بَعْثُ أمَّةٍ وَعَبَثُ أُمَمٍ

61

بَعْثُ أمَّةٍ وَعَبَثُ أُمَمٍ

مِحَنٌ تتلوُهَا مِحَنٌ، وَإِحَنٌ تَتَلاَطَمُ عَلَى خريطتِنَا العَرَبِيَّةِ وَالإِسْلاَمِيَّةِ تَلاَطُمَ الأَمْوَاجِ العَاتِيَةِ على وَجْهِ مُحِيطٍ غَاضِبٍ. لاَ تَنْفَكُّ هَذِهِ الأهْوَالُ تَتعَاقبُ عَلى قوَارِبِ نَجَاةِ أمَّتِنا تَعَاقبَ الليلِ وَالنَّهَارِ، وَلمْ يَبْقَ لأُمَّتِنَا مِنْ حِيلةٍ سِوَى أنْ تَتَعَلَّقَ قلوبُ أفْرَادِهَا وَشعُوبِهَا مِمَّنْ مَسَّهُمُ الضُّرُّ إِلاَّ أنْ تَرْتَفِعَ أكُفُّهُمْ بِالضَّرَاعَةِ إِلَى مَنْ لَهُ المُلكُ وَالأمْرُ، فَإِنَّ مِحَنَهَا التِي عَزَّ فِيهَا النَّصِيرُ لاَ يَكْشِفُهَا إِلاَّ مَنْ يَسْمَعُ وَيُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ.

هَذِهِ اِنتفاضَة القدْسِ لمْ تَنْطَفِئْ وَمَا زَادَهَا العُدْوَانُ عَلَى غَزَّةَ وَالْحِصَارُ الآثِمُ الذِي ضَرَبَتْهُ دُوَلُ الْجِوَارِ إِلاَّ صَلاَبَةً وَجُوداً بِالشُّهَدَاءِ، وَهَذِهِ ثَوْرَةُ اليَاسَمِين أزَاحَتْ طاغِيَة لمْ تَخْبُ إِلاَّ بِدُسْتُورٍ تَعَاوَنَتْ فِيهَا قُوَاهَا الحَيَّةُ عَلَى الأَخْذِ بِزِمَامِ المُبَادَرَةِ فِي ظِلِّ تَآمُرٍ دَوْلِيٍّ َوإِقْلِيمِيٍّ يُنْذِرُهَا وَلاَ يَزَالُ بِكُلِّ مَا يُحْذَرُ وَيُخَافُ، وَهَذِهِ لِيبِيَا يَنْزَاحُ عَنْهَا طَاغِيَةٌ وَلَا َتزَالُ دِمَاءُ أَبْنَائِهَا ناَزِفَة، وَتَدَخَّلَ الأجَانِبُ فِي أمُورِهَا بِمُقَابِلٍ سَخِيٍّ مِنْ ثَرَوَاتِهَا وَهِيَ البَلدُ الغَنِيُّ الفَقِيرُ، وَهذِهِ أرْضُ الكِنَانَةِ يَتَآمَرُ فِيهَا الخَوَنَةُ فَيَبِيعُونَ الْبِلاَدَ وَالشَّعْبَ وَثوْرَةَ الكَرَامَةِ وَالشُّهَدَاءَ بِإِسْقَاطِ رَئِيسٍ مُنْتَخَبٍ وَيُنَصِّبُونَ عَمِيلاً لِلْأَمْرِيكَانِ وَالصَّهَايِنَةِ رَاعِياً لِمَصَالِحِ أسْيَادِهِ وَوَأْدًا لِمَشْرُوعِ نَهْضَةٍ لَطَالَمَا حَلَمَ بِهِ الَأحْرَارُ وَدَفَعُوا لِأَجْلِهِ دِمَاءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ لَهُ ثَمَناً، وَغَيْرَ بَعِيدٍ هُنَاكَ تُسْفَحُ الدِّمَاءُ الطَّاهِرَةُ بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَى أرْضِ سوُرِيَا الْحَبِيبَةِ، وَيَصْلَى شُرَفَاؤُهَا فِيهَا وَيْلاَتٍ جَيْشٍ يُوَجِّهُ البَنَادِقَ وَبَرَامِيلَ المَوْتِ وَالدَّمَارِ نَحْوَ صُدُورِ الأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ وَالأَبْرِيَاءِ بَدَلاً مِنْ تَوْجِيهِهَا نَحْوَ الْعَدُوِّ الإِسْرَائِيلِيِّ الغَاصِبِ.

وَلَوْ نَظَرْنَا إِلىَ أفْغَانِسْتاَنَ فَحِكَايَةُ الْحَرْبِ فِيهَا لَمْ تَنْتَهِ مُنْذُ عُقُودٍ مِنَ الزَّمَنِ حَتَّى نَشَأَتْ عَلَى أَرَاضِيهَا أَجْيَالٌ لاَ تَعْرِفُ لِلسِّلْمِ مَعْنَى، وَيَعِيشُ فِيهَا المُسْلِمُونَ عَلىَ وَقْعِ القنَابِلِ وَالبَنَادِقِ يَتَنَفَّسُونَ فِيهَا دُخَانَ الدَّمَارِ وَالْحَرْقِ تَنَفُّسَ غَيْرِهِمْ لِلْهَوَاءِ، وَقَرِيبًا مِنْ جِوَارِهِمْ يَعِيثُ الرُّوسُ فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ فَسَاداً، فَبَعْدَ تفَكّكِ الاِتِّحَادِ الرُّوسِيِّ الشيُوعِيِّ صَارَ المُسْلِمُونَ كَلَأً مُبَاحاً لِحُكُومَةِ بُوتِين َورَهْطِهِ المُفْسِدِينَ يَنْقَادُونَ لِهَوَاهُ اِنْقِيَادَ العَبِيدِ لِمَنْ يَشْتَرِيهِمْ وَلَا ِبأَقَلَّ مِنْ عُشْرِ الأُرْشِ، وَحَدِّثْ عَنِ الْعِرَاقِ مَنْ لَهُ كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ فَسَتَجِدُ الآلاَمَ أَكْبَرَ مِنَ الوَصْفِ وَأَكْثَرَ مِنَ الْعَدِّ وَأَشَدَّ عَلَى الْغِلاَظِ الشِّدَادِ مِنَ العُصْبَةِ أولِي القُوَّةِ، يَمُوتُ عَلَيْهَا مَنْ كَانَ لَهُ قلبٌ حُزْناً وَهُوَ كَظِيمٌ.

حَدِّثْنِي يَا صَدِيقُ عَنْ بِلاَدٍ تُشْرِقُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ بِخَيْرِ اللهِ تعَالىَ وَلاَ تَغِيبُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ إلاَّ بِشرُورِ مَنْ أَبْغَضُوا دِينَهَا وَكَرِهُوا وُجُودَهَا وَتَطَاوَلوُا عَلَى مُقدَّسَاتِهَا، فَصَارَتْ إِلىَ حَالِ مَنْ يُصَارِعُ الأَمْوَاجَ وَهُوَ إِلىَ الغَرَقِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلىَ النَّجَاةِ، وَبَعُدَتْ عَلَيْهَا الشُقَّةُ فَرَجَتِ الخَيْرَ مِنْ حَيْثُ تَكُونُ المَعَاطِبُ، وَلمْ يَزَلْ بِهَا الخَوَنةُ ظَالِمِينَ مُعْتَصِمِينَ بِحَبْلٍ مَنْ أقَامَهُمْ حُكَّاماً لاَ يَزِيدُونَهَا إِلاَّ اِمْتِهَاناً وَدَمَاراً كَأَنَّمَا تَوَلَّوْا عَنْ عَدُوِّهَا مُهِمَّة َإِبَادَتِهَا بِأَسْرَعَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ سُنَنُ قِيَامِ الأُمَمِ وَانْدِثاَرِهَا.

يَحْدُثُ هَذَا عَلَى خَرِيطَةِ وُجُودِ أمَّتِنَا، وَتُطَالِعُنَا أَخْبَارُ هَذِهِ الأيَّامِ بِهُجُومٍ عَلىَ المُسْلِمِينَ الأَفَارِقَةِ فِي بَلَدٍ يُعْرَفُ عَنْهُ اِسْتِعَانَتُهُ بِفَرَنْسَا الصَّلِيبِيّةِ وَبِجُيُوشِهَا التِي لاَ تُحْسِنُ قَتْلَ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، وَلاَ تَدْرِي تَوْجِيهَ الأسْلِحَةْ إِلاَّ فِي نُحُورِ قَوْمٍ خَرَجُوا مِنْ ظَلَامِ الشِّرْكِ إِلىَ أَنْوَارِ التَّوْحِيدِ… قَوْمٍ قَالوُا رَبُّناَ اللهُ فَتَتَحَرَّكُ مِيلِيشِيَاتُ المُعْتَدِينَ الَكفَرَةِ وَتُبِيدُ خَضْرَاءَهُمْ، وَالمُسْلِمُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مُنْشَغِلوُنَ غَيْرَ آبِهِينَ.

أَلَيْسَ لِهَذَا الإِرْثِ مَنْ يَذُبُّ عَنْهُ؟ أمَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ نَصِيرٍ؟

قدْ عَلَّمَتْنَا تَجَارِبُ التَّارِيخِ أَنَّ هَذِهِ الأُمَّة َمَنْصُورَةٌ بِالقِلَّةِ وَبِالإِيمَانِ وَبِتَوْحِيدِ كَلِمَتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ اِنْتِصَارَاتُهَا العُظْمَى عَلَى العُدَاةِ بِقِلَّةٍ آمَنُواْ وَتاَبوُا وَعَمِلوُا وَتَوَحَّدَتْ صُفُوفهُمْ فَصَارُوا فِي عَيْنِ أعْدَائِهمْ مَرْهُوبِينَ يُصَالَحُونَ عَلىَ شُرُوطِهِمْ وَيُلْتَمَسُ الاِكْتِفَاءُ ِبعَهْدِهِمْ علَى حَرْبِهِمْ، وَبِالجِزْيَةِ عَنْ مُنَافَحَتِهِمْ، وَبِالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِمْ عَنِ التَّظَاهُرِ بِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ.

وَكَمَا اِنْتَصَرَتْ أَجْيَالُ دِينِهَا العَظِيمِ الخَالِدِ بِهَذِهِ الصِّفاَتِ فَإِنَّ تَوَالِي الأَهْوَالِ عَلَيْهَا تَمْيِيزٌ لِلْخَبيثِ مِنَ الطَيِّبِ فِيهَا، وَلاَ يَزَالُ قَضَاءُ اللهِ تَعَالَى جَارِياً بِاتِّخاَذِ الشُّهَدَاءِ وَتَمْحِيصِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى تَرْتَفِعَ أَكُفُّ الاِسْتِغَاثَةِ صَادِقَةً إِلَى اللهِ تَعَالىَ، وَحِينَ يَشْتَدَّ البَلاَءُ وَيَعْدَمَ العَوْنُ وَتَضِيقَ الأَرْضُ بِمَنْ عَلَيْهَا وَتَزِلَّ الأَقْدَامُ بَعْدَ ثبُوتِهَا يَنْزِلُ قضَاءُ اللهِ تَعَالَى سَاعَةَ إِذَا بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ. فَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَمَالَ عَنْ عَهْدِ الوَفَاءِ فَحَيَاةُ ذُلٍّ وَحِسَابٍ يَنْتَظِرُهُ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ نَعِيمٍ كَاذِبٍ، وَأَمَّا مَنْ وَفىَ وَأقَامَ عَلىَ العَهْدِ صَادِقاً فَإِمَّا إِلىَ النَّصْرِ فَوْقَ الأنَامِ وَإِمَّا إِلَى اللهِ فِي الخَالِدِينَ.

الأستاذ الزاهري

التعليقات مغلقة.