الدروشة السياسية واستمرار الاستحمار، أو القابلية لشراء الأوهام
لا زال النظام يبيع الأوهام، ولا تزال بضاعته رائجة، تجد من يشتريها ويجري وراء سرابها. هذه النفسيات هي نفسها التي كانت تعتقد في الرجل الفذ والزعيم الملهم، أي الرجل الصنم المُخَلّص، وعاشت دهرا في حضن عالم ثنائي، يشخص العظمة في الأفراد المتغلبين، والشيطنة في أكباش الفداء المتهاوين، فتوهموا من جهة ان بومدين فريد زمانه وصدام عظيم قومه وجمال عبد الناصر هرم الامة ومنقذها، وما إلى ذلك من أصنام هدهدت مخيلة وحياة الكثير من الخلق في الوطن العربي، كما وقعوا في فخ تشخيص الشر في أشخاص بعينهم، بما يسّر عملية التلاعب بمن رضي لنفسه شخصنة الخير\ الشر، فصرف نظرهم عن جوهر المعضلة. ومثلما حكموا الناس من خلال صناعة الصنم\الزعيم\الرجل المنقذ، استطاعوا أيضا الالتفاف على غضب الجماهير بالتخلص من أكباش فداء، للاستمرار بنفس منظومة الحكم مع التضحية، بمن تم شيطنتهم وتلطيخ سمعتهم بصورة دراماتيكية، وإيهام الناس بأنهم يجسدون الشر المطلق وأن الحل يكمن في ضرورة التخلص منهم، دون أن يكلف القوم أنفسهم عناء التفكير، وإدراك أن هذه الأصنام المعبودة والشياطين الملعونة، ما هي إلا أوثان، من مخلفات نظم حكم فاسدة، الواجب محاربتها والتخلص منها، لإقامة نظم مستدامة تقوم على قيم ومبادئ، قابلة للتحقيق والمساءلة، لا تخضع للأشخاص والأوثان.
وبمكر كبير رسخ النظام هذه العقليات الوثنية، وباع صنم بومدين، وصنم الاشتراكية خيار لا رجعة فيه، وصنم أبو الجزائر قايد صالج، وبالمقابل، حرّض الشعب ضد من وصمه بالشر المطلق، على غرار مصالي الحاج قبل حتى استقلال البلاد، وكل من عارض جيش الحدود ودولة العسكر بعد 62، ثم التضحية بالأمين العام لجبهة التحرير مساعدية بعد احداث اكتوبر 88 للالتفاف على مطالب الجماهير المنتفضة، ثم شَخَص الشر بعد انقلاب يناير 92 في الإسلام السياسي الفائز في انتخابات ديسمبر 91، ودفع بالشعب في حرب قذرة، أهلكت الحرث والنسل، من أجل تخلصه من خيار الشعب وحقه في الحرية والكرامة، ثم في أوج حراك الشعب، لخص لشر في توفيق وطرطاق واويحى وحداد والشلة المنهزمة في صراع العصب، فوجد كالعاد من يلتقف هذه الخديعة، للالتفاف على المطلب الذي خرج يطالب به المواطنون منذ 22 فبرار 2019، “دولة مدنية دولة لحق والقانون”، واليوم من جديد، تلقي السلطة بـ”بشيطان” آخر الجنرال بوعزة الواسيني، كان قبل قليل وثنا مبجلا يرتعد منه الجميع، بل ومؤلها، قبل أن تدور الدائرة، فتحوله إلى مفسد متهاوي. ومثلما حوّلت من قبل وثن آخر، الجنرال الهامل، إلى شيطان يرجم ومسجون ذليل، تكرر اليوم، العملية، فتلقي بالواسيني بين انياب المواطنين.
ما لم يفهمه البعض للأسف (أو ربما لا يريدون فهمه بالنسبة للبعض الآخر لحاجة في نفسه)، أن القضية لم تكن، اليوم ولا البارحة، ولن تكون غدا، قضية اشخاص مفسدين يُعتقلون، تحت أضواء الكاميرات في إخراج سينمائي، ولا في استبدالهم بأشخاص “مصلحين، منقذين” (قبل أن تدور عليهم الدائرة)، بقدر ما تتعلق بالتأسيس لدولة العدل والقانون، تسمو فوق الأشخاص واليافطات، وما لم ندرك بأن الموضوع لا يتعلق بصلاح أشخاص أو فسادهم، وإنما بمنظومة حكم فاسدة مفسدة وجب استبدالها بأخرى تقوم على الشفافية والمساءلة والحرية بما تضمنه دولة القانون، ما لم يتم ذلك ستستمر للأسف رياضة بيع الأوهام والزعماء والأوثان، وتقابلها رياضة أخرى، تصنع شيطان للرجم، وصد انظار المواطنين عن جوهر المأساة التي تسعى السلطة بكل ما تملك، التملص منها، ترغيبا وترهيبا، مكرا و شراء الذمم، وبيع الأوهام، لمن توفرت فيهم القابلية لشرائها.
د . رشيد زياني شريف
التعليقات مغلقة.