مَا يَخْفىَ وَمَا يَجِبُ أَنْ لاَ يَظْهَرَ
تبدُو المعلوماتُ التي تجودُ بها علينا صحافتنا الموقّرةُ جيّدةً تَخْدُمُ المتلقي وتثقّفُ المجتمعَ، ومن الوفرة بحيث ينتهي المواطنُ إلى فهم أوضاع الدَّاخلِ ومجرياتِ الحياة في الخارج. هذا ما يبدُو لمن لم يفكِّر في طريقة عملِ وسائلِ الإعْلام المحلِّي مهمَا اختلفتْ أشكالُ تقديم المعلوماتِ فيه، فالنتيجة واحدة في نهاية المطافِ.
وسيبقى المواطنُ يتلقى المعلوماتِ، وتعملُ هذه الأخيرة في ذهنه عمل المهدِّئات مثل الأدوية التي يتلقَّاها المريضُ تماماً.
فرحلة التَّهدئة قد بدأت منذ زمن التّسعينات، ولكن اختلفت جرعات التَّخدير الجماعيِّ، وطريقة استخدام الصُّورة والمعلومات للوصول إلى إحداث التّجاوب المطلوب في ذهن المتلقي. إنَّ هذه الطريقة سجَّلتْ نجاحاً مذهلا، وأنتجت مشاهدين يغلب عليهم السَّطحيّة في الفهم، والتلقائيَّة في طلب المعلومة وفي تحليل المضمون بدليل أنَّ من يدمن مشاهدة وسائلنا الإعلاميَّة لا بدَّ وأن يصير ساذجاً يسهل اللعب بعواطفه وتحريكه إلى الوجهة التي يريدها له النِّظام الذي يشرف على كلِّ شيءٍ، ولتسهيل بلع المهدِّئات سمِّيت نتائج هذه العمليَّة بأسماءَ فضفاضةٍ اختفت تحتها أشياء مقصودة منها: الرَّأيُ العامُّ الجزائريُّ، رأيُ الشارع، اتّفقت الصَّحافة الوطنيَّة على هذا الأمر، وبحسب المراقبينَ، وصرَّحت الوسائلُ الفلانيَّة بالإجماع أنَّ وهكذا.
فهو قالبٌ جاهزٌ يحتوي رسالة من السُّلطة الحاكمة بأنَّ هذا الاتجاهَ هو الهامشُ الوحيدُ الذي يُسْمَحُ بالحركة في داخله، ويجبُ اعتبارُ الخارجِ عن دائرة هذا الهامش خارجاً عن القانون وبالتالي يتعرَّضُ صاحبه إلى العقوبة بتهمة المساس باستقرار الوطن.
ولنأخذ هذه الأمثلة حتى تتَّضحَ القضيَّة:
o ركَّزَتْ وسائلُ إعلامنا على شيطنة أحزاب المعارضة الحقيقيَّةِ من أجل تسهيل ضربها فيما بعد باستخدام القوَّةِ المُفْرِطَةِ مع أنَّ الدُّسْتُورَ الجَزَائِرِيَّ يَنُصُّ على حقوقٍ أخرى عند تعارض القضايا السِّيَاسِيَّةِ مثل حَقِّ الرَّدِّ، وحَقِّ النَّشْرِ، وحُرِّيَّةِ التَّعْبير بهدف البناء والنَّقْدِ، وحَقِّ اِتِّخَاذِ مِنْبَرٍ خَاصٍّ يكونُ منفذاً زائدًا للمواطن لاكتشاف الرَّأي المختلف وهكذا.
هذه الحقوق كلُّها طمستْ من أجل أن تكون هناك سلطة واحدةٌ وإعلامٌ تابعٌ، وعلى حدِّ تعبير الأستاذ المرحوم عبد الحميد مهري:” الصَّحَافَة فِي الجَزَائِرِ تَتَصَرَّفُ كَحِزْبٍ لِلسُّلْطَةِ أكثرَ مِنْهَا كَهَيْئَةٍ عُمُومِيَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ “.
o مُهَاجَمَة عقد رُومَا الذي تفتقتْ فيه آراءِ الأحزاب الوطنيَّةِ والإسلاميَّةِ عن أرضيَّة توافق حُسِمَ فيها الخلافُ لصالح الشَّعْبِ بإرجاع الكلمة إلى الانتخاب وضرورة إبعادِ الانقلابِيِّنَ عن مركز القرارِ وَالرُّجُوعِ إلى دمقرطة الاتجاهِ السيَّاسيِّ كما تَضَمَّنَتِ العَوْدَة إلى الحياة العاديَّةِ التي عاشها الجزائريُّونَ نهاية الثّمانينات.
o مهاجمة ما هو شريعة أو إسلامٌ بطريقة الشَّخْصَنَةِ وَالتَّمْثِيلِ، فإظهارُ صورة القتلى بيدِ مَنْ يُسَمِّيهِمُ النِّظَامُ إِرْهَابِيِّينَ أَقْوَى تأثيراً من أن يظهرَ عَالِمٌ من علماء السُّلْطَانِ يُحَدِّثُ المواطنين عن فضائل السِّلْمِ والحياة الهادئة التي يَحْلُمُونَ بِهَا.
وَلاَ يَزَالُ وَاضِحاً لِمَنْ يَتَذَكَّرُ الأمُورَ جَيِّداً كيفَ أنَّ التلفزيون الجزائريَّ الموقّر بَثَّ حِصَصاً طويلة هدفُهَا إشاعة جَوِّ الخَوْفِ، وإلهَابِ مشاعرِ الغَضَبِ في نفوسِ المُوَاطِنِينَ مِنْ أجْلِ أنْ يَتَقَبَّلوُا فِيمَا بَعْدُ الاِعْتِدَاءَ عَلَى الأحْزاب التي أفْرَزَتْ نِسَبَ نَجَاحِهَا صَنَادِيقُ الاقتراع.
من عناوين الحصص التي بثت في تلك الفترة: معالم التي ربطت حزب جبهة الإنقاذ بالخمينيِّ في محاولة تمرير فكرة الدَّعم الإيرانيِّ للأحزاب الإسلاميَّة، اعترافات إرهابيٍّ التي استوردت خصِّيصاً من مصر تظهر طريقة تعامل السُّلطاتِ المصريَّة مع أحدِ الموقوفين المحسوبين على التيّاَر الإسلاميِّ، وفتاوى علماءِ الجنوبِ الجزائريِّ تلك الحصَّة التي ظهرت فيها بصماتُ السلطة جليَّة واضحة تسخر من الإسلام السِّياسيِّ وتسخر من قوى البلاد وتشيطن الدُّعاة وتغري بتعليق المشانق كما رَجَتهُ أحزاب شيوعيَّة وعلمانيَّة موالية للانقلابيِّين. وسنترك عناوين أخرى كثيرة لأنَّها تصبُّ في ذات الاتجاه وتنتهي إلى النَّتيجة نفسِها.
o تشكيلُ عواطفِ الكُرْهِ وَالخَوْفِ وَزَرْعُ الشُّكُوكِ وَتَرْوِيجُ الإِشَاعَاتِ والأراجيفِ والتَّحريش بين المختلفين من أجل تفكيكِ الصُّفوفِ إلى أن يبغضَ المواطنونَ بعضَهُم بعضاً واستخدام الوسائل المتاحة لذلك. وقد برع النِّظامُ الجزائريُّ في هذه الطرق جميعاً فصارَ مدرسة عالميّة لها خبرة تفيد الدُّولَ التي يرغبُ انقلابيُّوها في تأمين وسائل انقلابٍ جيّدٍ وكسب تأييد المواطنين بأيسر مؤونة.
إلاّ أنَّ عبقريَّة إعلامنا الخانع تكمنُ في أمرين اثنين جمع بينهما بخبثٍ عظيمٍ فكسب المعركة الفاجرة.
1. الأولى أنه نجحَ أيَّما نجاحٍ في تأليب طبقاتِ الشعب على بعضها بعضاً ومهَّد لذلك بتشويه صور رؤساء الأحزاب والتَّشكيك في صدقهم وإخلاصهم للوطن وللثورة حتى أصبحوُا مثالاً لكلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من الذّنوب. وهكذا أمكنَ فكُّ أسرار النُّكتِ التي كانت شائعة في زمن الانقلابييّن كما أمكن التأكيدُ على حقيقة معروفة في علم النَّفس وهي أنَّكَ إذا أردت أن تحطّمَ أيَّ شخصيَّةٍ فاجعلها موضع السُّخريّة وحينما تنجح في ربط العقول بالصُّورة الجديدة تأتيك النتائجُ على قدر بشاعة السُّخرية.
مثلا: من يصدِّقُ أنَّ الأستاذ مهري خائنٌ متآمرٌ مع دول الاستعمار والحلف الأطلسيّ على حساب الجزائر وشهدائها؟ والرَّجلُ مثالٌ باهرٌ في الصدق والإخلاص للوطن، ولكن هذا ما رتّبتْ له الصحافة العميلة وبثّته وردَّدته ريثما يتولَّى حجَّار ورهطه تدبيرَ انقلابٍ ينتهي بإزاحة الأستاذ مهري، وباعتلاء عرش جبهة التحرير أنواعُ الميتة العشر المحرَّمة.
الكلامُ نفسه قيل عن جلّةٍ من العلماء والمشايخ والدُّعاة ورؤساء الأحزاب المعارضة الحقيقيَّة وكانتِ النَّتيجة مؤسفة إذ استخدمَ الاعلامُ سلاحَ الصُّورة الكاريكاتيريَّة فهانَ التَّخلُّص منَ الطاقات الحيَّة التي كان يمكنُ أن تغيِّر مَجْرى الأحداثِ الأليمَة التي عاشتها ولا تزالُ أرضُ الجزائر.
2. الثانية أنَّهُ نجحَ في تسويق فكرة أنَّ بقاء الانقلابيِّينَ ضمانُ أمن الضِّفة الجنوبيَّة من أورُوبَا، فإذا سقط فسيطرقُ الخطرُ الإسلاميُّ أورُوبَا كلَّها، وَسَتُصْبِحُ بدورهَا إِمَارَاتٍ إسلاميَّة مثلَ تلكَ التي أقامها الطالبانُ بعدَ أن استنفذَ الْجِهَادُ في أفغانستان أغرَاضَهُ.
وَهكذا نجحَ النِّظَامُ الجَزَائِريُّ بإعْلاَمِهِ العَمِيلِ فِي تَخْوِيفِ الأورُوبِيِّينَ وَصَوَّرَ لَهُمْ أَنَّ الجَزَائِرِييِّنَ شَعْبٌ مُنْحَطٌّ مُتَخَلِّفٌ إِرْهَابِيٌّ يَكْرَهُ الحَضَارة ومتعطِّشٌ للدَّمَارِ وَلِلدِّمَاءِ وَلَنْ يَرْضَى بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَصَّوَّرَ المُعَارضينَ بِصُوَرِ الخَوَنَةِ المُتَعَاوِنِينَ مَعَ دُوَلِ الاستِعْمَار التي ستتدَخَّلُ بالقوَّةِ لِحِمَايَةِ مَصَالِحِهَا وتعيدُ البلادَ إلى حقبة الاستدمار، ثمَّ أقنعَ المُوَاطِنِينَ بِأَنَّ تَخَلِّيهِمْ عَنْ دَعْمِ النِّظامِ الاِنْقِلَابِيِّ سَيَكُونُ وَخِيمَ النَّتيجةِ عليهمْ إذْ سَيَمُوتُونَ بأيدي الارهَابيِّينَ أوْ بِطائِرَاتِ الحِلْفِ الأَطْلَسيِّ الرَّابِضَةِ عَلىَ الضِّفَّةِ الأخْرَى.
فَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أنْ يُضَاهِيَ بِالسَّبْقِ فِي الخَدِيعَةِ وَالمَكْرِ فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُضَاهِيَ الإِعْلاَمَ الْعَمِيلَ الْجَزَائِرِيَّ فِيهِمَا أَبَداً.
وَيَظْهَرُ أنَّ تَدْبِيرَ الإِعْلاَمِ فِي بلادنا سَيْسَتَمِرُّ علَى هذِهِ الطَّريقةِ البَائِسَةِ، فالأقلامُ الحُرَّةُ بَيْنَ تَعْطِيلٍ أوْ قَهْرٍ أًوْ تَصْفِيَةٍ، وَمَعْلُومَاتُنَا عَنْ بِلاَدِنَا مُصْطَنَعَةٌ بِالزُّورِ وَالبُهْتَانِ يُصْبِحُ فِيهَا الخَائِنُ مُؤْتَمَناً وَالمُؤْتَمَنُ خَائِناً، وَيَعْتَرِضُ فِيهَا المُجْرِمُ عَلَى الضَّحِيَّةِ لِأنَّهُ وَافَقَ عَلىَ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ بِاْسمِ الآخَرِينَ، أَوْ يُطَالِبُهُ بِالاعْتِذَارِ بِاْسْمِ حِمَايَةِ أمْنِ البِلاَدِ وَدُسْتُورِهَا، وَقَدِ اِسْتَمَرَّتِ الأُضْحُوكَةُ حَتَّى صَارَتْ لنَا قنوَاتٌ مُتَخَصِّصَةٌ فِي تِكْرَارِ أُسْطُوَانَةِ التَّهْدِيدِ بِالإِرْهَابِ وَعَرْضِ القَذَارَاتِ الإِعْلاَمِيَّةِ وَتقْنِينِ الْعُهْرِ وَتَطْبِيعِ الصُّلْحِ مَعَ إِسْرَائِيلَ عَدُوِّ الأبَدِ بِاسْمِ المَصْلَحَةِ تارَةً، أوِ الحُصُولِ علىَ مَصَادِرٍ تَمْوِينٍ بِالسِّلاَحِ الحَدِيثِ تَارَةً أخْرى وَهَكَذَا.
يَحْدُثُ هَذا فِي حِين يَغُضُّ هَذا الإِعْلامُ الطَّرْفَ عَنْ جَمِيع الثوْرَاتِ، وَيُصَوِّرُ الشُّرَفَاءَ بِصُوَرِ عُتَاةِ المُجْرِمِينَ المُسْتَوْجِبِينَ لِلْقَتْلِ فِي الطُّرُقَاتِ العَامَّةِ، كَمَا يُهَوِّنُ مِنْ شَأْنِ الإِخْفَاقَاتِ الأَمْنِيَّةِ وَالنَّهْبِ المُقَنَّنِ المُتَوَاصِلِ، وَيَجْعَلُ مِنْ عُهْدَاتِ فَخَامَتِهِ اِنْتِصَارَاتِ أمَّةٍ وَحُلْماً بَعِيدَ المَنَالِ لِدُوَلٍ أخْرَى لاَ تَطْمَعُ أنْ تُحَقِّقَ مَا حَقَّقَهُ عَمَالِقَة الرَّشَاوَى وَالنَّهْبِ فِي أَيِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ.
فَيَا مَنْ غَشَشْتُمْ أمَّتكُمْ وَبِعْتُمْ ضَمَائِرَكُمْ وَأَكَلْتُمْ الأَسْحَاتَ بِدِمَاءِ إِخوانِكمْ: أمَا لِلْخُنُوعِ مِنْ حَدٍّ؟ أمَا فِي قُلُوبِكُمْ مِنَ الإِيمَانِ ذَرَّةٌ؟
وَيَا مَنْ صدَّقتمْ كلامَ الكذبَة الشُّهَدَاءِ بِالزُّورِ: أمَا فِي أبْدَانِكُمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَقْلٍ؟ أمْ أنَّ العَجْزَ قَدْ بَلَغَ بِكُمْ أنْ صِرْتُمْ مَضْحَكَةَ وَأْنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ؟
سَتَتَكاَمَلُ الصُّورةُ حينمَا يُحَاوِلُ القُرَّاءُ أنْ يَفْهَمُوا مُحْتَوَى الرِّسَالَةِ الأَخِيرَةِ لِلرَّئِيسِ التِي وَجَهَّهَا إِلَى الشَّعْبِ وَقَرَأهَا بِالنِّيَابَةِ عَنْهُ وُزَيْرُ المُجَاهِدِين ( بالتَّصْغِير).
رَئِيسُنَا الذِي كانَ يُحَدِّثُنَا السَّاعَاتِ الطِّوَالِ صَارَ لاَ يَقْوَى عَلَى الوُقُوفِ وَيَتَوَاصَلُ مَعَ الشَّعْبِ بِالرَّسَائِلِ، وَيُطَمْئِنُنَا عَلَى مُوَاصَلَةِ الإِنْجَازَاتِ العَظِيمَةِ وُزَرَاؤُهُ السَّاهِرُونَ عَلىَ تَطْبِيقِ بَرْنَامَجِهِ البَاِهِر.. بَرْنَامَجِهِ هُوَ صَاحِبِ الفَخَامَةِ وَوَلِيِّ النِّعْمَةِ.
رَئِيسُنَا الذِي يُطَمْئِنُنَا عَلَى صِحَّتِهِ مَنْ ظَفِرَ بِزِيَارَتِهِ وَالحَديثِ إِليْهِ الأجَانِبُ وَالعُهَّارُ وَالْفُجَّارُ الذِينَ يَعْلَمُونَ وَلاَ نَعْلَمُ، وَيُخْبِرُونَنَا وَيَجِبُ أَنْ لاَ نَعْرِفَ أنَّ الانتخاباتِ مَحْسُومَة النَّتَائِجِ سَوَاءٌ اِصْطَلَحَ العَسْكَرُ أَمِ اِخْتَلَفُوا مَادَامَ أنَّ الخَرُوفَ ( مَبْيُوعْ بْسُومَة السُّوق ).. وَمَا لَنَا؟ الحَمْدُ للهْ .. حْنَا شَعْبْ لاَ يَرْجُو سِوَى شَيْءٍ وَاحِدٍ (اخْطِينِي وَهَا هِيَ لِيكْ).
الأستاذ الأزهري
المااااااااااااااااااااااااااااسوووووووووووووووونية.