إبن تيمية ومعركة الحرية 3 – حاتم المطيري
(3)
من الهجرة إلى الثورة
(كان ابن تيمية أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده)
ابن فضل الله العمري
بقلم أ.د. حاكم المطيري
1 شعبان 1437هـ
8 مايو 2016م
لم يكن ابن تيمية فقيها كفقهاء عصره يحرر فتاواه في محراب جامعه، بعيدا عن واقعه، أو متكلما يجادل في آرائه العقائدية في قاعة درسه، بعيدا عما يدور في مجتمعه، بل كان ابن تيمية -كما يبدو جليا في كتبه ورسائله وسيرة حياته كلها- مجاهدا مهاجرا، ومحررا ثائرا، ومحاربا شرسا، يخوض حربا ضروسا، دفاعا عن أمته وهويتها، ودينها ووجودها، لا يخرج من معركة حتى يخوض أخرى، لا فرق في ذلك عنده بين معركة فكرية، وأخرى سياسية عسكرية!
ولا يمكن فهم هذه الروح الثائرة التي تجلت في كل ما كتبه بأوضح صورها، إلا بالوقوف على الحدث الأبرز في حياته آنذاك، وحياة الأمة كلها، الذي أثر في وجدانه، وأعاد تشكيل وعيه لذاته ولمجتمعه وواقعه، حتى حمله على وقف حياته كلها في سبيل هذه المعركة الوجودية، وعلى إعادة قراءة تاريخ الإسلام وطوائفه ومذاهبه ومدارسه في كل العلوم منذ ظهورها حتى عصره، باحثا عن جذور الأزمة التي أدت إلى سقوط أمته تحت جحافل الغزو المغولي الوحشي الذي اكتسح المشرق الإسلامي كله، بكل همجية ودموية، طوال قرن كامل، ما بين 616 إلى 716 هـ تقريبا، دون وجود حاجز يمنعه، أو رادع يردعه، وكانت أسرة ابن تيمية الحنبلية -كما هو حال عامة شعوب الأمة في المشرق التي تعرضت للمحنة- من ضحايا تلك الكارثة المأساوية!
لقد كان احتلال بغداد -مدينة السلام، وعاصمة الإسلام، مدة خمسة قرون- واقتحام جحافل الجيوش المغولية الهمجية أسوارها، بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان سنة 656هـ، أشد فاجعة أصيبت بها أمة الإسلام، تلك الحادثة التي تعد نهاية حضارة إنسانية زاهية لم يشهد لها العالم مثيلا في نهضتها وازدهارها، كما لا مثيل لها في سقوطها وانهيارها!
لقد كانت تلك الفاجعة من دلائل النبوة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحذر منها، كما يقول ابن تيمية نفسه -في رده على المنطقيين ونقد قياسهم البرهاني الذي لا يهدي إلى الحق الذي جاءت به الرسل عن الله، ولا يفيد الحقائق الجزئية التفصيلية، بخلاف وحي السماء، وهدايات الأنبياء- (وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم عما كان، وعما سيكون بعده من الحوادث المعينة، حتى أخبر عن التتر، بما ثبت في الصحيحين عنه من غير وجه أنه قال: “لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين، ذلف الأنوف[1]، حمر الوجوه، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة”، فهل يتصور أن قياسهم وبرهانهم يدل على آدمي معين أو أمة معينة، فضلا عن أن يوصف بهذه الصفات قبل ظهورهم بنحو سبعمائة سنة).[2]
وقال أيضا: (وهؤلاء الطوائف كلهم قاتلهم المسلمون، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وأمرُ هذه الطوائف معروفٌ، فإن قتال الترك من التتار وغيرهم، الذين هذه صفتهم معروف مشهور، وحديثهم في أكثر من عشرة آلاف نسخة كبار وصغار من كتب المسلمين[3]، قبل قتال هؤلاء الذي ظهروا من ناحية المشرق الذين هذه صفتهم، التي لو كلف من رآهم بعينه أن يصفهم لم يحسن مثل هذه الصفة).[4]
هجرة ابن تيمية وأثرها النفسي والفكري:
لقد كان ما جرى في ذلك الغزو الهمجي من مذابح وحشية فاقت الوصف، وما حل بالمشرق الإسلامي كله آنذاك، من خراب شامل، ودمار كامل، وحرق للمدن، وقتل لسكانها وإبادتهم -على يد جيوش جنكيز خان الوثنية منذ بداية غزوها للعالم سنة 616هـ، حتى لم تسلم منه مدينة عامرة، ولا قرية غامرة، وما وقع بعد ذلك بأربعين سنة على يد حفيده هولاكو في بغداد سنة 656هـ، من قتل وحشي حتى بلغ القتلى في بغداد وحدها نحو مليوني مسلم، واستباحتها مدة أربعين يوما، وما جرى بين يدي ذلك من قتل الخليفة العباسي ورجال الدولة ووزرائها وعلمائها، وسقوط الخلافة ونهايتها- كارثة كبرى، وفاجعة عظمى، والحدث الأبرز الذي سيعيد تشكيل وعي ابن تيمية، الذي هاجرت أسرته وهو صغير من بلده حران شمالا، إلى دمشق جنوبا، فرارا من تلك الكارثة؛ لتصنع منه تلك الهجرة بعد أربعين سنة عالما ثائرا، ومجاهدا محررا، وستكون تلك الحوادث الفواجع، هي المؤثر والدافع لثورة الصبي -المهاجر من وطنه- على الموروث الفقهي والفكري والروحي الدخيل، الذي أدى لمثل هذا الانهيار الخطير، لدولة وأمة كانت تسود العالم كله ستة قرون علما وحضارة ورقيا ومدنية، تحت أقدام الهمجية والوثنية الطارئة، وسيخوض ابن تيمية بعدها معركة التحرير وفي كل ساحاتها، ابتداء من الفروع والفقه، ثم الأصول والعقائد، والتصوف والسلوك، وانتهاء بساحات الجهاد العسكري والسياسي، ليحقق نصرا في كل الساحات، لينتهي به تآمر أعدائه إلى السجن حتى الوفاة!
وقد ذكر ابن رجب الحنبلي تلك الهجرة التي تعد مفتاحا مهما لفهم شخصية ابن تيمية الثائرة، وسبب ثورته على الموروث الديني والسياسي، حيث قال عنه: (أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، ثم الدمشقي، الإمام الفقيه، المجتهد المحدث، الحافظ المفسر، الأصولي الزاهد، تقي الدين أبو العباس، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، ولد يوم الاثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران،وقدم به والده وبإخوته إلى دمشق، عند استيلاء التتر على البلاد، سنة سبع وستين وستمائة).[5]
وكذا ذكر هذه الحادثة تلميذه المحدث ابن عبدالهادي الحنبلي فقال: (ولد شيخنا أبو العباس بحران يوم الاثنين عاشر، وقيل ثاني عشر شهر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة 661 هـ، وسافر والداه به وبإخوته إلى الشأم عند جور التتار، فساروا بالليل، ومعهم الكتب، على عجلة لعدم الدواب، فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به فنجوا وسلموا).[6]
فقد كان يوم قدوم والده به إلى الشام، فرارا بأسرته من جيوش التتر ابن سبع سنين، وكان هذا الهروب من جحافل الغزو الهمجي الدموي بعد 11 سنة فقط من سقوط بغداد عاصمة الإسلام، ودار الخلافة، ومدينة السلام، وبعد حدوث أكبر فاجعة في التاريخ الإسلامي بل والإنساني، وستظل ذاكرة الطفل الوقادة -التي اشتهر بها ابن تيمية وبأنه أحفظ أهل عصره- تختزن كل ما رآه وشاهده من مآسٍ، وكل ما سمعه من فواجع وكوارث، استثارت وبأقصى درجات الاستثارة -كما هو شأن التحولات الخطيرة في نفوس العظماء- الطاقة الفكرية والروحية والنفسية الكامنة عند ابن تيمية، حتى تحولت حياته كلها معركة تحرير كبرى، حرمته من الزواج والأسرة والاستقرار وتولي المناصب -التي كان يتصارع عليها فقهاء عصره وقضاته، ولهذا كان لا يأبه بتهديد أحد؛ لتجرده من كل علائق الدنيا وزخرفها، كما قال عن نفسه (ليس لي ما أخاف الناس عليه: لا مدرسة، ولا إقطاع، ولا مال، ولا رئاسة، ولا شيئا من الأشياء)[7] -بعد أن نذر نفسه وأوقف حياته وعلمه وعمله وجهاده على هذه المعركة التاريخية الفاصلة، حيث كانت الأمة حينها تعيش مع عدوها الشرقي الوثني المغولي، والغربي الصليبي الفرنجي- كما هو حالها اليوم بين فكي كماشة الاحتلالين الشرقي الروسي، والغربي الأمريكي- صراعا صفريا تكون الأمة بعده أو لا تكون، كما كان عليه الحال حين واجه أبو بكر الصديق جيوش الإمبراطوريتين الشرقية الفارسية، والغربية الرومانية، الزاحفتين على تخوم جزيرة العرب وخلافة الإسلام، مع الفارق بين حال الأمة في صدر الإسلام كقوة صاعدة، وحال الأمة في عصر ابن تيمية كأمة خامدة، ودولة هامدة!
لقد ظلت تلك الذكرى الأليمة -والهجرة الشاقة المحفوفة بالمخاطر، وأحداثها المأساوية حيث خرج قاضي حران وفقيهها فارا بأسرته تحت جنح الظلام، في تلك الحال من الفقر والتعب والخوف والجوع، على عجلة خشبية عاثرة، تجرها ثيران خائرة، مسيرة خمس مئة ميل بين جبال شاهقة، وأودية سحيقة، يسيطر على القافلة وأهلها هلع ورعب، وهم يشاهدون على يمين الطريق ويساره آثار الكارثة المهولة من القرى المسحوقة، والجثث المحروقة، والعجلة تسير بهم ببطء، وكأنما تحرض التتر على اللحاق بهم- حاضرة في ذاكرة ابن تيمية الطفل الصغير، وكان الحلم الذي عاشه وظل يراوده صغيرا، هو ما سمعه من أبيه من قبل: بأن هزيمة التتار ستكون على يد الجيش المصري، ولم يكن الأب يعلم وهو يقص تلك البشارة على أولاده في المهجر بأن ابنه سيكون السبب الرئيس في تحققها!
وقد أخبر ابن تيمية عن تلك البشارة حيث يقول: (وقد حدثنا أبي رحمه الله: أنه كان عندهم كتاب عتيق، وقف عليه من أكثر من خمسين سنة، قبل مجيء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: “والتتار يقلعهم المصريون”، وقد رأى المسلمون أنواعا من المبشرات بنصر الله ورسوله، وهذا لا شك منه إن شاء الله).[8]
ووالده هو الإمام عبد الحليم ابن تيمية أحد كبار فقهاء الحنابلة وقضاتهم في حران، كما قال عنه ابن رجب: (عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن تيمية الحراني، نزيل دمشق، الشيخ شهاب الدين أبو المحاسن، وأبو أحمد بن الشيخ مجد الدين أبي البركات، وقد سبق ذكر أبيه، وهو والد شيخ الإِسلام تقي الدين أبي العباس: ولد سنة سبع وعشرين وستمائة بحران، وسمع من والده وغيره، ورحل في صغره إلى حلب، قال الذهبي: قرأ المذهب حتى أتقنه على والده، ودرس وأفتى وصنف، وصار شيخ البلد بعد أبيه، وخطيبه وحاكمه، وكان إمامًا محققًا لما ينقله، كثير الفوائد، جيد المشاركة في العلوم، له يد طولى في الفرائض، والحساب والهيئة، وكان ديناً متواضعاً، حسن الأخلاق جوادًا، من حسنات العصر، تفقه عليه ولداه: أبو العباس، وأبو محمد، وحدثنا عنه على المنبر ولده، وكان قدومه إلى دمشق بأهله وأقاربه مهاجرًا سنة سبع وستين.
قال الذهبي: وكان الشيخ شهاب الدين من أنجم الهدى، وإنما اختفى بين نور القمر وضوء الشمس، يشير إلى أبيه وابنه، فإن فضائله وعلومه انغمرت بين فضائلهما وعلومهما.
وقال البرزالي: كان من أعيان الحنابلة، عنده فضائل وفنون، وباشر بدمشق مشيخة دار الحديث السكرية بالقضاعيين، وبها كان يسكن، وكان له كرسي بالجامع يتكلم عليه أيام الجمع من حفظه، ولما توفي خلفه فيها ولده أبو العباس، وله تعاليق وفوائد، وصنف في علوم عديدة، توفي رحمه الله ليلة الأحد، سلخ في الحجة سنة اثنتين وثمانين وستمائة، ودفن بدمشق من الغد بسفح قاسيون).[9]
فقد كان سماع ابن تيمية هذه البشارة من والده قبل وفاته سنة 682هـ، وكان له يوم وفاة أبيه نحو إحدى وعشرين سنة، وربما يكون قد سمع تلك البشارة قبل ذلك بسنوات، مما يؤكد أن الأسرة كانت تعيش حلم النصر على التتار الذين أخرجوهم من بلدهم، وهجروهم من وطنهم!
ولم تكن الهجرة قاصرة على آل تيمية فحسب؛ بل كانت هجرة الحرانيين من بلدهم حران هجرة جماعية، وهو ما يزيد ألمها في النفس ألما، خاصة لمن يعيش حياته لغيره أكثر من نفسه كابن تيمية، فمهما يسلو عن مواجعه، يرى حال قومه فيقض ذلك مضجعه، ولشدة وقع تلك الهجرة وألمها في نفوس الحرانيين المهاجرين إلى الشام، كان ابن تيمية يصبّرهم، ويبشرهم بأجر هجرتهم، فيقول عن الشام: (وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث أنبياء بني إسرائيل، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسرى نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه، وعمود دينه وكتابه، وطائفة منصورة من أمته؛ وإليها المحشر والمعاد، كما أن من مكة المبدأ… وكذلك في الأمر، فإنه أسري بالرسول من مكة إلى إيليا، ومبعثه ومخرج دينه من مكة، وكمال دينه وظهوره وتمامه بالشام، فمكة هي الأول، والشام هي الآخر، في الخلق والأمر، في الكلمات الكونية والدينية، ومن ذلك أن بها طائفة منصورة إلى قيام الساعة، وهي التي ثبت فيها الحديث في الصحاح من حديث معاوية وغيره “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة”، وفيهما عن معاذ بن جبل قال : “وهم في الشام “، وفي تاريخ البخاري مرفوعا قال : “وهم بدمشق “، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “لا يزال أهل المغرب ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة”. قال أحمد بن حنبل : أهل المغرب هم أهل الشام.. ومن علم حساب الأرض كطولها وعرضها علم أن حران والرقة وسيمسياط على سمت مكة، وأن الفرات وما على جانبيها بل أكثره على سمت المدينة، بينهما في الطول درجتان، فما كان غربي الفرات فهو غربي المدينة، وما كان شرقيها فهو شرقي المدينة، فأخبر أن أهل الغرب لا يزالون ظاهرين، وأما أهل الشرق فقد يظهرون تارة ويغلبون أخرى، وهكذا هو الواقع؛ فإن جيش الشام ما زال منصورا… ومن ذلك أنها خيرة الله من الأرض، أو أن أهلها خيرة الله، وخيار أهل الأرض، واستدل أبو داود في سننه على ذلك بحديثين: حديث عبد الله بن حوالة الأزدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ستجندون أجنادا: جندا بالشام، وجندا باليمن، وجندا بالعراق، فقال الحوالي: يا رسول الله: اختر لي! قال : “عليك بالشام ؛ فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله”، وكان الحوالي يقول : ومن تكفل الله به فلا ضعية عليه . وحديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم…”.
فقد أخبر أن خير أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم؛ بخلاف من يأتي إليه أو يذهب عنه، ومهاجر إبراهيم هي الشام، وفي هذا الحديث بشرى لأصحابنا الذين هاجروا من حران وغيرها إلى مهاجر إبراهيم، واتبعوا ملة إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، وبيان أن هذه الهجرة التي لهم بعد هجرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لأن الهجرة إلى حيث يكون الرسول وآثاره، وقد جعل مهاجر إبراهيم يعدل لنا مهاجر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الهجرة إلى مهاجره انقطعت بفتح مكة.. ومن ذلك “أن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها على الشام”، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر، ومن ذلك أن عمود الكتاب والإسلام بالشام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “رأيت كأن عمود الكتاب أخذ من تحت رأسي فأتبعته بصري فذهب به إلى الشام”، ومن ذلك أنها عقر دار المؤمنين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “وعقر دار المؤمنين الشام”).[10]
فابن تيمية هنا كأنما يواسي المهاجرين من حران إلى الشام ويسليهم وهو منهم، ويعبر عن مأساتهم، ويصبرهم على مرارة فراق وطنهم، وقد طالت هجرتهم، وهم ينتظرون عودتهم إلى ديارهم!
وستظل تلك المآسي -التي عاشها آل تيمية في هجرتهم، التي كادت تودي بهم أثناء فرارهم من الموت- وتلك البشارة -التي ربما يكون مصدرها نبوءة من موروث الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو تأويل أخباره، كما في أحاديث الملاحم والفتن ودور مصر فيها، وسيأتي بعضها، أو عن رؤيا صادقة اشتهرت بينهم، كما وجدها والده في كتاب عتيق قبل استحلال المغول بغداد- يحفزان ابن تيمية الشاب الصغير، ويستثيران روحه وعقله لمواجهة تلك الكارثة، وتحقيق تلك البشارة وذلك الحلم الذي سيتحقق فعلا بعد سبعين سنة على يد ابن تيمية نفسه والجيش المصري!
وسيظل ابن تيمية منذ ذلك العصر وإلى اليوم أشهر علماء الإسلام على الإطلاق، ولعله لم يؤثّر فقيه أو مفكر، بعد ابن تيمية ومنذ القرن السابع كما أثر، حيث ترد على كتبه وتصدر: أمهات الحركات الإصلاحية، والجماعات الإسلامية، السياسية، والجهادية، والعلمية، والدعوية، وما يزال فكر ابن تيمية وفقهه يؤثران فيما يشهده العالم الإسلامي من أحداث كبرى، حتى صارت الحملة الصليبية، وأنظمتها الوظيفية، ومراكزها الوسطية، مشغولة اليوم في الرد عليه، ومنع كتبه، وحصار فكره، حتى صدح بذكره والإعلان عن حربه في أكبر محفل ماسوني، وأعظم منبر صليبي، في الأمم المتحدة!
فكان له في هذا العصر أوفر حظ من وراثة النبوة، ووراثة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ… لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}!
لقد شكل ابن تيمية بفكره ومنهجه في الاستدلال والاحتجاج مدرسة فكرية عصية على الاختراق العقائدي، نجحت في ربط الأمة من جديد بالإسلام وبأصوله القطعية: الكتاب والسنة والإجماع، في العقائد والفقه والسلوك، ونجحت في تحرير الوعي الإسلامي من كل ما دخل عليه من آثار الفلسفة الغربية العقلية اليونانية، وآثار الفلسفة الشرقية الصوفية العرفانية، كما حررت الفقه من ربقة التقليد والمذهبية التي وصلت بالأمة إلى الاقتتال بين أتباع المذاهب بسبب العصبية، فلم يقدم على الكتاب والسنة قول أحد كائنا من كان، وخاض معركة التحرير ضد الغزوين المغولي والفرنجي، وأحيا في الأمة روح الجهاد في سبيل الله بعد أن كاد يتعطل، وأدرك أن إحياء السنة، وإحياء مفهوم الأمة: هما المدخل لمواجهة هذا الغزو؛ فاستدعى ذلك في كل ما كتب بهذا الخصوص، وقرر أخوة أهل الإسلام على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وطرقهم، ولم يستثن من ذلك إلا الفرق الباطنية التي اصطفت مع المحتل، كما رأى كيف اتسعت الفجوة بين أحكام الشرع وأحكام السياسة، فاجتهد في الدعوة إلى سنن الخلافة الراشدة، فكان بحق أمة وحده، يخوض معركة تحرير كبرى، وفي كل الساحات الفكرية والفقهية والاجتماعية والسياسية!
وقد وصف حاله تلك -وهو يخوض المعارك في كل ساحات الجهاد الديني والسياسي والعسكري- أبلغ وصف المؤرخ ابن فضل الله العمري في كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” فقال عنه: (شيخ الإسلام، نادرة العصر، رضع ثدي العلم منذ فطم، وطلع فجر الصباح ليحاكيه فلطم، وقطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن آس السلف بهداه، ونأى الخلف عن بلوغ مداه…
وثـقـف الله أمـرا بات يكـلـؤه *** يمضي حساماه فيه السيف والقلمُ
بهمة في الثريا إثر أخمصها *** وعـــزمة ليس من عـــاداتها السأمُ
على أنه من بيت نشأ منه علماء في سالف الدهور، ونشأت منه عظماء على المشاهير الشهور، فأحيا معالم بيته القديم إذ درس، وجنى من فننه الرطيب ما غرس، وأصبح في فضله آية إلا أنه آية الحرس، عرضت له الكدى فزحزحها، وعارضته البحار فضحضحها، ثم كان أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، وأخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه إجفال الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤل الغريم.
ما كان بعض الناس إلا مثلما *** بعض الحصا الياقوتة الحمراء
جاء في عصر مأهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، تموج في جوانبه بحور خضارم، وتطير بين خافقيه نسور قشاعم، وتشرق في أنديته بدور دجنّة، وتبرق في ألويته صدور أسنّة، وتثأر جنود رعيل، وتزأر أسود غيل، إلا إن شمسه طمست تلك النجوم، وبحره طم على تلك الغيوم، ثم عبيت له الكتائب فحطم صفوفها، وخطم أنوفها، وابتلع غديره المطمئن جداولها، واقتلع طوده المرجحن جنادلها، وأخمدت أنفاسهم ريحه، وأكمدت شرارتهم مصابيحه.
تقدم راكبا فيهم إماما *** ولولاه لما ركبوا وراءه
ترد إليه الفتاوي فلا يردها، وتفد عليه من كل وجه فيجيب عنها، بأجوبة كأنه كان قاعدا لها يعدها…
وقد تضافرت عليه عصب الأعداء… ورفع إلى السلطان غير ما مرة، ورمي بالكبائر، وتربصت به الدوائر، وسعي به ليؤخذ بالجرائر، وأزعج من وطنه، تارة إلى مصر، ثم إلى الإسكندرية، وتارة إلى محبس القلعة بدمشق… فمات بل حيي…
وكان ابن تيمية في مدد ما يؤخذ عليه في مقاله، وينبذ في حفرة اعتقاله، لا تبرد له غلة، بالجمع بينه وبين خصمائه في المناظرة، والبحث حيث العيون ناظرة، بل يبدر حاكم فيحكم باعتقاله، أو يمنعه من الفتوى، أو شيء من أنواع هذه البلوى، لا بعد إقامة بينة، ولا تقدم دعوى، ولا ظهور حجة بالدليل، ولا وضوح محجة للتأميل، وكان يجد لهذا ما لا يزاح به ضرر شكوى، ولا يطفئ به ضرم عدوى، وكل امرئ حاز المكارم محسود!
كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدا وبغضا إنه لدميمُ
كل هذا لتبريزه في الفضل، حيث قصرت النظراء، وتجليه كالمصباح، أو نور الصباح، إذ أظلمت الآراء، وقيامه في دفع حجة التتار، واقتحامه وسيوفهم تتدفق لجة البدار، حتى جلس إلى السلطان محمود غازان، حيث تجم الأسد في آجامها، وتسقط القلوب في دواخل أجسامها، وتجد النار فتورا في ضرمها، والسيوف فرقا في قرمها، خوفا من ذلك السبع المغتال، والنمروذ المختال، والأجل الذي لا يدفع بحيله محتال، فجلس إليه وأومأ بيده إلى صدره، وواجهه ودرء في نحره، وطلب منه الدعاء فرفع يديه، ودعا دعاء منصف أكثره عليه، وغازان يؤمن على دعائه، وهو مقبل إليه، ثم كان على هذه المواجهة القبيحة، والمشاتمة الصريحة أعظم في صدر غازان والمغل، من كل من طلع معه إليهم، وهو سلف العلماء في ذلك الصدر، وأهل الاستحقاق لرفعة القدر، هذا مع ماله من تغير مكانته من خاطر السلطان، وتسبب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كل ماشق، فلهذا لم يزل منغصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنقدح عنه جوانب شدّته، هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود، كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلا ليهبه، ولا يحفظه إلا ليذهبه، كله في سبيل البر، وطريق أهل التواضع، لا أهل الكبر، لم يحل به حب الشهوات، ولا حبب إليه من ثلاث الدنيا غير الصلوات…
وقيامه في الله، وفي نصر دينه، وإقبال الخلق عليه، وعلى أفانينه… هذا مع ما له من جهاد في الله، لم تفزعه فيه ظلل الوشيج – أي الرماح – ولم تجزعه فيه ارتفاع النشيج، مواقف حروب باشرها، وطرائف ضروب عاشرها، وبوارق صفاح كاشرها، ومضايق رماح حاشرها، وأصناف خصوم لد اقتحم معها الغمرات، وواكلها مختلف الثمرات، فقطع جدالها قوي لسانه، وجلادها سنا سنانه، قام بها وصابرها، وبلي بأصاغرها، وقاسى أكابرها، وأهل بدع قام بدفاعها، وجهد في حط يفاعها، ومخالفة ملل بين لها خطأ التأويل، وسقم التعليل، بأدلة أقطع من السيوف، وأجمع من السجوف، وأجلى من فلق الصباح، وأصلب من فلق الرماح…
إذا وثبت في وجه خطب تمزقت *** على كتفيه الدرع وانتشر السردُ
فلقد اجتمع عليه عصب الفقهاء والقضاة بمصر والشام، وحشدوا عليه بخيلهم ورجلهم، فقطع الجميع وألزمهم، بالحجج الواضحات أي إلزام؛ فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام، وقد مضى ومضوا إلى الملك العلام، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}).[11]
لقد بدأ ابن تيمية رحلة العودة، والبحث عن جذور الأزمة، منذ بزوغ نجمه، وكان لاحتلال العراق والشام ومصر، في القرن الهجري السابع من قبل التتار شرقا، والروم غربا، وحصارهما للعواصم التاريخية والحضارية لخلافة الإسلام (بغداد ودمشق والقاهرة)، أكبر الأثر في هذه الرحلة التيمية الشاقة؛ للبحث عن المخرج من هذه الفتنة العامة، كما جاء في النبوءة الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم).[12]
وجاء في النبوة الصحيحة تحديد سبب هذه العودة من حيث كان البدء، وهو حصار العجم والروم لها (يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذاك! ثم قال: يوشك أهل الشأم أن لا يجبى إليهم دينار ولا مدى. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قبل الروم!).[13]
وسيكون لهذه العودة بالأمة من حيث البداية أبلغ الأثر في البدء من جديد، وفي خوض معركة التحرير والتجديد، متخذا من كلمة الإمام مالك الخالدة نبراسا (وما أحسن ما قال مالك: “لن يصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها” ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره).[14]
وسيصبح ابن تيمية أحد أكبر مجددي عصره دينيا وفكريا، ومحرريه سياسيا وعسكريا، كما توقع ذلك وتفرسه فيه شيوخه، وهو شاب بعد وفاة والده وهو ابن عشرين سنة، كما قال ابن فضل الله العمري: (وتوفي والده وهو شاب، فولي مشيخة الحديث بدار الحديث السكرية، وحضر عنده جماعة من الأعيان، فشكروا علمه وأثنوا عليه، وعلى فضائله وعلومه؛ حتى قال الشيخ إبراهيم الرقي: الشيخ تقي الدين يؤخذ عنه ويقلّد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علما، وهو على الحق، ولا بدّ ما يعاوده[15] الناس، فإنه وارث علم النبوة).[16]
وإبراهيم هذا هو (الإمام القدوة الزاهد ولي الله الشيخ إبراهيم بن أحمد الرقي) توفي سنة 703 هـ بدمشق، وكانت جنازته مشهودة، وحمل على الرؤوس، وعاش بضعا وخمسين سنة. [17]
وقال عنه الذهبي (إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد الإمام العلامة الزاهد العابد القدوة شيخ الإسلام أبو إسحاق الرقي نزيل دمشق).[18]
وقد صدق ظن هذا الشيخ العابد الزاهد بابن تيمية، وتحققت فراسته فيه، وكأنما كان يرى بنور الله؛ فأحيا الله بابن تيمية الإسلام وجدده، كما وصفه مؤرخ الإسلام الذهبي بقوله: (أحيا الله به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم).[19]
وكما وصفه الإمام العارف أبو العباس الحزامي الواسطي بقوله: (إمام الأمة، ومحيي السنة، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الذين غابت عن القلوب سيرهم، ونسيت الأمة حذوهم وسبلهم).[20]
لقد نهض ابن تيمية بأعباء لم يعتد الفقهاء على التصدي لها، في مواجهة الخطر السياسي والعسكري الداهم، والاحتلال الوثني الصليبي الغاشم، فكان رجل أمة وملة، لا رجل سلطة ودولة، كما وصف نفسه ردا على من مدحه حين عاد من جهاد التتر منصورا[21].
وقد عبر عن تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ الأمة مؤرخو الإسلام، ممن عاصروا الأحداث منذ بدايتها، حين كاد الإسلام يصطلم من الأرض، بالغزو التتري شرقا، والفرنجي غربا، وكان أشهرهم ابن الأثير في تاريخه حيث يؤرخ لمبدأ هذه الكارثة التي حلت بالعالم آنذاك فيقول -باختصار ليكون القارئ على إحاطة بالعصر وبالظروف التي نشأ فيها ابن تيمية ويقيس ما يجري اليوم، حيث جيوش أمريكا وروسيا تفتك بالعراق والشام، على ما جرى بالأمس على يد التتر والفرنج- وقد فصل ابن الأثير القول في تاريخه الكامل ومنه اختصرتها، فقال:
(ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة: ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام:
لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقًا؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد! التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا! فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا… قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[22]، لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قومًا خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكًا، وتخريبًا، وقتلًا، ونهبًا، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمذان، وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع مثله، ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز، ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلًا، ونهبًا، وتخريبًا؛ ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عددًا، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال، وفارقوا بلادهم، واستولى هؤلاء التتر عليها، فعلوا هذا في أسرع زمان، ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير.
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد.
هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحدًا، إنما رضي من الناس بالطاعة؛ وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلًا، وأعدل أهل الأرض أخلاقًا وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها، ويترقب وصولهم إليه، ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير؛ وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلًا لا يحتاجون إلى شيء من خارج.
وأما ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا، فإنهم يأكلون جميع الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة، إن شاء الله تعالى.
خروج الفرنج وغزوهم الشام ومصر:
ومنها خروج الفرنج، لعنهم الله، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة.
ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر، والمعين، والذاب عن الإسلام معدوم، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ}، فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع، وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمداً كان قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}) [23]
بداية خروج التتار سنة 616 هـ:
28196010.jpg
وقد قص ابن الأثير في كامله في التاريخ بداية خبر جنكيز خان فقال: (ذكر خروج التتر إلى تركستان وما وراء النهر وما فعلوه: في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين، وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر، وكان السب في ظهورهم أن ملكهم، ويسمى بجنكيزخان، المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان… فملك كاشغار، وبلاساغون، وجميع تلك البلاد، وأزال عنها التتر الأولى، فلم يظهر لهم خبر، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه…
وتجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادرًا ليسبق خبره ويكسبهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر… فأمر أهل بخارى وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمع الذخائر للامتناع، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها، وفي سمرقند خمسين ألفًا، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
فلما فرغ من ذلك رحل عائدًا إلى خراسان، فعبر جيحون، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك…
ودخل جنكزخان -بخارى- بنفسه وأحاط بالقلعة، ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ومن تخلف قتل، فحضروا جميعهم، فأمرهم بطم الخندق، فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبحق سمى الله نفسه صبورًا حليمًا، وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا…
ثم أمرهم بالخروج من البلد، فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم، ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاط بالمسلمين، فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم…).[24]
ثم ساق ابن الأثير خبر ما فعلوه في المشرق الإسلامي، وقد عايش تلك الأحداث، وما أصاب الناس من هلع، فقال: (ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين، لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن[25].
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها، وناهيك به سعة بلاد، وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك، ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم.
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم، بين الغرب والشمال، ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط، وأقاموا فيها، ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها، ولا إخراجهم منها، وباقي ديار مصر على خطر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…
فوصلوا إلى تبريز، وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة، فحصروها وليس بها صاحب يمنعها… فلما حصروها قاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق، وزحفوا إليها، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قتلوهم، فكانوا يقاتلون كرهاً، وهم المساكين، كما قيل: (كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر)؛ وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوة منه.
فأقاموا عليها عدة أيام، ثم ملكوا عنوة وقهرًا رابع صفر، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما يصلح لهم، وما لا يصلح لهم أحرقوه، واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم: نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا؛ فإذا نادى أولئك خرج من اختفى؛ فيؤخذ ويقتل.
وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلًا، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيرًا؛ وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحدًا واحدًا حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس؛ فلا يدفعون عن نفوسهم قليلًا ولا كثيرًا، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل؛ فخفنا، حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفًا من السيف، وجاءت كتب مظفر الدين، صاحب إربل، إلى بدر الدين، صاحب الموصل، يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جمعًا صالحًا من عسكره، وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر، ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد، فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس، ويمنعهم من الجواز إليه.
ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا ليمنعوا التتر، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل، لصعوبتها، إلى هذه الناحية، ويطرقون العراق، فسار مظفر الدين من إربل في صفر، وسار إليهم جمع من عسكر الموصل، وتبعهم من المتطوعة كثير.
وأرسل الخليفة أيضًا إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم، فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسيروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج، فاعتذر إلى الخليفة بأخيه، وقوة الفرنج، وإن لم يتداركها، وإلا خرجت هي وغيرها، وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر. وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط…).[26]
سقوط الشام وتسليم القدس للحملة الصليبية سنة 626 هـ:
ثم فصل ابن الأثير أخبار تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة، فقال بعد ذلك عن سقوط الشام والقدس بيد الفرنج: (ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة: ذكر عود طائفة من التتر إلى الري وهمذان وغيرهما: أول هذه السنة وصل طائفة من التتر من عند ملكهم جنكيز خان، وهؤلاء غير الطائفة الغربية التي ذكرنا أخبارها قبل وصول هؤلاء الري؛ وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها، فلم يشعوا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها، فلم يمتنعوا عنهم، فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخربوه، وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك، ثم إلى قم وقاشان، وكانتا قد سلمتا من التتر أولاً، فإنهم لم يقربوهما، ولا أصاب أهلهما أذى، فأتاهما هؤلاء وملكوهما، وقتلوا أهلهما، وخربوها، وألحقوهما بغيرهما من البلاد الخراب.
ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون، ثم قصدوا همذان، وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها، فأبادوهم قتلًا وأسرًا ونهبًا، وخربوا البلد).[27]
ذكر احتلال التتر خراسان:
قال ابن الأثير: (لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ، فطلب أهلها الأمان، فأمنوهم، فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة، ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان، وميمند، وأندخوي، وقاريات، فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم[28]…
ثم إن جنكيز خان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وهم عازمون على لقاء التتر، ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم، والاستيلاء عليهم؛ فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون؛ وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة، حتى إن بعضهم أسر، فقال وهو عند المسلمين: إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا، وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا.
فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم، ولوا منهزمين، فقتل التتر منهم وأسروا الكثير، ولم يسلم إلا القليل، ونهبت أموالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها، وجدوا في حصرها، ولازموا القتال.
وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر، وكثرة القتل والأسر فيهم، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتر إلى الأمي الذي بها متقدماً على من فيها يقولون له: لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك؛ فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد، فأمنهم، فخرج إليهم، فخلع عليه ابن جنكزخان، واحترمه، وقال له: أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه، وأعطيناه إقطاعًا، ويكون معنا.
فلما حضروا عنده، وتمكن منهم، قبض عليهم وعلى أميرهم، وكتفوهم؛ فلما فرغ منهم قال لهم: اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه، وأرباب الأموال في جريدة، واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى، واعرضوا ذلك علينا؛ ففعلوا ما أمرهم، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم، فخرجوا كلهم، ولم يبق فيه أحد، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم، فأحضروا، وضربت رقابهم صبرًا والناس ينظرون إليهم ويبكون.
وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال، فكان يومًا مشهودًا من كثرة الصراخ والبكاء والعويل، وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم، وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال، فربما مات أحدهما من شدة الضرب، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه، ثم إنهم أحرقوا البلد، وأحرقوا تربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلبًا للمال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة، وقال: هؤلاء عصوا علينا، فقتلوهم أجمعين؛ وأمر بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم.
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي، فلم يكن لهم بالتتر قوة، فملكوا المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم، وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يومًا يخربون، ويفتشون المنازل عن الأموال.
وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير، ونجوا إلى بلاد الإسلام، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس، ففعلوا بها كذلك أيضًا، وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى، والرشيد، حتى جعلوا الجميع خرابًا.
ثم ساروا إلى هراة، وهي من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها، وقتلوا منهم البعض، وجعلوا عند من سلم منهم شحنة[29]، وساروا إلى غزنة، فلقيهم جلال الدين بن خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله، فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهراً وعنوة، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا الأموال وسبوا الحريم، ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان، ففعلوا بها كذلك، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة…
ذكر ملكهم خوارزم وتخريبها:
followers-of-Genghis-Khan.jpg
وأما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم، فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد، فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير، وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة، فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس، ودام الحصر لهم خمسة أشهر، فقتل من الفريقين خلق كثير، إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور.
فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد، فأمدهم بخلق كثير، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفاً متتابعاً، فملكوا طرفاً منه، فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا، فلم يقدروا على إخراجهم، ولم يزالوا يقاتلونهم، والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة، وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا كل ما فيه؛ ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء، فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء، ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله، منهم من يختفي، ومنهم من يهرب، ومنهم من يخرج ثم يسلم، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو؛ وأما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء، أو قتله الهدم، فأصبحت خرابًا يبابًا:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد النصر، فلقد عمت هذه المصيبة الإسلام وأهله، فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها، لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيرًا، مضى الجميع تحت السيف…)[30]
غزو الفرنج مصر وحصار دمياط:
قال ابن الأثير: (لما توفي الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقًا حسنًا، وهم: الملك الكامل محمد، صاحب مصر، والملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى، وهو صاحب ديار الجزيرة وخلط، واجتمعت كلمتهم على دفع الفرنج عن الديار المصرية.
ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصرونها، صادفه أخوه المعظم من الغد، وقويت نفسه، وثبت قدمه، ولولا ذلك لكان الأمر عظيماً، وقد ذكرنا ذلك مفصلًا، ثم إنه عاد من مصر وسار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرتين يستنجده على الفرنج، ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر، وأزالوا الفرنج عن الديار المصرية، كما ذكرناه قبل، فكان اتفاقهم على الفرنج سبباً لحفظ بلاد الإسلام، وسر الناس أجمعون بذلك…
ذكر خروج الفرنج إلى الشام وعمارة صيدا:
وفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج من بلادهم، التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد، إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثر جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحرب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان، ولقبه أنبرور – إمبراطور – قيل: معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حيًا، وكان شهمًا شجاعًا مقدامًا؛ فلما توفي المعظم، كما ذكرناه، وولي بعده ابنه وملك دمشق طمع الفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا، وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها، واستولوا عليها.
وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها، تبنين وهونين وغيرهما، وقد تقدم ذكر ذلك قبل مستقصى؛ فعظمت شوكة الفرنج، وقوي طمعهم، واستولى في طريقه على جزيرة قبرس، وملكها، وسار منها إلى عكا، فارتاع المسلمون لذلك، والله تعالى يخذله وينصر المسلمين بمحمد وآله؛ ثم إن ملكهم أنبرور وصل إلى الشام…
في هذه السنة، في شوال، سار الملك الكامل محمد ابن الملك العادل، صاحب مصر، إلى الشام، فوصل إلى البيت المقدس، حرسه الله تعالى، وجعله دار الإسلام أبداً؛ ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق؛ فلما سمع الأشرف يستنجده، ويطلبه ليحضر عنده بدمشق؛ فسار إليه جريدة، فدخل دمشق.
فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعلمه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه؛ وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمروا صيدا، وبعض قيسارية، ولم يمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما ينقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟ ثم إنهم ما يقنعون حينئذ بمن أخذوه، ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى.
وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنج على البيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل، وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصلوه ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانها…
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة:
ذكر تسليم البيت المقدس إلى الفرنج:
في هذه السنة، أول ربيع الآخر، تسلم الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس صلحًا، أعاده الله إلى الإسلام سريعًا.
وسبب ذلك ما ذكرناه سنة خمس وعشرين وستمائة من خروج الأنبرور، ملك الفرنج، في البحر من داخل بلاد الفرنج إلى ساحل الشام، وكانت عساكره قد سبقته، ونزلوا بالساحل، وأفسدوا فيما يجاورهم من بلاد المسلمين، ومضى إليهم، وهم بمدينة صور، طائفة من المسلمين يسكنون الجبال المجاورة لمدينة صور وأطاعوهم، وصاروا معهم، وقوي طمع الفرنج بموت الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب دمشق.
ولما وصل الأنبرور إلى الساحل نزل بمدينة عكا، وكان الملك الكامل، رحمه الله تعالى، ابن الملك العادل، صاحب مصر، قد خرج من الديار المصرية يريد الشام بعد وفاة أخيه المعظم، وهو نازل بتل العجول، يريد أن يملك دمشق من الناصر داود ابن أخيه المعظم، وهو صاحبها يومئذ، وكان داود لما سمع بقصد عمه الملك الكامل له قد أرسل إلى عمه الملك الأشرف، صاحب البلاد الجزرية، يستنجده، ويطلب منه المساعدة على دفع عمه عنه، فسار إلى دمشق، وترددت الرسل بينه وبين أخيه الملك الكامل في الصلح، فاصطلحا، واتفقا، وسار الملك الأشرف إلى الملك الكامل واجتمع به.
فلما اجتمعا ترددت الرسل بينهما وبين الأنبرور، ملك الفرنج، دفعات كثيرة، فاستقرت القاعدة على أن يسلموا إليه البيت المقدس ومعه مواضع يسيرة من بلاده، ويكون باقي البلاد مثل الخليل، ونابلس، والغور، وملطية، وغير ذلك بيد المسلمين، ولا يسلم إلى الفرنج إلا البيت المقدس والمواضع التي استقرت معه.
وكان سور البيت المقدس خرابًا قد خربه الملك المعظم، وقد ذكرنا ذلك، وتسلم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين…).[31]
ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور:
لما فرغ التتر من خراسان وعادوا إلى ملكهم، جهز جيشًا كثيفًا وسيره إلى غزنة، وبها جلال الدين بن خوارزم شاه مالكاً لها، وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه، قيل: كانوا ستين ألفاً، فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزم شاه إلى موضع يقال له بلق، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالاً شديداً، وبقوا كذلك ثلاثة أيام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه، فسير إليهم جنكيزخان عسكراً فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه.
فما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولاً إلى جنكيزخان يقول له: في أي موضع تريد أن يكون الحرب حتى نأتي إليه؟ فجهز جنكيزخان عسكرًا كثيرًا، أكثر من الأول مع بعض أولاده، وسيره إليه، فوصل إلى كابل، فتوجه العسكر الإسلامي إليهم، وتصافوا هناك، وجرى بنيهم قتال عظيم، فانهزم الكفار ثانياً، فقتل كثير منهم، وغنم المسلمون ما معهم، وكان عظيمًا؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة… فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكيز خان قد وصل في جموعه وجيوشه، فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر، ولم يقدر على المقام، سار نحو بلاد الهند، فوصل إلى ماء السند، وهو نهر كبير، فلم يجد من السفن ما يعبر فيه.
وكان جنكيزخان يقص أثره مسرعًا، فلم يتمكن جلال الدين من العبور، حتى أدركه جنكيزخان في التتر، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم، وكانوا في ذلك كالأشقر إن تأخر يقتل وإن تقدم يعقر، فتصافوا واقتتلوا أشد قتال، اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فقتل الأمير ملك خان المقدم ذكره وخلق كثير، وكان القتل في الكفار أكثر، و الجراح أعظم، فرجع الكفار عنهم، فأبعدوا، ونزلوا على بعد، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم، وقد ازدادوا ضعفاً بمن قتل منهم وجرح، ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك، أرسلوا يطلبون السفن، فوصلت، وعبر المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة، وقد قويت نفسوهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العسكر والمحامي، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا الحريم، ولم يبق أحد، وخربوها وأحرقوها، وفعلوا بسوادها كذلك، ونهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس، خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.[32]
ذكر ملك التتر مراغة:
وفي هذه السنة حصر التتر مراغة من أذربيجان، فامتنع أهلها، ثم أذعن أهلها بالتسليم على أمان طلبوه، فبذلوا لهم الأمان، وتسلموا البلد وقتلوا فيه إلا أنهم لم يكثروا القتل وجعلوا في البلد شحنة، وعظم حينئذ شأن التتر، واشتد خوف الناس منهم بأذربيجان، فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصرًا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين[33]، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}…[34]
ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة وما فعلوه في البلاد من الفساد:
لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد، نهب التتر سواد آمد وأرزن وميافارقين، وقصدوا مدينة أسعرد، فقاتلهم أهلها، فبذل لهم التتر الأمان، فوثقوا منهم واستسلموا، فلما تمكن التتر منهم وضعوا فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم، فلم يسلم منهم إلا من اختفى؛ وقليل ما هم.
ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها، فعادوا عنها، ومضوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنهبوا، وقتلوا، وعادوا. [35]
ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القوم إلى قرية تسمى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصل، فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها، فقتلوا كل من فيه.
وحكي لي عن رجل منهم أنه قال: اختفيت منهم بيت فيه تبن، فلم يظفروا بي، وكنت أراهم من نافذة في البيت، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان، فيقول: لا بالله، فيقتلونه، فلما فرغوا من القرية، ونهبوا ما فيها، وسبوا الحريم، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل، ويضحكون، ويغنون بلغتهم بقول: لا بالله!
ومضى طائفة منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها، وقتلوا فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرًا، وأحرقوا المدينة.
وحكى إنسان من أهلها قال: لو كان عندنا خمس مائة فارس لم يسلم من التتر أحد، لأن الطريق ضيق بين الجبال، والقليل يقدر على منع الكثير…
ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس.
ولقد بلغني أن إنسانًا منهم أخذ رجلًا، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفًا وقتله به.
وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكينًا وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير.
وصول طائفة من التتر إلى إربل ودقوقا:
في هذه السنة، في ذي الحجة، وصل طائفة من التتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى أن دخلوا بلد إربل، فنهبوا القرى، وقتلوا من ظفروا به من أهل تلك الأعمال، وعملوا الأعمال الشنيعة التي لم يسمع بمثلها من غيرهم.
وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها، فالله سبحانه وتعالى يلطف بالمسلمين، ويرحمهم، ويرد هذا العدو عنهم، وخرجت هذه السنة ولم نتحقق لجلال الدين خبرا، ولا نعلم هل قتل، أو اختفى، لم يظهر نفسه خوفاً من التتر، أو فارق البلاد إلى غيرها، والله أعلم.
ذكر طاعة أهل أذربيجان للتتر:
في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموال والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتهم أن جلال الدين لما انهزم على آمد من التتر، وتفرقت عساكر، وتمزقوا كل ممزق، وتخطفهم الناس، وفعل التتر بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنعهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوك الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاع أخبار جلال الدين، فإنه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سقط في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموال والثياب…[36]
ولقد وقفت على كتاب وصل من تاجر من أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافر، لعنه الله، ما نقدر نصفه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوب المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفة التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدهم النهب، إنما أرادوا أن يعملوا هل في البلاد من يردهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلاد من مانع ومدافع، وأن البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعهم، وهم في الربيع يقصدونك، وما يبقى عندكم مقام، إلا إن كان في بلد الغرب، فإن عزمهم على قصد البلاد جميعها، فانظروا لأنفسكم.
هذا مضمون الكتاب، فإن لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأما جلال الدين فإلى آخر سنة ثمان وعشرين لم يظهر له خبر، وكذلك إلى سلخ صفر سنة تسع لم نقف له على حال، والله المستعان.).[37]
وإلى هذه السنة انتهى ابن الأثير في تاريخه الكامل حيث توفي رحمه الله سنة 630هـ ولم يدرك ما جرى بعد ذلك من محن كبرى على يد التتر!
وأكمل ابن كثير في تاريخه خبر هذه الفواجع فقال: (وانقطع خبر جلال الدين فلا يدرى أين سلك، ولا أين ذهب، وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم، وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم، كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم: لا بالله، لا بالله، فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله، وهذه طامة عظمى وداهية كبرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وحج الناس في هذه السنة من الشام، وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح، ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج…[38]
قلت وهذا آخر ما وجد من (الكامل في التاريخ) للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد ابن الاثير رحمه الله تعالى…[39]
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة: وفيها قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين.[40]
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة: فيها حاصرت التتار إربل بالمجانيق، ونقبوا الأسوار حتى فتحوها عنوة، فقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم، وامتنعت عليهم القلعة مدة، وفيها النائب من جهة الخليفة، فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها، وانشمروا إلى بلادهم، وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار…[41]
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة: فيها سلم الصالح إسماعيل صاحب دمشق حصن شقيف أرنون لصاحب صيدا الفرنجي، فاشتد الإنكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد، والشيخ أبي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية، فاعتقلهما مدة ثم أطلقهما وألزمهما منازلهما[42]، وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الأبار، ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك، ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية، فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والإكرام، وولاه خطابة القاهرة وقضاء مصر…[43]
وفيها قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيزخان إلى ملوك الإسلام يدعوهم إلى طاعته ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم.
وعنوان الكتاب: من نائب رب السماء، ماسح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب قان قان…[44]
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة: فيها توفي الخليفة المستنصر بالله، وخلافة ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة.
وكان جميل الصورة حسن السريرة، جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه…[45]
وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما، رئيسا متوددا إلى الناس، وكان جميل الصورة، حسن الأخلاق، بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه وأرضاه…[46]
خلافة المستعصم بالله أمير المؤمنين: وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هولاكو بن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم الله، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله، بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر المنصور، بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد، بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد، بن أمير المؤمنين المستضئ بالله أبي محمد الحسن، بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف، بن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد، بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد، بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله، وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر، وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضا، ولم يتفق هذا لأحد قبل المستعصم، أن في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه.
لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة استدعي هو من التاج يومئذ بعد الصلاة، فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من العمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظا وتجويدا، وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الأداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شيء من التفسير وحل المشكلات، وكان مشهورا بالخير مشكورا، مقتديا بأبيه المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الأمور في أيامه على السداد والاستقامة بحمد الله، وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري، فبايعه أولا بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولي الحل والعقد والعامة وغيرهم، وكان يوما مشهودا، ومجمعا محمودا، ورأيا سعيدا، وأمرا حميدا، وجاءت البيعة من سائر الجهات والأقطار والبلدان والأمصار، وخطب له في سائر البلدان، والأقاليم والرساتيق، وعلى سائر المنابر شرقا وغربا، بعدا وقربا، كما كان أبوه وأجداده، رحمهم الله أجمعين…[47]
ثم دخلت سنة اثنين وأربعين وستمائة: فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضي الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم، وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة…[48]
وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق، فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال والأقمشة والعساكر، فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك، والمنصور صاحب حمص، مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا، فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة، هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية، على رؤوس أطلاب المسلمين، وكانت كؤوس الخمر دائرة بين الجيوش، فنابت كؤوس المنون، عن كؤوس الزرجون، فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين ألف، وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم، وخلقا من أمراء المسلمين، وبعثوا بالأسارى إلى الصالح أيوب بمصر، وكان يومئذ يوما مشهودا وأمرا محمودا، ولله الحمد.
وقد قال بعض أمراء المسلمين قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح.
وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا، وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها، فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة…[49]
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله، فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم، وهزموا من بين أيديهم، فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم، خوفا من غائلة مكرهم…[50]
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة: فيها كانت وفاة الملك الصالح أيوب، وقتل ابنه توران شاه، وتولية المعز عز الدين أيبك التركماني.
وفيها هجمت الفرنج على دمياط -مصر- فهرب من كان فيها من الجند والعامة، واستحوذ الفرنج على الثغر، وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين، وذلك في ربيع الأول منها، فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش، وشنق خلقا ممن هرب من الفرنج، ولامهم على ترك المصابرة قليلا ليرهبوا عدو الله وعدوهم، وقوي المرض وتزايد بالسلطان جدا، فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة، فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته، وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه، وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء.
وأعلمت إلى أعيان الأمراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم توران شاه وهو بحصن كيفا، فأقدموه إليهم سريعا، وذلك بإشارة أكابر الأمراء منهم فخر الدين بن الشيخ، فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين، فركب في عصائب الملك، وقاتل الفرنج فكسرهم، وقتل منهم ثلاثين ألفا، ولله الحمد، وذلك في أول السنة الداخلة.
ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه، ضربه بعض الأمراء وهو عز الدين أيبك التركماني…[51]
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وستمائة: في ثالث المحرم يوم الأربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط، فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف، وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد.
ثم قتل جماعة من الأمراء الذين أسروا، وكان فيمن أسر ملك الفرنسيس وأخوه، وأرسلت غفارة ملك الأفرنسيس إلى دمشق فلبسها نائبها في يوم الموكب، وكانت من سقرلاط تحتها فرو سنجاب…[52]
المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب:
لما قتل الأمراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن أستاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب، وكان ملكه بعد أبيه بشهرين، كما تقدم بيانه، ولما انفصل أمره بالقتل نادوا فيما بينهم: لا بأس لا بأس، واستدعوا من بينهم الأمير عز الدين أيبك التركماني، فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز، وركبوا إلى القاهرة، ثم بعد خمسة أيام أقاموا لهو صبيا من أيوب ابن عشر سنين، وهو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف بن المسعود إقسيس بن الكامل، وجعلوا المعز أتابكه، فكانت السكة والخطبة بينهما، وكاتبوا أمراء الشام بذلك، فما تم لهم الأمر بالشام، بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية، وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل، حظية الصالح أيوب، فتزوجت بالمعز، وكانت الخطبة والسكة لها، يدعى لها على المنابر أيام الجمع بمصر وأعمالها، وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل، والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها، مدة ثلاثة أشهر قبل المعز، ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل…[53]
ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية: فيها وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد، فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران ورأس العين، فأخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية، وستمائة ألف دينار، وكان عدة من قتلوا في هذه السنة من أهل الجزيرة نحوا من عشرة آلاف قتيل، وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال السبط: وفيها حج الناس من بغداد، وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر…[54]
وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيزخان، عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله – وبالله المستعان…
… ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة: فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا، كما ورد في الأثر “لن يغني حذر عن قدر” وكما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}، وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب..
وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها، وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل – إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الأمر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه.[55]
وهو أن هولاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه ولا بالى به حتى أزف قدومه، ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم وبقية الجيش، كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو؛ فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجه نصير الدين الطوسي، والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملا من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسنوا له قتل الخليفة، فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله، ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي، والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت، وانتزعها من أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي، وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو، وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فقتلوه رفسا، وهو في جوالق لئلا يقع على الأرض شيء من دمه، خافوا أن يؤخذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل بل خنق، ويقال بل أغرق، فالله أعلم، فباؤوا بإثمه وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده -وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات- ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الإزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتيين، والله غالب على أمره، وقد رد كيده في نحره، وأذله بعد العزة القعساء، وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والاطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الارض والسماء.
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: {وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً}.
وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاويا على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر وعفي قبره، وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر، ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. [56]
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدا بعد واحد، منهم الديودار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.
وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.
وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن النيار،وقتل الخطباء والأئمة، وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد، وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الأسفل من النار.
ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر، كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.[57]
وكان رحيل السلطان المسلط هولاكو خان عن بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة إلى مقر ملكه، وفوض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر، فوض إليه الشحنكية بها، وإلى الوزير ابن العلقمي، فلم يمهله الله ولا أهمله، بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، في مستهل جمادى الآخرة عن ثلاث وستين سنة، وكان عنده فضيلة في الإنشاء ولديه فضيلة في الأدب، ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا، فمات جهدا وغما وحزنا وندما، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فولي بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقية هذا العام، ولله الحمد والمنة.[58]
وقال ابن الوردي في تاريخه: (ذكر استيلاء التتر على بغداد: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة : فيها قصد هولاكو ملك التتر بغداد، وملكها في العشرين من المحرم، وقتل الخليفة المستعصم بالله، وسببه أن وزير الخليفة مؤيد الدين بن العلقمي، كان رافضيًا وأهل الكرخ روافض، فافتتن السنية والشيعة ببغداد كعادتهم، فأمر أبو بكر ابن الخليفة ركن الدين الدواتدار العسكر فنهبوا الكرخ، وركبوا من النساء الفواحش، فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي، وكاتب التتر وأطعمهم في بغداد وطمع الخبيث الغوي في إقامة خليفة علوي، قلت : وكتب ابن العلقمي إلى وزير إربل يطلعه على ذلك برسالة منها : إنه قد نهب الكرخ المكرم، وقد ديس البساط النبوي المعظم، وقد نهبت العترة العلوية… وكان عسكر بغداد مائة ألف فارس، فحسن ابن العلقمي وأمثاله للمستعصم قطعهم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم، فصار عسكر بغداد دون عشرين ألفاً، فأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه يستدعيهم فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم، قلت: أراد ابن العلقمي نصرة الشيعة فنصر عليهم، وحاول الدفع عنهم فدفع إليهم، وسعى ولكن في فسادهم، وعاضد ولكن على سبي حريمهم وأولادهم، وجاء بجيوش سلبت عنه النعمة، ونكبت الإمام والأمة، وسفكت دماء الشيعة والسنة، وخلدت عليه العار واللعنة .
وأتى الخائن الخبيث بمغل *** طبق الأرض بغيهم تطبيقًا
هكذا ينصر الجهول أخاه *** ومن البر ما يكون عقوقًا
وخرج عسكر الخليفة لقتالهم، ومقدمهم ركن الدين الدواتدار، واقتتلوا على مرحلتين من بغداد قتالًا شديدًا؛ فانهزم عسكر الخليفة ودخل بعضهم بغداد، وسار بعضهم إلى جهة الشام، ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي، ونزل المقدم تاجو بالجانب الغربي على القرية قبالة دار الخلافة، وخرج ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه، وعاد إلى الخليفة المستعصم، وقال: إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم، ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر، وحسن له الخروج إلى هولاكو، فخرج إليه المستعصم في جمع من أكابر أصحابه فأنزل في خيمة، ثم استدعى ابن العلقمي الفقهاء والأماثل، فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسين، ومنهم ملك الأمراء ركن الدين الدوايدار والمستنصري أحد الشجعان وأستاذ دار الخلافة العلامة محيي الدين بن الجوزي وأولاده، وكذلك صار يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة موهمًا لهم أنهم يحضرون عقد ابن الخليفة على بنت هولاكو، فلما تكاملوا قتلهم التتر عن آخرهم، ثم مدوا الجسر وعدي تاجو ومن معه وبذلوا السيف في بغداد وهجموا دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف، ولم يسلم إلا من كان صغيرًا فأخذ أسيرًا ودام القتل والنهب في بغداد أربعين يومًا، وممن استشهد ببغداد العلامة الشيخ يحيى بن يوسف الصرصري الضرير الشاعر، ثم نودي بالأمان، وأما الخليفة وابنه أبا بكر أيضًا قتلا خنقًا، وقيل وضعًا في عدل ورفسا حتى ماتا، وقيل غرقا في دجلة، وهو المستعصم عبد الله أبو أحمد، بن المستنصر أبي جعفر، بن منصور، بن محمد الطاهر، بن الإمام الناصر أحمد، وكان حسن الديانة لكنه ضعيف الرأي، وغلب عليه ابن العلقمي وأمراء دولته وختم له بخير، ومدة خلافته نحو ست عشرة سنة، وهو آخر الخلفاء ببغداد من بني العباس، وابتداء دولتهم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وهي السنة التي بويع فيها للسفاح بالخلافة، وقتل فيها مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية، فمدة خلافتهم خمسمائة سنة، وأربع وعشرون سنة، وهم سبعة وثلاثون خليفة).[59]
وقال ابن خلدون في تاريخه: (ظهور التتر: ظهرت هذه الامة من أجناس الترك سنة ست عشرة وستمائة، وكانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها وبين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر، وكان ملكهم يسمى جنكيز خان، من قبيلة يعرفون نوحي، فسار إلى بلاد تركستان وما وراء النهر وملكها من أيدى الخطا، ثم حارب خوارزم شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان وبلاد الجبل، ثم تخطى أرانيه فملكها، ثم ساروا إلى بلاد شروان وبلد اللان واللكز فاستولوا على الأمم المختلفة بتلك الأصقاع، ثم ملكوا بلاد قفجاق، وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، فملكوا ذلك كله في سنة أو نحوها، وفعلوا من العيث والقتل والنهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمان، وهزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش، فلحق بجزيرة في بحر طبرستان فامتنع بها إلى أن مات سنة إحدى وعشرين سنة من ملكه، ثم هزموا ابنه جلال الدين بغزنة، واتبعه جنكزخان إلى نهر السند فعبر إلى بلاد الهند وخلص منهم، وأقام هنالك مدة، ثم رجع سنة ثنتين وعشرين إلى خورستان والعراق، ثم ملك أذربيجان وأرمينية إلى أن قتله المظفر، حسبما نذكر ذلك كله مقسما بين دولتهم ودولة بني خوارزم شاه أو مكررا فيهما، فهناك تفصيل هذا المحل من أخبارهم.[60]
وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصر: ثم توفي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة لتسعة أشهر ونصف من ولايته، وكانت طريقته مستقيمة، وأخباره في العدل مأثورة…
ولما توفي بويع ابنه أبو جعفر المستنصر، وسلك مسالك أبيه، الا أنه وجد الدولة اختلفت، والأعمال قد انتقضت، والجباية قد انتقصت أو عدمت، فضاقت عن أرزاق الجند وأعطياتهم، فأسقط كثيرا من الجند، واختلفت الأحوال وهو الذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العباسية بالأندلس آخر دولة الموحدين بالمغرب، فولاه عليها، وذلك سنة تسع وعشرين وستمائة، كما يذكر في أخبارهم، ولآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غياث الدين كنجسرو آخر ملوك بنى قليج أرسلان، ثم تخطوها إلى بلاد أرمينية فملكوها، ثم استأمن إليهم غياث الدين فولوه من قبلهم وفى طاعتهم، كما يذكر في أخبارهم، ان شاء الله تعالى.
وفاة المستنصر وخلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد: لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد في النطاق الذى بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدمنا، ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة، وتملك التتر سائر البلاد، وتغلبوا على ملوك النواحي ودولهم أجمعين، ثم زاحموهم في هذا النطاق وملكوا أكثره، ثم توفي المستنصر سنة إحدى وأربعين لست عشرة سنة من خلافته، وبويع بالخلافة ابنه عبد الله، ولقب المستعصم، وكان فقيها محدثا، وكان وزيره ابن العلقمي رافضيا، وكانت الفتنة ببغداد لا تزال متصلة بين الشيعة وأهل السنة، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب، وبين العيارين والدعار والمفسدين، مبدأ الأمراء الأول.[61]
فلا تتجدد فتنة بين الملوك وأهل الدول إلا ويحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصة زيادة لما يحدث منهم أيام سكون الدول واستقامتها، وضاقت الأحوال على المستعصم، فأسقط أهل الجند، وفرض أرزاق الباقين على البياعات والأسواق وفى المعايش فاضطرب الناس، وضاقت الأحوال، وعظم الهرج ببغداد، ووقعت الفتن بين الشيعة وأهل السنة، وكان مسكن الشيعة بالكرخ في الجانب الغربي، وكان الوزير ابن العلقمي منهم، فسطوا بأهل السنة، وأنفذ المستعصم ابنه أبا بكر وركن الدين الدوادار وأمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ، ولم يراع فيه ذمة الوزير فآسفه ذلك، وتربص بالدولة وأسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفر من أرزاقهم في الدولة، وزحف هولاكو ملك التتر سنة ثنتين وخمسين إلى العراق، وقد فتح الري وأصبهان وهمذان وتتبع قلاع الإسماعيلية، ثم قصد قلعة الموت سنة خمس وخمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الصلايا صاحب إربل وفيه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم إلى هولاكو يستحثه لقصد بغداد ويهون عليه أمرها، فرجع عن بلاد الإسماعيلية وسار إلى بغداد واستدعى أمراء التتر، فجاءه بنحو مقدم العسكر ببلاد الروم، وقد كانوا ملكوها، ولما قاربوا بغداد برز للقائهم أيبك الدوادار في العساكر، فانكشف التتر أولا، ثم تذامروا فانهزم المسلمون، واعترضتهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة، فتبعهم التتر دونها، وقتل الدوادار وأسر الأمراء الذين معه، ونزل هولاكو بغداد، وخرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقمي، فاستأمن لنفسه ورجع بالأمان إلى المستعصم، وأنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم، فخرج المستعصم ومعه الفقهاء والأعيان فقبض عليه لوقته، وقتل جميع من كان معه، ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد ووطئ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت، وذلك سنة ست وخمسين، وركب إلى بغداد فاستباحها، واتصل العيث بها أياما، وخرج النساء والصبيان وعلى رؤوسهم المصاحف والألواح فداستهم العساكر وماتوا أجمعون، ويقال إن الذي أحصي ذلك اليوم من القتلى ألف ألف وستمائة ألف، واستولوا من قصور الخلافة وذخائرها على ما لا يبلغه الوصف، ولا يحصره الضبط والعد، وألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة، وكانت شيئا لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم، واعتزم هولاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته، ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروها سنين، ثم جهدهم الحصار واقتحموها عنوة وقتل حاميتها جميعا، وأميرهم من بني أيوب وهو الملك ناصر الدين محمد بن شهاب الدين غازى بن العادل أبي بكر بن أيوب، وبايع له صاحب الموصل وبعث بالهدية والطاعة وولاه على عمله.[62]
ثم بعث بالعساكر إلى إربل فحاصرها وامتنعت، فرحل العساكر عنها ثم وصل إليه صاحبها ابن الصلاية فقتله، واستولى على الجزيرة وديار بكر وديار ربيعة كلها، وتاخم الشأم جميع جهاته، حتى زحف إليه بعد كما يذكر، وانقرض أمر الخلافة الإسلامية لبني العباس ببغداد، وأعاد لها ملوك الترك رسما جديدا في خلفاء نصبوهم هنالك من أعقاب الخلفاء الأولين، ولم يزل متصلا لها العهد على ما نذكر الآن، ومن العجب أن يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في ذكر ملاحمه وكلامه على القرآن الذي دل على ظهور الملة الإسلامية العربية أن انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والستمائة، فكان كذلك! وكانت دولة بني العباس من يوم بويع للسفاح سنة ثنتين وثلاثين ومائة إلى أن قتل المستعصم سنة خمس وستمائة خمسمائة سنة وأربعا وعشرين، وعدد خلفائهم ببغداد سبعة وثلاثون خليفة، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.[63]
الخبر عن الخلفاء العباسيين المنصوبين بمصر من بعد انقراض الخلافة ببغداد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم:
لما هلك المستعصم ببغداد، واستولى التتر على سائر الممالك الإسلامية، فافترق شمل الجماعة، وانتثر سلك الخلافة، وهرب القرابة المرشحون وغير المرشحين من قصور بغداد، فذهبوا في الأرض طولا وعرضا، ولحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر، وهو عم المستعصم، وأخو المستنصر، وكان سلطانها يومئذ الملك الظاهر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر والقاهرة، فقام على قدم التعظيم، وركب لتلقيه، وسر بقدومه، وكان وصوله سنة تسع وخمسين، فجمع الناس على طبقاتهم، بمجلس الملك بالقلعة، وحضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأعزفا ثبت نسبه في بيت الخلفاء، بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة، ولم يكن شخصه خفيا، وبايع له الظاهر وسائر الناس، ونصبه للخلافة الإسلامية، ولقبوه المستنصر، وخطب له على المنابر، ورسم اسمه في السكة، وصدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان، وفوض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله، وكتب تقليده بذلك، وركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد، ونصب خيمة يجتمع الناس فيها، فاجتمعوا وقرأ كتاب التقليد، وقام السلطان بأمر هذا الخليفة ورتب له أرباب الوظائف والمناصب الخلافية، من كل طبقة وأجرى الأرزاق السنية، وأقام له الفسطاط والآلة، ويقال أنفق عليه في معسكره ذلك ألف ألف دينار من الذهب العين، واعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفر، وقد كان وصل على إثر الخليفة صاحب الموصل وهو إسماعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتر من ملكه بعد مهلك أبيه، فامتعض له الملك الظاهر ووعده باسترجاع ملكه، وخرج آخر هذه السنة مشيعا للخليفة ولصالح بن لؤلؤ ووصل بهما إلى دمشق، فبالغ هناك في تكرمتهما، وبعث معهما أميرين من أمرائه مددا لهما، وأمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات، فلما وصلوا الفرات بادر الخليفة بالعبور، وقصد الصالح بن لؤلؤ الموصل، واتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه، والتقا الجمعان بعانة، وصدموه هنالك فصادمهم قليلا، ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة، وأبلى في جهادهم طويلا، ثم استشهد رحمه الله، وسارت عساكر التتر إلى الموصل فحاصروا الصالح إسمعيل بها سبعة أشهر وملكوها عليه عنوة وقتل رحمه الله، وتطلب السلطان بمصر الملك الظاهر بعده آخر من أهل هذا البيت يقيم برسم الخلافة الإسلامية، وبينما هو يسائل الركبان عن ذلك، إذ وصل رجل من بغداد ينسب إلى الراشد بن المسترشد، قال صاحب حماة في تاريخه عن نسابة مصر أنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي ابن الأمير حسن بن الراشد.[64]
وعند العباسيين السليمانيين في درج نسبهم الثابت: أنه أحمد، بن أبي بكر، بن علي، بن أحمد، بن الإمام المسترشد، انتهى كلام صاحب حماة، ولم يكن في آبائه خليفة فيما بينه وبين الراشد، وبايع له بالخلافة الإسلامية ولقبه الحاكم، وفوض هو إليه الأمور العامة والخاصة، وخرج هو له عن العهدة، وقام حافظا لسياج الدين، باقإمة رسم الخلافة، وعمرت بذكره المنابر، وزينت باسمه السكة، ولم يزل على هذا الحال أيام الظاهر بيبرس وولديه بعده، ثم أيام الصالح قلاون وابنه الأشرف، وطائفة من دولة ابنه الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن هلك سنة إحدى وسبعمائة، ونصب ابنه أبو الربيع سليمان للخلافة بعده، ولقبه المستكفي، وحفظ به الرسم، وحضر مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون للقاء التتر في النوبتين اللتين لقيهم فيها، فاستوحش منه السلطان بعض أيامه، وأنزله بالقلعة وقطعه عن لقاء الناس عاما أو نحوه، ثم أذن له في النزول إلى بيته ولقائه الناس إذا شاء، وكان ذلك سنة ست وثلاثين، ثم تجددت له الوحشة وغربه إلى قوص سنة ثمان وثلاثين، ثم هلك الخليفة أبو الربيع سنة أربعين، قبل مهلك الملك الناصر رحمهما الله تعالى، وكان عهد بالخلافة لابنه أحمد، فويع له ولقب الحاكم، ثم بدا للسلطان في إمضاء عهد أبيه بذلك فعزله، واستبدل منه بأخيه إبراهيم ولقبه الواثق، وكان مهلك الناصر لأشهر قريبة من ذلك، فأعادوا أحمد الحاكم ولي عهد أبيه سنة إحدى وأربعين، وأقام في الخلافة إلى سنة ثلاث وخمسين، وهلك رحمه لله، فولي من بعده أخوه أبو بكر ولقب المعتضد، ولم يزل مقيما لرسم الخلافة إلى أن هلك لعشرة أعوام من خلافته سنة ثلاث وستين) انتهى من تاريخ ابن خلدون.[65]
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: (وكان وزير العراق مؤيد الدين ابن العلقمي رافضيا جلدا خبيثا داهية، والفتن في استعار بين السنة والرافضة حتى تجالدوا بالسيوف، وقتل جماعة من الروافض ونهبوا، وشكا أهل باب البصرة إلى الأمير ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر ابن الخليفة فتقدما إلى الجند بنهب الكرخ، فهجموه ونهبوا وقتلوا، وارتكبوا من الشيعة العظائم، فحنق الوزير ونوى الشر، وأمر أهل الكرخ بالصبر والكف، وكان المستنصر بالله قد استكثر من الجند حتى بلغ عدد عساكره مائة ألف فيما بلغنا، وكان مع ذلك يصانع التتار ويهاديهم ويرضيهم، فلما استخلف المستعصم كان خليا من الرأي والتدبير، فأشير عليه بقطع أكثر الجند، وأن مصانعة التتار وإكرامهم يحصل بها المقصود، ففعل ذلك، وأما ابن العلقمي فكاتب التتار وأطمعهم في البلاد، وأرسل إليهم غلامه وأخاه، وسهل عليهم فتح العراق، وطلب أن يكون نائبهم، فوعدوه بذلك، وتأهبوا لقصد بغداد، وكاتبوا صاحب الموصل لؤلؤ في تهيئة الإقامات والسلاح، فأخذ يكاتب الخليفة سرا ويهيء لهم الآلات والإقامات، وكان الوزير هو الكل، وكان لا يوصل مكاتبات صاحب الموصل ولا غيره إلى الخليفة، وإن وصلت سرا إلى الخليفة أطلع عليها ابن العلقمي ورد الأمر إليه، وكان تاج الدين ابن صلايا نائب إربل يحذر الخليفة ويحرك عزمه، والخليفة لا يتحرك ولا يستيقظ، فلما تحقق حركة التتار نحوه سير إليهم شرف الدين ابن محيي الدين ابن الجوزي رسولا يعدهم بأموال عظيمة، ثم سير مائة رجل إلى الدربند يكونون فيه ويطالعون الأخبار، فمضوا فلم يطلع لهم خبر، لأن الأكراد الذين هناك دلوا التتار عليهم فقتلوهم أجمعين فيما قيل، وركب هولاكو إلى العراق، وكان على مقدمته باجو نوين وفي جيشه خلق من الكرخ،[66] ومن عسكر بركة ابن عم هولاكو، ومدد من صاحب الموصل مع ولده الملك الصالح ركن الدين إسماعيل، وأقبلوا من جهة البر الغربي عن دجلة، فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدويدار، فالتقاهم يوم تاسوعاء على نحو مرحلتين من بغداد، فانكسر البغداديون بعد أن قتلوا عددا كثيرا من العدو، وأخذتهم السيوف وغرق بعضهم في الماء، وهرب الباقون، ثم ساق باجو نوين فنزل القرية مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة، وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي، ثم إنه ضرب سورا على عسكره وأحاط ببغداد، فأشار الوزير على المستعصم بمصانعتهم وقال: أخرج إليهم أنا في تقرير الصلح، فخرج وتوثق لنفسه من التتار، ورد إلى الخليفة وقال: إن الملك قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له، كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه فيجيبه مولانا إلى هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن يفعل ما يريد، والرأي أن تخرج إليه. فخرج في جماعة من الأعيان إلى هولاكو فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل، ليحضروا العقد يعني: فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم، وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، ثم مد الجسر وبكر باجو نوين ومن معه فبذلوا السيف في بغداد، واستمر القتل والسبي في بغداد بضعا وثلاثين يوما[67]، ولم ينج إلا من اختفى، فبلغنا أن هولاكو أمر بعد ذلك بعد القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانمائة ألف وكسر، والأصح أنهم بلغوا ثمانمائة ألف، ثم نودي بعد ذلك بالأمان، وظهر من كان قد تخبأ وهم قليل من كثير، فممن هلك في وقعة بغداد الخليفة، وابناه أحمد وأبو بكر، وابن الجوزي وأولاده الثلاثة… وأما الوزير ابن العلقمي فلم يتم [له] ما أراد، وما اعتقد أن التتر يبذلون السيف مطلقا، فإنه راح تحت السيف الرافضة والسنة وأمم لا يحصون، وذاق الهوان والذل من التتار، ولم تطل أيامه بعد ذلك، ثم ضرب هولاكو عنق باجو نوين، لأنه بلغه عنه أنه كاتب الخليفة وهو في الجانب الغربي، وأما الخليفة فقتل خنقا، وقيل: غم في بساط، وقيل: رفسوه حتى مات، وقتل الأمير مجاهد الدين الدويدار، والشرابي، والأستاذ دار محيي الدين ابن الجوزي وولداه، وسائر الأمراء والحجاب والكبار، وقالت الشعراء قصائد في مراثي بغداد وأهلها…
وكانت كسرة عسكر الخليفة يوم عاشوراء، ونزل هولاكو بظاهر بغداد في الرابع عشر من المحرم، وبقي السيف يعمل فيها أربعة وثلاثين يوما، وبلغنا أن آخر جمعة خطب فيها الخطيب ببغداد كانت الخطبة “الحمد لله الذي هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار”. وكان السيف يعمل في الجمعة الأخرى، فإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها.
ولتقي الدين إسماعيل بن أبي اليسر قصيدة مشهورة في بغداد، هي:
لسائل الدمـع عن بغداد أخبار *** فما وقــوفك والأحباب قد ساروا
يا زائرين إلى الـــزوراء لا تفدوا *** فما بذاك الحمى والدار ديّارُ
تاج الخلافة والربع الذي شرفت *** به المعالم قد عفاه إقفار
أضحى لعصف البلى في ربعه أثر *** وللدموع على الآثار آثار
يا نار قلبي من نار لحرب وغى *** شبت عليه ووافى الربع إعصار
علا الصليب على أعلى منابرها *** وقام بالأمر من يحويه زنار
وكم حريم سبته الترك غاصبة *** وكان من دون ذاك الستر أستار
وكم بدور على البدرية انخسفت *** ولم يعد لبدور الحي إبدار
وكم ذخائر أضحت وهي شائعة *** من النهاب وقد حازته كفار
وكم حدود أقيمت من سيوفهم *** على الرقاب وحطت فيه أوزار
ناديت والسبي مهتوك تجرهم *** إلى السفاح من الأعداء ذعار
وهم يساقون للموت الذي شهدوا *** النار يا رب من هذا ولا العار
والله يعلم أن القوم أغفلهم *** ما كان من نعم فيهن إكثار
فأهملوا جانب الجبار إذ غفلوا *** فجاءهم من جنود الكفر جبار
يا للرجال بأحداث يحدثنا *** بما غدا فيهم إعذار وإنذار
من بعد أسر بني العباس كلهم *** فلا أنار لوجه الصبح إسفار
ما راق لي قط شيء بعد بينهم *** إلا أحاديث أرويها وآثار
لم يبق للدين والدنيا وقد ذهبوا *** شوق لمجد وقد بانوا وقد باروا
إن القيامة في بغداد قد وجدت *** وحدها حين للإقبال إدبار
آل النبي وأهل العلم قد سبيوا *** فمن ترى بعدهم يحويه أمصار
ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا *** لكن أتت دون ما اختار أقدار
في أبيات أخر، وجملتها ستة وستون بيتا، قال ابن الكازروني وغيره: ما زالوا في قتل وسبي وتعذيب عظيم لاستخراج الأموال مدة أربعين يوما، فقتلوا النساء والرجال والأطفال أهل البلد وأهل سائر القرى ما عدا النصارى[68]، عين لهم شحاني حرسوهم، وانضم إليهم خلق فسلموا، وكان ببغداد عدة من التجار سلموا لفرمانات والتجأ إليهم خلق، وسلم من بدار ابن العلقمي، ودار ابن الدامغاني صاحب الديوان، ودار ابن الدوامي الحاجب، وما عدا ذلك ما سلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وأحرق معظم البلد، وكانت القتلى في الطرق كالتلول، ومن سلم وظهر خرجوا كالموتى من القبور، خوفا وجوعا وبردا، وسلم أهل الحلة والكوفة، أمنهم القان[69]، وبعث إليهم شحاني، وسلمت البصرة وبعض واسط، ووقع الوباء فيمن تخلف، فلا حول ولا قوة إلا بالله).[70]
فهذه بعض أحداث تلك الفترة وفواجعها، وفتنها ووقائعها، التي نشأ فيها ابن تيمية، وتشكل فيها وعيه، منذ كان طفلا مهاجرا، حتى أصبح ثائرا محررا…
وما زلنا مع ابن تيمية ومعركة الحرية؛ فللحديث بقية…
[1] ذلف الأنوف، أي: أنوفهم فطس غليظة قصيرة، والمجان المطرقة: التروس والدروع المطروقة المستديرة، وهي تماما وجوه التتر المغول الذين كانوا يلبسون الشعر، وينتعلون الشعر.
[2] الرد على المنطقيين (1 / 445)، الحديث رواه البخاري ح رقم 2928 و 2929 من طرق عن أبي هريرة، ورقم 3592 من حديث عمرو بن تغلب عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: (بين يدي الساعة تقاتلون قوما ينتعلون الشعر وتقاتلون قوما كأن وجوههم المجان المطرقة)، ومسلم ح رقم 2912 من طرق كثيرة عن أبي هريرة، ورواه ابن حبان في صحيحه ح رقم 6747 من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين كأن أعينهم حدق الجراد، عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المطرقة، يجيئون حتى يربطوا خيولهم بالنخل)، يعني نخل العراق، كما رواه ابن حبان بعده ح رقم 6748 من حديث أبي بكرة رضي الله عنه (إن ناسا من أمتي ينزلون بحائط يسمونه البصرة، عندها نهر يقال له دجلة، يكون لهم عليها جسر، ويكثر أهلها، ويكون من أمصار المهاجرين، فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء أقوام عراض الوجوه، حتى ينزلوا على شاطئ النهر، فيفترق أهلها على ثلاث فرق، فأما فرقة فتأخذ أذناب الإبل والبرية فيهلكون، وأما فرقة فيأخذون لأنفسهم ويكفرون، وأما فرقة فيجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، ويقاتلونهم وهم الشهداء)، وهذا ما تحقق فعلا كما ورد في هذه الصحاح عن النبي صلى الله عبيه وسلم كما أخبر على النحو الذي ذكر!
[3] وهي كتب الحديث التي كانت تبلغ عشرة آلاف كتاب بين مصنفات ومسانيد وصحاح وسنن ومعاجم وأجزاء روت هذه الأحاديث المتواترة في كتب المسلمين قبل خروج التتار بخمسة قرون.
[4] الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح – (6 / 88)
[5] ذيل طبقات الحنابلة (4/ 493)
[6] العقود الدرية – (1 / 18)
[7] مجموع الفتاوى (٣/ ٢٥٩)
[8] جامع المسائل لابن تيمية (5 / 304)
[9] ذيل طبقات الحنابلة (1 / 308)
[10] مجموع الفتاوى (27 / 507 – 509)
[11] مسالك الأبصار 5/ 678، والرد الوافر (1 / 83)
[12] صحيح مسلم ح رقم 2896.
[13] صحيح مسلم ح رقم 2913.
[14] اقتضاء الصراط المستقيم (2 / 243)
[15] كذا ولعل الصواب: يعاديه الناس وهم الملأ أعداء الأنبياء.
[16] مسالك الأبصار 5/697.
[17] مسالك الأبصار 27/495.
[18] معجم المحدثين ـ للذهبي (1 / 28)
[19] ذيل طبقات الحنابلة (4/ 496- 497)
[20] الرد الوافر (1 / 72)
[21] الرد الوافر (1/ 193)
[22] وهو تماما ما يشاهده العالم اليوم في سوريا والعراق وقصف الطيران الروسي والأمريكي للمدن وقتل مئات آلاف الأبرياء من الأطفال والنساء، مما لا يصدق حدوثه، لولا رؤية الناس له بالصوت والصورة والبث المباشر!
[23] الكامل في التاريخ – (5 / 304)
[24] الكامل في التاريخ (5 / 304)
[25]قارن بين عبارة ابن الأثير في شأن أمراء عصره ورؤساء هذا العصر الذين لا تتجاوز همتهم شواتهم!
[26] الكامل في التاريخ (5 / 311)
[27] الكامل في التاريخ (5 / 325)
[28] وهو ما تفعله أمريكا اليوم، وبريطانيا وفرنسا بالأمس، من توظيف جيوش كل بلد تحت الاحتلال في الدفاع عن المحتل، وقتال من يقاومه من الشعب!
[29] الشحنة كالقاعدة العسكرية تشحن بالمقاتلين لضبط المناطق التي يحتلها الجيش.
[30] الكامل في التاريخ (5 / 316 – 318)
[31] الكامل في التاريخ – (5 / 341 – 348)
[32] الكامل في التاريخ – (5 / 318)
[33] كما حالهم اليوم؛ فصاروا يتبرؤون من الجهاد ويصفونه بالإرهاب، بينما جيوش الغرب والشرق تغزو بلدانهم وتحتل أوطانهم!
[34] الكامل في التاريخ – (5 / 353)
[35] الكامل في التاريخ – (5 / 353)
[36] الكامل في التاريخ – (5 / 354)
[37] الكامل في التاريخ – (5 / 355)
[38] البداية والنهاية – (13 / 150)
[39] البداية والنهاية – (13 / 152)
[40] البداية والنهاية – (13 / 158)
[41] البداية والنهاية – (13 / 169)
[42] وهو تماما ما يحدث اليوم لكل عالم أو مصلح يرفض ما تقوم به الحكومات من التفريط بمصالح المسلمين فيكون جزاؤهم السجن أو التهجير!
[43] البداية والنهاية – (13 / 181)
[44] البداية والنهاية – (13 / 182)
[45] البداية والنهاية – (13 / 185)
[46] البداية والنهاية – (13 / 187)
[47] البداية والنهاية – (13 / 187)
[48] البداية والنهاية – (13 / 192)
[49] البداية والنهاية – (13 / 192)
[50] البداية والنهاية – (13 / 196)
[51] البداية والنهاية – (13 / 207)
[52] البداية والنهاية – (13 / 208)
[53] البداية والنهاية – (13 / 209)
[54] البداية والنهاية – (13 / 213)
[55] البداية والنهاية – (13 / 229)
[56] البداية والنهاية – (13 / 234)
[57] البداية والنهاية – (13 / 236)
[58] البداية والنهاية (13 / 233)
[59] تاريخ ابن الوردي (2 / 189)
[60] تاريخ ابن خلدون (3 / 535)
[61] تاريخ ابن خلدون (3 / 536)
[62] تاريخ ابن خلدون (3 / 537)
[63] تاريخ ابن خلدون (3 / 538)
[64] تاريخ ابن خلدون (3 / 540)
[65] تاريخ ابن خلدون (3 / 541).
[66] لاحظ كيف استعان بوش الابن حين الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2004م بالأكراد والشيعة كما فعل هولاكو تماما!
image23414.jpg
[67] وهو ما فعله تماما جيش الاحتلال الأمريكي حين أذن باستباحة بغداد ونهبها للمليشيات الشيعية.
[68] تماما كما حدث في الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث تم حماية الأقليات الدينية، واستبيحت دماء الأكثرية، وبلغ عدد القتلى والمهجرين من العرب السنة الملايين!
[69]وهي المناطق نفسها التي لم تتعرض في الاحتلال الأمريكي للعدوان، ولم يتم استباحتها بأمان أمريكي، إلا ما كان فيها من محلات وقرى سنية مقاومة!
[70] تاريخ الإسلام للإمام الذهبي – (48 / 34- 39)
التعليقات مغلقة.