د. الطيب برغوث | السنن أو القوانين الثلاثة في وفاة الشيخ سعيد رمضان البوطي
إن مكانة الشيخ سعيد رمضان البوطي في نفوس أجيال الأمة، وتأثيره فيها ماضيا وحاضرا ومستقبلا، أكبر من أن تصفها أو تحيط بها الكلمات . وإن فضله على الصحوة الفكرية والروحية والاجتماعية المتوازنة للأمة، أكبر من أن تصفها أو تحيط بها الكلمات أيضا . وإن موته بهذه الطريقة المفجعة، أكبر كذلك من أن تصفه أو تحيط به الكلمات، وخاصة إذا صدرت من محب مصدوم بل ومفجوع بالمأساة التي يعيشها المجتمع السوري عامة، وبالخسارة الكبيرة التي منيت بها أجيال الأمة بموت هذا الإمام الكبير من أئمة الربانية والهداية الشرعية المتوازنة في هذا العصر، ولذلك عندما وقع نظري على خبر اغتياله انفجرت دموعي من أعماق أعماق نفسي، وانحبس لساني، حتى خافت زوجتي علي، ولم أستطع أن أفصح بسرعة عما حدث لهول الوقع على نفسي، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله على ما أعطى وعلى ما أخذ، واللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، وتغمده برحمته التي وسعت كل شيء، وعوض الأمة عنه خيرا ، فقد ثلمت بموته ثلما عظيما، كما قال الحسن البصري رضي الله عنه وهو يصف ما يحدثه موت العلماء الربانيين من فراغ في حياة الأمة: ” موتُ العالِم ثلمه في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اطرد الليل والنهار ” ، لأن العلماء الربانيين نسخ فريدة غير مكررة، وخاصة في روح المعرفة ومنهجيتها، وأخلاقياتها الروحية والسلوكية، وإشعاعاتها الاجتماعية، التي هي لبُّ المعرفة وليس كثرة هذه المعلومات والمعارف فحسب، فليس كل مستبحر في المعلوماتية عالما أو عارفا، بل العالم والعارف الحقيقي هو من ملك ناصية المنهج وأوتي البصيرة والحكمة فيه، وانعكس ذلك على حياته الفكرية والروحية والسلوكية والاجتماعية، وثبت على ذلك ولقي الله عليه . والحكمة كما يقال تعني الوعي بما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وهي مطلب عزيز يؤتيه الله تعالى لمن رسخت أقدامه في علوم الهداية والخلافة، وصدق مع الله في خدمة المجتمع والأمة والإنسانية، ولذلك جاء في القرآن: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ )( البقرة: 269 ) .
والشيخ سعيد رمضان البوطي رحمه الله، في مقدمة من تنطبق عليهم صفة العالم الرباني حقا، بغض النظر عن الجدل القائم حول مواقفه السياسية عامة، وموقفه من المأساة السورية الحالية خاصة، ومسايرته للنظام الاستبدادي الغشوم الذي حكم المجتمع السوري عقودا متطاولة من الزمن، سكن فيها الخوف والرعب واليأس من التغيير نفوس الناس، وجنحت فيها جمهرة العلماء إلى المسايرة للأوضاع، طلبا للسلامة حينا، وتأمينا لطريق الدعوة والتربية والإصلاح الاجتماعي الطويل النفس حينا آخر، وحماية لطاقات المجتمع والصحوة من الاستنزاف والتدمير أحيانا أخرى، وقد كان الشيخ البوطي تغمده الله برحمته الواسعة، من هؤلاء الذين خبروا الحقيقة والطبيعة الاستبدادية الدموية غير العادية للنظام ، فعملوا على مهادنته وافتكاك بعض المساحات البسيطة للحرية الدعوية والتربوية والاجتماعية منه من ناحية، والبعد عن المثيرات المباشرة المستفزة لطبيعته الدموية التي قد تأتي على الأخضر واليابس، إذا ما شعر بأن هناك شيئا ما يهدد سلطانه ووجوده .
ونحن وإنا كنا مع حركة تغيير الأوضاع الاستبدادية، وعدم منح القوى الاستبدادية المتخلفة، أمانا وراحة واطمئنانا، يزيدها قوة ونفوذا وتوحشا وغطرسة، وإمعانا في احتقار الأفراد والمجتمع والأمة، وانتهاكا لحقوقها، وهدرا لشروط ومقدرات وفرص النهضة الحضارية على الأمة، بل لا بد من مناجزة هذا الاستبداد الوبائي المتخلف، باعتباره في طليعة المنكرات والكبائر والأوبئة النفسية والفكرية والحضارية الخطيرة، التي يجب تقويض أركانها وتخليص المجتمع منها ، وتطهير النفوس والمجتمعات من أوزارها الفتاكة، ولكن بالطرق السلمية الأكثر مشروعية وقانونية، والأقوى فعالية، والأقل تكلفة، حتى لا تعطى لهذه الأنظمة المستبدة الفرصة للتنكيل بالمجتمع ونخبه الرسالية، باسم حماية أمن ومصالح المجتمع العليا ! الذي يُرفع عادة في وجه كل حركة مناصحة أو تغيير أو إصلاح جاد في المجتمع، وكأن أمن وحقوق ومصالح المواطنين ليست من أمن المجتمع ومصالحه العليا ! مع أن حرمة المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا كما جاء في الحديث الصحيح .
ولعل مما يجب الانتباه إليه جيدا في الموقف من الأنظمة الاستبدادية، هو أن من طبائع هذه الأنظمة، المراهنة على القوة في قمع خصومها ولو أدى ذلك إلى انهيار الدولة وخراب المجتمع ، فالطبيعة أو الروح الاستبدادية تملك قدرات غير طبيعية في التدمير الشامل لخصومها، كما يؤكد ذلك النموذجان الليبي والسوري في مناهضة التغيير والإصلاح السلمي، حيث ذهب النظامان بعيدا في المحافظة على الوضع القائم، على حساب تاريخ المجتمع وحاضره ومستقبله، وجرِّ خصومهما إلى الساحات التي تمتلك فيها هذه الأنظمة عبقرية لا تضاهى، وهي ساحات العنف والقوة والدمار الشامل، حيث تُكسر شوكة الخصوم ويدمَّر وجودهم، ويهدَّم المعبد على رؤوس الجميع كما يقال، دون أن يرقبوا إلا ولا ذمة في تاريخ المجتمع أو حاضره أو مستقبله .
فالاستبداد كائن شرس الطباع، لا دين له ولا خلق ولا أصدقاء، يدور مع مصالحه وامتيازاته المكتسبة حيث دارت، ويستخدم من أجل المحافظة عليها كل من أمكنه استخدامهم من نخب فكرية أو سياسية أو اجتماعية، فإذا انتهت مهمتهم، أو تعارضت مواقفهم مع مصالحه ووجوده، لفظهم وضحى بهم مهما كانت مكانتهم أو قيمتهم، وأحيانا يذبحهم ويمشي في جنائزهم، ويذرف عليهم دموع التماسيح !
ونعتقد بأن الشيخ البوطي كان مستوعبا لهذه الطبيعة الاستبدادية المتوحشة للنظام السوري، بل ومسكونا بها، إلى درجة يبدو أنه قد اعتقد منذ البدء بأن نتيجة الصراع معه محسومة لصالحه سلفا، وأنه من الحكمة والمصلحة عدم إعطائه الفرصة ليستنفر خبرته بل وعبقريته وشراسته الاستبدادية غير الطبيعية ليهدِّم المعبد على ساكنيه ، فاجتهد في تجنيب المجتمع والصحوة هذه النتيجة المروعة، خاصة وأن فقه تغيير المنكر يسعفه، ليس برؤية نظرية مؤصلة فحسب، بل وبمؤيدات تاريخية وواقعية مستفيضة، تؤكد خضوع حركة التغيير لسلطة منطق المآلات ، كما نلمس ذلك في مثل هذه القواعد: ” لا يشرع تغيير المنكر إذا أدى إلى منكر أكبر منه ” و ” درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” ومنظومة كبيرة من النصوص التي تؤصل لطاعة الحاكم والتحذير من خلع طاعته، ناهيك عن مناجزته، وإن كان فاسقا أو متغلبا أو ظالما أو مستبدا ..! ” فسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم ” كما نسب ذلك إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه ! في سياق منطق درء الفتنة والمحافظة على الأمن الاجتماعي العام، بالرغم من المخاطر البعيدة المدى التي تنجم عن منطق السكوت عن الاستبداد والمشاركة المباشرة أو غير المباشرة في التمكين له، واستشراء أوبئته الفتاكة في النفوس والعقول وأنظمة المجتمع والدولة، حيث يعتبر القرآن ذلك هو جوهر الفتنة التي تجب مقاومتها وتخليص المجتمع والعالم من شرورها: ( وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ )( البقرة : 191 ). فتنة الحقرة ومصادرة الحقوق والحريات الفردية، والاستئثار بخيرات المجتمع، وهدر مقدراته، وكبح أو إجهاض نههضته الحضارية، والمنِّ بالفتات على أهل الولاء والطاعة، وبتقسيط الخوف والرعب على بقية عباد الله في المجتمع، واعتبار ذلك من مكرمات الحاكم بأمره، التي يجب على ” شعيب لخديم ” أن يلهج بحمده عليها بكرة وأصيلا !
وقد أدى طول أمدِ الصراع الدموي في سورية، واتساع وتعقد نطاق مضاعفاته المأساوية، وتدويل الصراع، وتحويل المجتمع إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية، إلى تعزيز وجهة نظر الشيخ البوطي المحورية في عدم الاقتراب من ساحات القوى المدمنة على الاستبداد، لأنها لا تتردد في الفتك بخصومها، والتنكيل بكل من لهم شبهة العلاقة بهم، بكل ما أوتيت من جبروت وقوة . وهي وجهة نظر ليست بسيطة، بل لها عمق شرعي ومؤيدات تاريخية وواقعية كما أسلفنا، مهما اختلفنا معها، ومنطق الاعتبار يقتضي شمولية وموضوعية الانفتاح على الأبعاد المختلفة للقضايا والمواقف، وعدم الانحباس في بعض الأبعاد والارتهان لها .
والدروس البليغة، في مواقف الشيخ البوطي رحمة الله عليه، وفي وفاته غير الطبيعية، كثيرة جدا، ليس هذا مقام الوقوف على بعضها، ولكن نكتفي بثلاثة دروس أساسية منها، هي خلاصة مفصلية لتفسير أساب كل المآسي التي حدثت في تاريخ الأمة، وما تزال تحدث، وستظل تحدث ما لم نستوعب هذه الدروس جيدا، ونعيد صياغة حياتنا كلها على ضوئها، وهي:
الدرس الأول: ويتلخص في أن التمكين للاستبداد في أي مجتمع من المجتمعات، بشكل مباشر أو غير مباشر، يعد قاصما محوريا حاسما، لظهر المستبد ومشايعيه والمجتمع عامة، وهو ما حذر منه القرآن في قانون من أخطر قوانين ضعف المجتمعات وسقوط الحضارات، ألا وهو قانون السكوت عن الظلم وتركه يستشري في المجتمع، ويقوض مقومات القوة والمنعة الذاتية فيه، فقال تعالى: ( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )( الأنفال : 25 ) . وفي السنة النبوية أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال مؤكدا لنفس القانون: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، و لتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم )( صحيح الترمذي برقم/ 2169 ).
إن الشيخ البوطي ، ذهب ضحية الاستبداد الوبائي المستشري في الأمة، من حيث أنه رحمه الله حرصَ أمدا طويلا على مهادنة هذا الاستبداد، والتفرغ للعمل الفكري والتربوي والاجتماعي، أملا في تهيئة الشروط النفسية والروحية والفكرية والاجتماعية، الكفيلة بتجفيف منابع صناعة هذا الاستبداد، ومداواة المجتمع من جراثيمه الوبائية الخطيرة، والتخفيف من سطوتها الكابوسية على نفوس الناس ومقدرات المجتمع والأمة، فكان مصيره أن ذهب ضحية هذه المسايرة وهذه الرغبة العميقة في الإصلاح الاجتماعي الآمن، البعيد عن المواجهة والعنف المنهك والمهلك للمجتمعات . ولكن الاستبداد لم يع هذا الهدف النبيل، ولم يمهل الشيخ رحمه الله ليبلغ بالإصلاح الآمن غايته .
الدرس الثاني: ويتمثل في ضرورة توسيع نطاق المشاركة المجتمعية في بناء المؤسسات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية الجدية، المقاومة لجراثيم الاستبداد في الفكر والأسرة والمدرسة والدعوة والمجتمع والدولة . فالتجارب المستفيضة تثبت لنا كل يوم بأن الجهد الفردي مهما كانت عبقريته، يظل محدود الفعالية في مواجهة هذا البلاء الجرثومي الفتاك، الذي يستحوذ على مصادر القوة المادية والعسكرية والقانونية في المجتمع والدولة، ويستخدمها للاستغوال على المجتمع واستضعافه والاستخفاف به . ولذلك فإن محاصرة هذا البلاء الوبائي والحد من أخطاره، لا تتحقق بالشكل المطلوب إلا بمجتمع مدني أو أهلي أو دعوي مؤسسي تكاملي قوي، يقوم بالدور الوقائي الاستراتيجي ابتداء، وبالدور النقدي التصحيحي الآني المقاوم بشكل دائب ومستمر، في ظل مؤسسات الدولة والدعوة والمجتمع .
والمأساة السورية تقدما درسا بليغا في مجال محدودية الجهد الإصلاحي الفردي، متجليا في تجربة الشيخ البوطي رحمه الله، الذي حاول من جهته استثمار هامش الحرية الدعوية التربوية في خدمة المجتمع والدولة والدعوة، وحاول النظام من جهته استثماره لصالحه في صراعه الوجودي مع خصومه، أو على الأصح مع المجتمع عامة، فلما وصل الموقف بهما نهاية الطريق، لم يتوانى النظام في التضحية بقامة ضخمة من قامات الدعوة والتربية والسلوك في العالم الإسلامي المعاصر، ولم تشفع له مواقفه المسايرة له . وحتى لو فرضنا بأن القوى المناهضة للنظام هي التي قامت باغتياله، فإن النتيجة واحدة، فهو ضحية من ضحايا جرثومة الاستبداد الوبائي الذي قاد المجتمع إلى هذا الاهتلاك الذاتي المهلك، ولو أن القوى الحية في المجتمع، بكل أطيافها واتجاهاتها الفكرية والعقائدية والسياسية والاجتماعية، تكاملت جهودها منذ وقت مبكر في مقاومة الاستبداد ومحاصرته، لما وصل المجتمع إلى هذا المنحدر الخطير في الصراع الاهتلاكي الذاتي المريع .
الدرس الثالث: ويتمثل في ضرورة الوعي بالمعادلة أو السنة التي تقوم عليها حركة الحياة بشكل مطرد، وهي ” معادلة أو قانون المدافعة والتجديد ” . فالمدافعة محرك مركزي مطرد لحركة التاريخ ، كما جاء النبيه إلى ذلك في القرآن: ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )( الحج : 40 ) . بل يذهب القرآن بعيدا في التنبيه إلى شمولية تأثير هذا القانون في الحياة: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )( البقرة : 251 ).
وما لم يع الناس أبعاد هذه المعادلة أو السنة ويوفروا شروط الاتجاه بها نحو المدافعة التنافسية التكاملية البناءة، فإن أوضاعهم ستتجه حتما – كما هو الحال – نحو المدافعة التنافرية الاهتلاكية الهدمية المنهكة والمهلكة . فما جرى ويجري وسيجري في تاريخ الأمة والعالم، من صراعات مهلكة، وانهيار دول وخراب مجتمعات، وسقوط حضارات، هو ترجمة لعدم الوعي الشمولي التكاملي بهذه المعادلة أو السنة الاستخلافية المطردة في حركة الحياة ، ومنطق اللوم أو التبرير أو الإدانة أو الارتباك والحيرة والانتظار لا يجدي نفعا في هذا المجال، لأنه مناقض لمنطق التاريخ وسننه، القاضية بتجديد الوعي بشروط ومستلزمات توجيه حركة المدافعة الثقافية والاجتماعية والحضارية الجارية في العقول والنفوس والمجتمعات، نحو آفاق المدافعة التنافسية التكاملية البناءة، المتحركة نحو أهداف وطنية أو قومية أو إنسانية مشتركة .
وكما أسلفت فإن توجيه حركة المدافعة الثقافية والاجتماعية والحضارية باتجاه التنافسية التكاملية البناءة، والابتعاد بها عن التنافرية الاهتلاكية الهدمية، يستلزم دولة قوية بالحق والقانون والكفاءة الخدمية والإدارية الاستراتيجية، ومجتمعا قويا بوعيه بواجباته وحقوقه، وبغنى حسه الوطني أو القومي أو الإنساني، ومعبَّئا ومنظما ومحرَّكا بشكل فعال، لمواجهة الانحراف والفساد والضعف والقصور، في الدولة والمجتمع معا، بشكل لا هوادة فيه، لا يتيح أية فرصة أو إمكانية لظهور مستبد أو مفسد فردي أو عائلي أو جهوي أو طبقي فيه . وهذه هي الوظيفية المركزية لقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام، لو عرف المجتمع والدولة كيف يستثمرانه بشكل فعال في حركة البناء والتجديد الاجتماعي والحضاري المبدع من ناحية، وفي حركة الوقاية الاستراتيجية لنهضة المجتمع من ناحية أخرى .
إن مأساة اغتيال الشيخ البوطي، والتدمير الخطير للمجتمع السوري، والإضرار بباقي المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى الحبلى بأجنة بل وفيروسات القابلية للفتنة والاهتلاكات الذاتية المنهكة، لا تجد تفسيرا استشرافيا سننيا متوزنا لها، إلا بالوعي الشمولي التكاملي المتوازن ” بمعادلة أو قانون المدافعة والتجديد” ، والتحكم في شروط التحرك بها نحو المدافعة التنافسية التكاملية البناءة، والبعد بها عن المدافعة التنافرية الاهتلاكية المنهكة، أو على الأقل التقليل من الشحنات المحركة لها نحو هذه الوجهة السلبية المضرة .
والملاحظ في التاريخ الإنساني عامة، أن كثيرا من المجتمعات هي التي تصنع المستبدين وتمكن لهم، وتدفع بهم إلى مقام الفراعنة، من خلال العنف الأسري، والعنف المدرسي، والعنف الاجتماعي ، والعنف والتزلف السياسي، والعنف والتزلف الفكري والإعلامي، وغفلة جماهير المجتمع عامة، والقوى الحيوية فيه، عن دورها ومسئولياتها تجاه الشأن العام، بل وانسحابها من ذلك، وانطوائها على نفسها ومصالحها الخاصة، وترك المجال فسيحا للقوى الانتهازية لتصنع المستبدين وتسلطهم على المجتمع ومقدراته، ولو أن هذه القوى الاجتماعية الخيِّرة قامت بدورها ومسئولياتها تجاه الشأن العام، ونافست على ذلك وصبرت واحتسبت، لما تسلَّق سلمَ المسئوليات الفكرية والاجتماعية والسياسية الخطيرة في المجتمع، ضعيف أو مريض أو انتهازي أو مفسد، ولما عانى العباد الأمرَّين من ذلك، ولما تعرَّضت هذه المجتمعات إلى كل هذه الأخطار المهلكة . فالمآسي والمصائر المفجعة التي تمر بها المجتمعات البشرية، هي نتيجة طبيعية لتصدر الضعفاء والانتهازيين مقامات الصدارة الفكرية والاجتماعية والسياسية، وانكماش وانسحاب أهل المقدرة والكفاءة من ساحات المنافسة، فتتجه الأوضاع نحو الفساد والضعف والاختلال، وهو ما حذرت منه السنة النبوية في حديث له دلالات سننية عميقة في هذا المجال، وهو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( فإذا ضُيِّعَتِ الأمانةُ فانتظِرِ الساعةَ . قال : كيف إضاعتُها ؟ قال : إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظِرِ الساعةَ )( البخاري برقم/59 ).
وأخيرا فإنه وبالرغم من كل التساؤلات التي يطرحها موقف الشيخ البوطي رحمه الله في المحنة السورية، والألم النفسي المبرح الذي يسكن قلوب كثير من محبيه في العالم الإسلامي من جراء هذا الموقف المساير للنظام الاستبدادي، فإن الجهاد الفكري والتربوي للرجل يعلو على كل ذلك، وسيظل ينير الطريق للأجيال، ويهديها إلى الوسطية السننية المستنيرة في الفكر الإسلامي المعاصر . ونحن نشعر بعمق بأن صرحا من صروح الرشد الفكري والتربوي والدعوي قد هوى وترك فراغا لا يسده غيره، كما أسلفنا، لأن العلماء الربانيين يتميزون ويمتازون بالفرادة وعدم التكرر . فرحم الله الشيخ سعيد رمضان البوطي، وغفر لنا وله، وتغمده برحمته الواسعة، وعوض الأمة عنه خيرا .
الدكتور الطيب برغوث
مؤسسة السننية طريق النهضة الحضارية
http://www.facebook.com/mountada.aldirassat
إضغط هنا لقراءة تعقيب د. رشيد زياني شريف على مقال د. الطيب برغوث
التعليقات مغلقة.