

إن هذه السمات الشخصية الموهوبة من الخالق سبحانه للإنسان توجب عليه حمل أمانة نشر المنهج القويم، والفكر الحكيم، والسلوك الفاضل، وكلّ هذا يبيّن أنّ الأصل هو الاعتدال والاستقامة، وخلاف ذلك من الحيد عن الطريق المستقيم إنّما هو غلو وتطرّف لا يتناسب مع فطرة الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم.

وقد جاء الخطاب الإلهي مبيناً فطرة الاعتدال في أصل الخِلقة عند الإنسان، وقوله تعالى هو: “يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم. الذي خلقكَ فسوّاك فعدلك.” (سورة الانفطار، الآيتان 7، 8) و(عدلك) تصحّ فيها قراءتان: عدّلك أو عَدَلك.

قال الطبرسي في تفسيره: “فسوّاك: فجعلك سويًّا سالم الأعضاء. (فعدّلك): فصيّرك معتدلاً متناسب الخَلْق. وقرئ بالتخفيف، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أي عدّل: عدّل بعض أعضائك ببعض حتّى اعتدلت. والآخر: فصرفك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة.”

وقال القرطبي في تفسيره: “(فعدّلك) أي: جعلك معتدلاً سوي الخَلق.”

إن الإنسان الذي جعله الله تعالى معتدلاً يكون واجبه أن يجتهد ما استطاع كي يكون معتدلاً في كلّ مفهوم من مفاهيمه، وفي كلّ قول يصدر عنه، وأن يكون معتدلاً في مشاعره وبنات وجدانه، وأن يتمثّل الاعتدال في كلّ فعل يصدر عنه.

الوسطيّة والخيريّة هما الأصل:

إنّ الغلوّ وكلّ أشكال التطرّف من الصفات العارضة التي يسببها الجهل، أو الأهواء والتعلّق بالأعراض الدنيويّة، أو مواقف متقلّبة بسبب الإغراء أو التهديد، ومثل هؤلاء الأشخاص الذين يصابون بالخسران يوصلهم إلى ذلك وقوفهم عند طرف أو حكم من أحكام الدين، يحسبون أنّ الوقوف عند الطرف أو الحرف هو الموقف الصواب، وأمام أي اختبار لا يلبث مثل هذا الشخص أن يهوي خاسراً لا هو يفوز بالدنيا لأن غلوّه وتطرّفه يجعله في مواقف صعبة وغير مقبولة، ولا هو يفوز بالسعادة الأخروية.

قال الله تعالى: “ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.” (سورة الحج، الآية 11).

“هذا الإنسان غير متمكّن في عقيدته ودينه، وبعيد عن الوسط والاعتدال، ولذلك فهو على طرفٍ سببه شكّه أو ضعف إيمانه أو التزام الأهواء والمصالح الخاصّة، لذلك فهو على حرف وعلى شفا حفرة، فما أن تبرز له فتنة أو غواية حتّى تراه يسارع إليها فينقلب إلى النقيض، ويقع في الخسران المبين.

ويقف على الصفة الأخرى أولئك المتميّزون بإيمانٍ راسخٍ، وهم الأمّة الوسط، وفيهم قال الله تعالى” : “وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول الكريم عليكم شهيداً.” (سورة البقرة، الآية 143) فالأمة الوسط هي نفسها الأمة التي أبلغها الله تعالى بأنّها خير أمّة أخرجت للناس، وهذا دليل على أن الوسطية هي الخيرية، أما التطرف والبعد من خطّ الاعتدال والاستقامة فإنه غريب عن روح الإسلام، فمن انتمى إلى الإسلام واجبه التزام هويّة الأمّة التي كانت مشيئة إلهيّة سامية، إنّها هويّة الوسط والاعتدال والخيرية.

أمّا من يتطرّف إفراطاً أو تفريطاً فإنّه سيكون خاسراً مغلوباً لأنّه يعاند سنّة الله في خلقه، والحديث النبوي الشريف جاء فيه: “إنّ الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلاّ غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا.” (أخرجه البخاري في صحيحه).

يوجّه هذا الحديث المؤمن إلى اعتماد السداد الذي هو الاستقامة، وهذه قرينة الاعتدال والتوسّط، لأن المتطرّف لن يفوز بشيء، بينما أهل الاعتدال الذي يدركون أنهم غير مستطيعين الوصول إلى الأكمل، فإنهم مستطيعون أن يفعلوا ما بوسعهم لمقاربة الحقّ والحقيقة.

تأسيساً على ما تقدّم تكون الخلاصة: “إنّ التوسّط والاعتدال يدلّان على سلامة الالتزام بالإسلام من المؤمن بما يتناسب مع سماحة الدين، والتوسّط يولّد اتزاناً في الأفعال، وثباتاً على المواقف، وصبراً ومثابرةً من أجل الوصول إلى الغاية المنشودة.

وفي الجهة المقابلة نرى أنّ المبالغ المغالي منفعل متوتّر، والأيدي المنفعلة لا تقوى على البناء، وهؤلاء يتّصفون بالموسميّة، والتزامهم يكون وفق درجة الانفعال عندهم.

وإذا كان التوسّط سبيلاً للثبات والاستقامة والبناء، فإن الغلو والتطرّف سبيلان للتخريب والفتن.” إنّ الفاحص لحال الأمّة العربيّة والعالم الإسلامي يتعرّف على مخاطر البعد عن التوسّط والاعتدال، والانتماء إلى فضاء التعصّب والفئويّات باسم الطوائف أو المذاهب أو الأعراف أو الجهويّات الذي نشر النزاعات والاقتتال مما أزهق أرواحاً، وجلب الخسران المعنوي والمادّي، وهذا يسهم في خدمة مقاصد الأعداء.

هذا الواقع المؤلم الذي يغشى أكثر من ساحة عربية وإسلامية يدمي قلوب المخلصين، وينشر الفوضى والخراب، ولا علاج للفتن سوى المنهج الوحدوي الذي يوحّد ولا يبدّد، ويجمع ولا يفرّق.

لماذا الغلوّ والتطرّف؟

إنّ انبعاث المكونات الكريهة من آبار الغلو والتطرّف، وأخطرها الفتنة التي تضعف قدرات الأمة، وتعمّم الفوضى والاقتتال، بات يشكّل خطراً على الإنسان والمجتمع، علماً أنّ الإسلام يؤسّس للوسطيّة والسماحة والاعتدال والرفق في الأمر كلّه، وينهى عن الغلوّ والإفراط والتفريط.

وإذا أراد أحد أن يحدّد عوامل الغلوّ والبعد عن الاعتدال فإنّ هذه العوامل منها ما يلي:

1- الجهل الذي يلتزم الشكل ويهمل الأساس: لقد انتشرت حالة في مجتمع الأمّة العربيّة والعالم الإسلامي هي أنّ قبيلاً من فاقدي العلم والحكمة الذين وقفوا على بعض من أطراف العلم، أو الذين تلقّوا محفوظات من بعض أمراء مجموعاتهم، وفئاتهم الحزبية، قد تصدّروا الشاشات ومواقع الخطابة والمحادثةـ وقد أسهم جهلهم وفقدانهم للقدرة على الاجتهاد في أي باب من أبواب العلوم في أن يذهب هؤلاء باتجاه التعصّب والانفعال والسّفه، وقد استمالوا بعض الدهماء ممّا أنتج كتلاً ومجموعاتٍ تتصدّى لمواقع علمائية فوق طاقتها، وقد كان بسبب ذلك ما يسمّى: (الفتاوى البلاوى)، وهذا ما سبّب فساداً وفتناً غالية الثمن.

قال الإمام جاد الحقّ علي جاد الحقّ شيخ الأزهر الأسبق في هؤلاء: “ومن الغلوّ في الدين، وفي الأحكام التشريعيّة التعصّب المذهبي أو التعصّب للرأي مع وجود مذاهب أخرى معتبرة، كهؤلاء المغالين في أحكام اللباس والزينة، وفي أحكام الطهارة الحسيّة، وفي أحكام اللحوم المحرّمة، وفي أحكام ما يُقصّ وما يُعفى، وكظاهر الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في طريقة أكله وشربه ولباسه ومعاشه ومشيه، مع أنّ هؤلاء الغلاة كثيراً ما يتهاونون في أمور الكبائر المجمع على تحريمها، ولا يحذّرون الناس منها، كالقذف والحسد، والغيبة والنميمة وشهادة الزور والكذب، وإثارة الفتن، واستخدام المراكز الوظيفية للمصالح الشخصيّة أوالحزبيّة.”

2- الطاعة لأمراء المجموعات: هذا مرض لا بل داء أصاب بعض أهل الوطن والأمّة علماً أنّ النصّ القرآني قد جاء فيه قوله تعالى: “أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سويًّا على صراط مستقيم.” (سورة الملك، الآية 22). والقاعدة الإسلامية في أمر الطاعة: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

رغم هذه الأحكام نجد من يسلّم قيادته لأمير مجموعة معيّنة، ويمشي خلفه مكبّاً على وجهه كأنّه منوّم مغناطيسيًّا، ولعلّ السبب أنّ هذا الأمير قد وضع يده في فم التابع الطائع فأطعمه لقيمة، أو وضع يده في جيبه ليعطيه بعض الرشوة من النقود، أو أن تكون حالة جهل وسطحيّة عند هذا التابع فيقبل كلّ ما يقال له دون أن يعرضه على مقاييس الشرع.

لقد قدّم صورة مبيّنة لأمر هؤلاء المفكّر أحمد كمال أبو المجد حيث قال: “الطاعة المطلقة لأمير الجماعة… وقد لا يكون على علم بأحكام الشريعة ومقاصدها… أو دراية بأساليب العمل الجماعي والسياسي، أو تقوى تجعله يتحرّج ويحتاط في أمور الدماء والأموال والأعراض. إنّ هذه الطاعة المطلقة التي تستند إليها التبعيّة في المنشط والمكره هي الباب الذي يندفع فيه جموع الشباب إلى مصارعها، وإلى إهلاك الحرث والنسل من حولها دون أن تتوقّف لتراجع أو تتدبّر أو تتساءل.”

هذا هو البلاء إذ الطاعة بلا بصيرة ولا تبصّر قد عطّلت المراجعة النقديّة، وفقدان النقد والمراجعة من مسبّبات الجمود الفكريّ، وانهيار المفاهيم.

3- الجهلة والديكتاتوريّة: لقد انتظمت قوافل من الجهلة وراء أمرائها، وعمد هؤلاء إلى ممارسة العنف بكلّ أشكاله مهدّدين الكرامات، ومتعدّين على الحرمات بما في ذلك السعي لإسكات صوت الحقّ الذي ينطق به العلماء الفقهاء الحكماء، لأنّ هؤلاء يريدون من يواكبهم في إطلاق العنان لغرائزهم وأهوائهم، ولا يصغون لمن عنده القدرة على التصويب والترشيد. وقد قال في هذا الشيخ محمّد الغزالي: “إنّ هذه الأسباب هي التي قادت إلى بروز ما تشهده المجتمعات الإسلامية والعربية من ظواهر الغلوّ والإرهاب والعنف التي سفكت دماء، وهدّمت مؤسسات، وزرعت الرعب هنا وهناك، كما أنّ الجهلة من العوام الذين يسيئون للدين بمفاهيمهم الخاطئة وعلومهم المرتجلة يمارسون شكلاً من أشكال التسلّط والديكتاتوريّة على العلماء المستنيرين الذين كثيراً ما يحجمون عن إعلان موقف، أو إطلاق مبادرة لا لشيء إلا لخوفهم من استغلال من قِبل العوامّ في غير ما يقصده صاحب الموقف أو المبادرة.”

لقد حجب هؤلاء الجهلة المالكون للإعلام أو للسلاح أو للسلطة الكثير من العلماء الراجحي العلم، والمرشدين الراشدين، ممّا جلب ضرراً وخطراً لا يخفى على المتابع العاقل، وقد وصل الأمر مع انتشار سلطة الجهلة إلى بروز ظاهرة التكفير، أو التشدّد في أمور توافق أهواء هؤلاء ومصالحهم، وفيها كلّ الخطر والضرر على الوطن والمواطن.

4- الجور والفقر والبطالة: إنّ الممارسات التي تقوم بها بعض السلطات في عددٍ من الدول شكّلت غذاءً دسماً للتطرّف والبعد عن الاعتدال، فإنّ الجور اللاحق بأعداد من المواطنين كالظلم السياسي والاجتماعي، أو الزجّ في أقبية السجون دون وجه حقّ قد خرّج العديد من الغلاة والمتطرّفين: يُضاف إلى ذلك التخلّف وفقدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع فقدان الخدمات والمرافق العامة الوافية لتأمين ما يحقّق حياة كريمة، كلّ هذه الأمور كانت حضناً دافئاً للتطرّف. والحلّ إنّما يكون بالعدل والحريّات العامة وتوافر الخدمات وكلّ وسائل العيش الكريم، وتأمين فرص العمل المناسبة لكلّ شخصٍ حسب كفاياته، لأنّ الجهل والفقر والظلم معاً هم تربة تُستنبت فيها حركات الغلوّ والتطرّف.

5- الاحتلال واغتصاب الحقوق: إنّ الاحتلال الاستعماري بشقّيه الصهيوني الإستيطاني الإحلالي، أو الأمريكي الاحتلالي، يضاف إليهما الإرث المؤلم للأمّة العربيّة والعالم الإسلامي من الاستعمار الأوروبي الغربي، وما نتج وينتج عن ذلك من سلبٍ ونهبٍ واغتصاب لم يتوقّف منذ مئات السنين، ويأتي موازياً لذلك ما حصل ويحصل من تطاول وتجاوز للحدّ في النيل من الإسلام ومن النبي محمّد عليه الصلاة والسلام ومن مكانة العرب وسمعتهم، وما جرى من إجراءات ضدّ العرب والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة، وما يراه ويسمعه المتابع منذ أكثر من خمس وستين سنة في فلسطين المحتلّة والدول المجاورة من عدوان صهيوني يتمثّل في القتل والتشريد، أو في القصف والتدمير، أو في تهويد يطال المقدسات وكلّ المكوّنات الحضاريّة العربيّة لفلسطين، كلّ هذا أحدث ويحدث حالات فعل أو ردّات فعل أجبرت أهل الأمّة على سلوك سبيل ردود ضدّ الصهيوأمريكان هي مقاومة، ولولا عدوانهم واحتلالهم واغتصابهم لما حصل ذلك، وبعض الحالات المقاومة قد يجبرها تطرّف الأعداء على البعد عن الاعتدال، لأنّ العدوان الأقصى درجة يحتاج لمقاومة قصوى في ردودها ومواجهتها.

الوحدة عامل حاسم لتحرير الأرض والإنسان:

إنّ وحدة الصفّ والكلمة ركيزة أساسيّة لصناعة القوّة، والوحدة مع القوّة عاملان حاسمان في إنجاز تحرير أرض الوطن المغتصبة من الاستعمار الصهيوأمريكي وسواه، ولتحرير الإنسان من الجهل والفقر والبطالة، وتوفير كلّ ما يحقّق له كرامته. إنّ الوحدة فطرة لأنّ الإنسان اجتماعي بفطرته، وميوله إلى الاجتماع تكون لمن تجمعه بهم مقوّمات الوحدة الوطنيّة والقوميّة.

والأمر الإلهي جاء داعياً المؤمنين إلى الوحدة والإئتلاف على أساس عقيدة التوحيد وتوحيد الكلمة، وجاء النهي عن الفرقة والانقسام في الوقت عينه، لأنّ الوحدة خير وقوّة، والفرقة شرٌّ وضعف، والوحدة أساس تحقيق العزّة والانتصار، أمّا الفرقة فهي التي تنتج الذلّ والانكسار.

قال الله تعالى: ” واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا.” (سورة آل عمران، الآية 103)

جاء في تفسير القرطبي: “إنّ الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفُرقة، فإنّ الفُرقة هلكة، والجماعة نجاة، ورحم الله ابن المبارك حيث قال:

إنّ الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دنا

… ولا تفرّقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخواناً، فيكون ذلك منعاً لهم عن التقاطع والتدابر… وليس فيه دليل على تحريم الإختلاف في الفروع، فإنّ ذلك ليس اختلافاً، إذ الاختلاف ما يتعذّر معه الإئتلاف والجمع، وأمامكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها سبب لاستخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، ومازالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون.”

إنّ الوحدة لا تلغي التنوّع، بل التنوّع مشروع وضروري شرط أن يكون تحت سقف الوحدة، لا تنوّع خلاف وخصام على حساب الوحدة والألفة. وجاء في النصّ القرآني نهي عن التنازع والاقتتال بين المؤمنين، لأنّ التنازع يُذهِبُ القوّة والجهود في مواقع لا جدوى منها. قال تعالى: “ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهَب ريحكم.” (سورة الأنفال، الآية 46) ينهى الله تعالى عن الفُرقة والتنازع لأنّ ذلك يبدّد القوّة، ويباعد بين الصفوف، ويُذهب الهيبة، فيكون ذلك سبباً للفشل والهزيمة.

إنّ التنازع يحصل بفعل الفتنة التي تحرّكها أهواء ومصالح، أو غرائز وميول، أو مكاسب ومناصب، وتطلعات سلطويّة؛ فإنّ كلّ من حكمته هذه المنازع تعمى بصيرته، وتصبح مقاييسه نابعة منها ممّا يجعل الخصام بينه وبين أصحاب نوازع أخرى.

إنّ الفتنة هي عامل هدم وتخريب، وهي سمّ ناقع يقتل كلّ أسباب الحياة والحيويّة والصلاح في المجتمع، كما أنّ شرارات الفتنة لا تبقى بحدود صانعيها بل تتجاوزهم لتصيب بحريقها المجتمع بأكمله.

ويفيد في هذا الباب تذكير المؤمنين بالآيات البينات التي جاء فيها التحذير من الفتنة؛ وهي قوله تعالى: “والفتنة أشدّ من القتل” (سورة البقرة، الآية 191). وقوله تعالى: “والفتنة أكبر من القتل” (سورة البقرة، الآية 217). وقوله تعالى: “واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة” (سورة الأنفال، الآية 25). والفاتن اسم من أشماء الشيطان، وبذلك تكون الوحدة أمراً رحمانياً، والفتنة وسوسة شيطانيّة.

وأمام تحدّيات ومؤمرات الأعداء من خلال الشرق أوسطيّة التي تقوم على نشر الفتن، وبعث التنازع، وإذكاء نار الاقتتال، تكون فوضى تنتج التفتيت في الأمّة فتصبح عندها كيانات طائفيّة أو مذهبيّة أو عرقيّة أو جهويّة. أمام كلّ ذلك كانت أصوات حرّة مخلصة وجهود لوأد الفتن وحقن الدماء ولمواجهة مؤامرات الأعداء. من هذه الأصوات كلام ومواقف لرئيس المؤتمر الشعبي اللبناني كمال شاتيلا الذي قال: “إنّ الردّ على هذه المؤمرات الجديدة القديمة لا يكون إلاّ بقوّة الوحدة في صفوف المؤمنين، والوعي بخطورة هذا المخطّط المعادي لإحباطه. إنّ الردّ يكون بالحفاظ على الكيانات الوطنيّة للأمّة من محاولات الاستهداف وخرق الثوابت والمسلمات.

… إنّ المحافظة على الوحدة الوطنيّة واجب دينيّ أوّلاً ثمّ هي التزام وطني بوحدة الأرض والشعب، ووحدتنا الوطنيّة هي أمضى سلاح نستخدمه في مواجهة الصهيونيّة والحدّ من الهيمنة على مقدراتنا. … فرسالتنا الإسلاميّة تؤكّد على التعايش والحريّة والتسامح، وتعترف بأهل الكتاب وتحترمهم، ورسالتنا تنادي بحريّة العقيدة ولا تقبل الفرض والإكراه. … إن قوتنا في وحدتنا، فبوحدتنا ننتصر على الأعداء، وبوحدتنا نبني الوطن ونشيّد الأركان.”

بيان وتوصيات:

إنّ حالات التطرّف والبعد من الاعتدال والاستقامة يسترها بعضهم بالإسلام ليجعل غشاوة على أعين بعض الناس من الجهلة كي يستغلّوها في تنفيذ مخطّطات تخالف الدين، وتجلب الأذى للوطن والمواطن. وممّا أشاعوه فكرة مفادها أنّه لا وطنيّة في الإسلام، وأنّ وطن الإنسان عقيدته. والصحيح أنّ الوطنيّة تلازم الإنسان منذ ولادته حيث ينمو في فكره ومشاعره الارتباط بالوطن بكلّ مكوناته بشراً ولغة وتاريخاً وثقافة ومصيراً إلى آخر السلسلة.

قال المؤرّخ المسعودي (ت 346 هـ) في كتابه “مروج الذهب”: “وقد ذكر الحكماء – فيما خرجنا إليه من هذا المعنى- أن من علامة وفاء المرء ودوام عهده حنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه، وأن من علامة الرشد أن تكون النفوس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توّاقة، وللإلف والعادة قطع الرجل نفسه لصلة وطنه.

وقال ابن الزبير: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم، وقال بعض حكماء العرب: عمّر الله تعالى البلدان بحبّ الأوطان. وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة والديك؛ لأنّ غذاءك منهما، وغذاءهما منه، وقال آخر: أولى البلدان بصيانتك بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وقال آخر: ميلك إلى موضع مولدك من كرم محتدك.”

هذه الروح الوطنيّة التي يقوم بنيانها على الوفاء والرشد، وتنامي مشاعر التعلّق بأرض المولد والمنشأ والمعاش، إنّما هي تعبير عن علوّ الهمّة، والصدق في الوعد والعهد.

والبيان الآخر هو من الرسول عليه الصلاة والسلام يوم الهجرة من مكّة المكرّمة، وهي موطنه، حيث تحرّكت فيه الروح الوطنيّة، والحنين إلى أرض المولد والمنشأ، وعندما غادرها وأطلّ عليها، خاطب المدينة الموطن قائلاً: “إنّك لخير أرض الله تعالى إليّ، يعني مكّة، ولولا أنّي أُخرجت منك ما خرجت.”

يخلص هذا البيان إلى المفهوم والموقف الآتيين: “إنّ كلّ إنسان له وطن نشأ فيه وانتمى إليه، وهذا الوطن يتّسع لآخرين معه، والوحدة الوطنيّة لا تقتضي أُحاديّة الأصل أو العقيدة، وإنّما ينصهر الجميع في صيغتهم الوطنيّة التي ينتمون إليها، وكلّ إنسان مفطور طبعاً على التعلّق بوطنه، وإذا خرج منه لضرورة يحرّكه الحنين باتجاهه، وإذا تعرّض الوطن لمحنة وكرب فالأمر البديهي أن يهبّ الإنسان للدفاع عن وطنه وعن أبناء وطنه.

بعد هذا البيان تجدر الإشارة أنّ التزام الوطنيّة اعتدال واستقامة واستواء، وأنّ التحلّل من الانتماء الوطني،أو التنكّر للمواطنة، إنّما هو موقف يبعد بصاحبه عن الاعتدال والخيريّة. وهنا تكون الخاتمة مع التوصيات الآتية:

1- إنّ معالجة مرض التعصّب للطائفة أو المذهب أو العرق أو الجهة أمر ضروريّ ولا يكون ذلك إلاّ بالتزام المنهج الوحدوي المتمثّل بالوحدة الوطنيّة وبالعروبة الحضاريّة الجامعة. فالعروبة الجامعة هي الحلّ لأنّها تتّسع للجميع مع تنوّع انتماءاتهم ومفاهيمهم ومقاصدهم.

2- إنّ تأصيل خطّ الاعتدال والأمّة الوسط في مواجهة التطرّف والتعصّبات الرديئة، يكون بالتزام الشرع الإسلامي قرآناً كريماً وسنّةً نبويّة شريفة، لأنّ شريعة الإسلام تؤسّس لمركزيات هي: الرحمة، والسماحة، وتحقيق كرامة الإنسان، واعتماد التوسّط والاعتدال مع رفض كلّ أشكال الغلوّ والتطرّف.

3- وقف عمليّة الاستغلال السياسي للدين حيث يوظّف بعض المراجع وأهل المناصب الدين من أجل ستر مقاصد تآمريّة تزرع الفتنة، وتبعث روائح الانقسام الكريهة، وإن فعلهم هذا، وخطابهم التبريريّ لبعض المشاريع التي تريد ضرب الوحدة والاعتدال، إنّما يستغلّ الدين والدين منه براء، لأنّ الإسلام حذّر من مخاطر الفتن، وأمر بالوحدة، ونهى عن التنازع.

4- وضع حدّ لمصنّعي الخطاب الدينيّ الذي يستغلّ الدهماء من الناس مثيراً فيهم حالات غريزيّة ومملياً عليهم مواقف مدفوعة الأجر، وكذلك الحال مع الخطاب الإعلامي وما يتركه من مؤثرات كارثيّة على الرأي العام، والحلّ بالكلمة الحرّة المسؤولة الصادرة عن فكرٍ رشيد، والنابعة من عقل حكيم.

5- ترشيد الفتاوى، وجلاء اللبس اللاحق ببعض المصطلحات، حيث تشوّه المفاهيم، وتزوّر تعريفات المصطلحات، لتوظيف التزوير في خدمة مقاصد غير بريئة. وهذا الترشيد يحتاج لوضع حدّ لفتاوى الإعلام عبر الاتصال الهاتفيّ، وأن يكون المرجع هو المجامع الفقهيّة التي تتمّ فيها الدراسات والأبحاث الشاملة المعمّقة تمهيداً لإصدار الفُتيا، والواقع أنّ الحال محتاج لفتاوى المجامع لا لفتيا الفرد. ولمّا كان قد قام منذ ثلاثين عاماً “مجمع الفقه الإسلامي الدولي” وهو إحدى مؤسسات “منظّمة التعاون الإسلامي”، وتتمثّل فيه المذاهب والدول، فإنّ الواجب أن نردّ إليه مرجعيّة الفتاوى، كي تنجو الأمّة من أشراك ينصبها الجهلة وأنصاف المتعلّمين أو غير المتفقّهين، فيصطادون بها المغفلين ليقودوهم إلى ما لا تحمد عقباه.

6- إنّ أساس المعالجة ينطلق من تسديد الرمي باتجاه العدو الصهيوني وحلفائه وأعوانه، والواجب توظيف الجهود والإمكانات ضدّ هذا العدوّ، لأنّ المعركة ضدّ العدوّ لتحرير الإنسان والأرض ومعهما المقدّسات هي المعركة الأصل. هذا ما قاله جمال عبد الناصر: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضدّ العدوّ الصهيوني ولا نداء أقدس من ندائها.

هكذا يكون تصحيح اتجاه إبرة البوصلة فالقتال ضدّ الأعداء والمحتلّين شرف وسموّ وعزّة، والاقتتال بين مكوّنات مجتمع الوطن والأمّة جريمة لا تُغتفر.

الدعوة للاعتدال مرادها صناعة الوحدة والألفة، والوحدة هي القوّة، والقوّة هي التي تحرّر الإنسان والأرض وتحمي الأمّة بكلّ مكوّناتها، والقوّة هي صانعة التقدّم، وهي التي تمنع الجور وتجلب العدل، وهي التي تردع القمع وتؤمّن فضاء للحريّات والأحرار.

إنّ الحقل المعرفيّ المطلوب عنوانه فكر المقاومة، وإطاره ومنابعه ثقافة المواجهة المؤسّسة للعزّة المقرونة بالسماحة، وكلّ ذلك يوصل إلى الاعتدال والنصر على الأعداء مع صيانة الوحدة الوطنيّة والوحدة العربيّة الحضاريّة الجامعة.

التعليقات مغلقة.