فضائح “الصندوق الأسود” في الجزائر تشعل الصراع بين الرئاسة والمخابرات

290

تقول بعض الأخبار إن وزير الطاقة الجزائري السابق، شكيب خليل، الذي كان واحدا من أقوى الوزراء في الجزائر خلال عشر سنوات الماضية، فرَ (أو بالأحرى تم تهريبه) من الجزائر بعدما باع أكثر ممتلكاته. ولم تصدر في حقه مذكرة توقيف بسبب تورطه في ملفات فساد بأرقام خيالية إلا متأخرة، وتزامن “تهريبه” مع عملية سطو على مكاتب مجلس قضاء الجزائر العاصمة وسرقتهم لبعض ملفات الفساد الثقيلة.

وقد ثارت هذه الزوابع وانتشرت أخبار الفساد بشكل غير مسبوق بعد فتح التحقيقات القضائية (الأجنبية خصوصا) في إيطاليا، كندا، والولايات المتحدة الأمريكية، حول صفقات مشبوهة تورط فيها وزير الطاقة السابق (رجل بوتفليقة وابن بلدته، شكيب خليل) وبعض كبار المسؤولين السابقين في شركة النفط المملوكة للدولة (سوناطراك)، وهي واحدة من أكبر وأغنى شركات البترول العالمية.

ولا تزال فضائح الفساد تتوالى وتهز كيان وتضرب مصداقية شركة سوناطراك البترولية، الشركة الأولى في أفريقيا، ومصدر 98٪ من إيرادات الجزائر، وبالتالي، تربك وتقلق جناح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

وفي هذا يرى “حسين مالطي”، أحد مؤسسي شركة سوناطراك وخبير نفط عالمي ومؤلف كتاب التاريخ السري للنفط الجزائري، أن هذه الملحمة السياسية والمالية لا علاقة لها بعملية تنظيف وتطهير المؤسسات الإستراتيجية من الفاسدين والمرتشين، قائلا: “استخدمت قوى الحكم المتصارعة قضايا الفساد لتحويل السلطة من جناح إلى آخر، ذلك أن جهاز الاستعلامات والأمن (المخابرات) تولى إحكام قبضته على قطاع النفط، وهذا تحت سيطرة دائرة الرئيس إلى وقت قريب”.

ويستدرك موضحا: “وأما اليوم، فإن جهاز المخابرات يريد إضعاف دائرة الرئيس بوتفليقة في ضوء الانتخابات الرئاسية القادمة في العام 2014”.

وقد اعترف أحد المقربين للرئيس بوتفليقة في حديثه مع صحيفة “لوموند” الفرنسية، قائلا: “في قصر المرادية الرئاسي، لا أحد ينكر وجود صراع موازين القوى.. والمشكلة أن الجيش (العسكر) ينسى أيضا أنه استفاد من الصندوق المالي الأسود. ويمكن للمرء أن يتحدث عن عقود وعقود من النهب”.

* المال السياسي وقود الصراع على الحكم:

منذ “انتخاب” عبد العزيز بوتفليقة على رأس نظام الحكم في الجزائر، حدث نوع من إعادة هيكلة ما يسمى بـ”الدولة العميقة”، واخترقت التغييرات الدائرة الداخلية للسلطة، ليس لمجرد وجود رئيس محنك دبلوماسي عارف بخبايا الحكم، ولكن أيضا للظروف الأخرى المجتمعة التي تهيأت له، ولعل أهمها وفرة المال بشكل غير مسبوق، إلى جانب غياب أهم أركان النظام (بالموت) وشيخوخة كبار القادة العسكريين.

ويبقى السؤال مطروحا بإلحاح: هل يعقل أن يتضخم دور “المافيا” المالية وتأثيرها بلا إسناد ولا شراكة ولا توظيف من داخل النظام؟

“المافيا” المالية في الجزائر بلغت ذروة تأثيرها في سنوات التسعينيات من القرن الماضي على يد مراكز السيطرة الأقوى حينها (العسكر السري والعلني)، وتشكلت في تلك الآونة قبل أن يُؤتى بالرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة على رأس السلطة السياسية، الذي عمل على الحد من طغيانها، وصنع له حاشية وولاءات من كبار العسكريين وغيرهم لإحداث قدر من التوازنات الملحة.

لكن ما كان له أن يدير تركة سنوات الجمر ويُمكن محيطه من إنتاج طبقة جديدة من المترفين والأثرياء ويتدخل في شؤون كبار قادة الجيش، لولا تمكنه إلى حد ما من توظيف الأموال الضخمة من واردات النفط (أو ما يسمة بـ”الصندوق الأسود”، بمعنى أنه واجه المجموعات المتنفذة بسلاحها الفتاك وهو المال، وكان في هذا سخيا وبارعا ومحظوظا بارتفاع أسعار النفط، خاصة وأنه لم يكن مسؤولا أمام أي مؤسسة أو جهاز عن إدارته لعائدات البترول الخيالية.

وعلى هذا، يمكن اعتبار الوفرة المالية بمثابة قوة الرئيس الحقيقية في إدارة التوازنات الداخلية، من دون منازع ولا رادع، بالإضافة إلى الموازنة العامة للدولة، وخاصة ما تعلق منها بـ”صندوق النفط الأسود” الذي كان تحت إشراف وزير الطاقة السابق المثير للجدل، شكيب خليل، حيث شكلت صادرات الهيدروكربونات السلاح الفعال وغير الشفاف والحاسم في الصراع على المواقع والنفوذ والسيطرة وفي معركة الاصطفاف وكسب الولاءات.

فكان وزير الطاقة السابق (شكيب خليل مستشار سابق في البنك الدولي)، أمين الرئيس على هذا الصندوق، وقد تعرض لهجمات مبرمجة ومنظمة لزعزعته وإرباكه من بعض أجهزة السيطرة المنافسة، وكان أكثرها تأثيرا ملف فضائح الفساد المالي لشركة “سوناطراك” (الشركة الحكومية للطاقة)، والتي تمول أكثر من نصف ميزانية الدولة وتنتج 98 بالمائة من صادراتها، وما ارتبط بالغموض المريب في التوظيف وتسيير الصفقات الضخمة والمشاريع، إلى أن نُحي عن الوزارة في صفقة مريبة لا يزال يكتنفها كثير من الغموض بين مختلف أركان النظام.

في هذا الصراع المرير على السلطة، كان للعوامل الخارجية أهمية خاصة وربما دورا حاسما، خاصة مع ارتفاع أسعار النفط والموارد الهائلة التي تلت ذلك والعقود الكبيرة المبرمة، مع كل ما يقتضيه ذلك من تشكيلة لجان مشتركة مع أجانب وإقامة علاقات مع جهات خارجية فاعلة.

وقد عزز تعيين شكيب خليل على رأس وزارة الطاقة وكذا صداقات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الخارجية الممتدة من بروز طرف جديد، بدأ يلقي بثقله على المشهد السياسي في الجزائري منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ممثلا في الأمريكيين، الذين حسموا موقفهم في الأخير لصالح الرئيس بوتفليقة.

ومن جانب آخر، تمكن الرئيس الجزائري من تقليص الدائرة الأولى للحكم، هذا في الوقت الذي انضم فيه موالون ووافدون جدد، ومنهم رجال أعمال، إلى ما دون ذلك من دوائر السلطة، ولكنهم ينشطون تحت قيادة الرئيس وشقيقه ومستشاره الشخصي، سعيد بوتفليقة، في حين قلَ التغلغل السياسي لمراكز السيطرة الأقوى نفوذا في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، مع الاحتفاظ بقوة التأثير في ملف الإرهاب والصحف وعدد من الأحزاب السياسية وجماعات الضغط المالية وكذا بعض الثقل في الشؤون الخارجية.

وفي كل هذا، فإن المال هو الذي أدار (ويدير) شؤون السلطة والبلاد خلال سنوات حكم الرئيس بوتفليقة. فالمال هو صانع السياسات والولاءات والتكتلات والاصطفافات وبه يُشترى البرلمان وتعالج به الاحتجاجات والإضرابات وحالات السخط والتذمر الاجتماعي، وقد تمكنت السلطة من شراء الصمت الاجتماعي لأجل غير مسمى.

وسارع الرئيس بوتفليقة لوضع خطة خاصة درءا لأي تهديد بالثورة ومنعا لتوظيف الغضب الشعبي، فيما استهدفت التدابير الاجتماعية الجديدة التأثير في الشرائح الاجتماعية الأوسع، والانفتاح النسبي الحذر في مجال وسائل الإعلام، خاصة في قطاع السمعي البصري على لا يُرخص إلا للقنوات الفضائية الجديدة “المستقلة” الموالية لمحيط الرئيس أو “المأمونة الجانب”، والسماح بنشاط سياسي في حدود معينة وخاضع لرقابة الأجهزة، وتدابير أخرى من هذا القبيل.

لكن حتى وإن بدا شمل “العائلة” المالية والسياسية التي احتضنت وغذت أو ارتبطت بشكل أو بآخر بما سماه رئيس الحكومة الجزائري السابق، أحمد أويحيى، بـ”المافيا المالية، المسيطرة على الاقتصاد المحلي، ملتئما ومصطفا مع الرئيس، دون إغفال بعض “المقاومة” و”الاستماتة” من قوى منافسة، إلا أنه من المؤكد أن أزمة الخلافة (مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في العام 2014) سوف تشعل خلافات سياسية مؤجلة ويشتد التنافس بذلك بين أبناء “العائلة”، كل يريد الاستئثار بحصة الأسد في تركة الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، وظهر هذا في الانقسامات الصاخبة داخل جبهة التحرير الوطني، الحزب الذي حاز الأغلبية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ويحظى بدعم الرئيس بوتفليقة، وبشكل أقل حدة في التجمع الديمقراطي الوطني الذي يرأسه الوزير الأول.

من سيحسم الأمر على مستوى “العائلة السياسية والمالية الحاكمة” استعدادا للانتخابات الرئاسية القادمة، ولصالح أي طرف؟ قد تظهر بعض المؤشرات في قادم الأيام ترفع قدرا من اللبس والغموض، لكن سيكون للرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، إذا تمكن من الحفاظ على قوة نفوذه وتأثيره في شؤون “العائلة” الحاكمة والمنتفعة فيما تبقى له من فترة حكمه، الدور الأبرز في ترجيح كفة أحد الأطراف المتنافسة على خلافته.

والمرجح، على الأقل استنادا للتقديرات الحالية، أن لا يكون للمعارضة السياسية أي تأثير محوري في تحديد الرئيس القادم، فالانتخابات البرلمانية الأخيرة أظهرتها عاجزة منقسمة غير قادرة على المنافسة ولا هي مستعدة أصلا لتبني نهج معارض حقيقي يُعلي من شأن التوافق على خط سياسي مؤثر وجدير بالثقة الشعبية، بعيدا عن حرب الزعامات والمواقع وطغيان الحسابات الضيقة.

http://alasr.ws/articles/view/14178

التعليقات مغلقة.